نحو تصوّرٍ عامّ ليسارٍ عربيٍّ جديد
* شريف يونس
طال وقوفُ اليسار العربيّ عند مفترق الطرق. فهو، بعد زمن صعوده المشهود من الأربعينيّات إلى السبعينيّات، وفي بقاعٍ عربيّةٍ مختلفة، يعيش غروبًا طويلاً لم تتوقّفْ فيه عمليّاتُ النقد والنقد الذاتيّ على أيدي أجيالٍ جديدةٍ تدين القديمَ وتنادي بكفاحيّاتٍ أخرى. إنّ تاريخ اليسار هو تاريخُ صراعاته، خصوصًا في غروبه الطويل، حول أسئلةٍ من نوع: ما هو برنامجُه؟ ما هي قضيّته المحوريّة؟ مع مَن يتحالف؟ أيّة نظريّةٍ يبني عليها مشروعَه السياسيّ؟ ما موقفُه من تيّارات اليسار في العالم؟
هذا الملفّ الذي تفتحه الآداب مناسبةٌ جديدةٌ لعمليّات إعادة التفكير والنقد المتتالية هذه. والفكرة الجوهريّة التي يساهم بها هذا المقالُ هي محاولةُ وضع شروقِ شمس اليسار وغروبِه في سياقٍ أعرض، هو سياقُ التحوّلات الأساسيّة في المنطقة. وبسبب تفاوت مستوى إلمامي لا غير، سينصبّ هذا الاستعراضُ على مصر أساسًا، مع بعض إشاراتٍ إلى بلدان المشرق العربيّ، مبنيّةٍ على تصوّر وجود درجاتٍ من التشابه في السياقات. ومن خلال هذا التحليل يهدف المقالُ إلى تقديم تشخيصٍ لطبيعة الأزمة، واقتراح شيءٍ بشأن المستقبل.
ولكنْ بدايةً يجب أن أحدّدَ ما أعنيه بـ “اليسار” ليصبحَ المقالُ مفهومًا. اليسار، في عرفي، هو اليسار الماركسيّ وبعد الماركسيّ. التعريف، إذًا، يستبعد التيّاراتِ القوميّة، الناصريّةَ والبعثيّةَ وما يشْبهها، وإنْ كانت تنادي بإصلاحٍ اجتماعيّ أو عدالةٍ اجتماعيّةٍ ما، مصحوبيْن بموقفٍ مُعادٍ للاستعمار، وقدْرٍ يزيد أو ينقص من العَلمانيّة. ولكنّ البرهنة على معقوليّة هذا التعريف ليست موجودةً في هذا المقال إلاّ بشكلٍ جزئيّ، ومن خلال التحليل التاريخيّ الآتي.
أ) تشكّل اليسار العربيّ وسياقاته
جاء اليسارُ العربيّ من العالم الحديث وتحوّلاته، قبيْل الحرب العالميّة الثانية وأثناءها وبعدها، أساسًا. فقد شهدت الثلاثينيّاتُ والأربعينيّات تبلورَ ثلاث قوًى عالميّةٍ كبرى: الليبراليّة الرأسماليّة، والفاشيّة (ومعها النازيّة)، والشيوعيّة السوفييتيّة (ولاحقًا الصينيّة). هذه التيّاراتُ الثلاثة الكبرى تركت انعكاساتِها على مختلف بلدان العالم. وبشيءٍ من التبسيط نقول إنّ الليبراليّة في البلدان العربيّة الأكثر تقدّمًا كانت مذهبَ الأعيان على اختلاف تجمّعاتهم المتصارعة؛ وكانت الفاشيّةُ من نصيب قطاعاتٍ مهمّةٍ من الطبقة الوسطى الجديدة الصاعدة (الإنتليجنسيا، أي المتعلّمين تعليمًا حديثًا عمومًا)؛ وكانت الماركسيّة خيارَ قسمٍ من هذه وبعض أطراف الطبقة العاملة الصاعدة.
وكانت لكلّ فكرةٍ من هذه الأفكار الثلاث رؤيتُها الخاصّةُ إلى القضيّة المحوريّة آنذاك، ألا وهي قضيّةُ التحرر الوطنيّ من الاستعمار. وبنوع من التبسيط، قالت الفكرةُ الليبراليّة إنّ التحرّر نهضةٌ علمانيّةُ الطابع بصفةٍ عامّة، قائمةٌ على المشروع الخاصّ، الملتبسِ بالعلاقات شبه الإقطاعيّة التي كان الأعيانُ حماتَها الرئيسيين. وقالت إنّ الاستقلال يتحقّق من خلال نوعٍ من التحالف الوطنيّ العامّ بقيادتهم، يتولّى الضغطَ على الاستعمار من أجل الوصول إلى تفاهمٍ يُسْفر عن الجلاء، ويستبقي في الوقت نفسه العلاقاتِ مع ما أصبح يُعرف بـ “العالم الحرّ.” وقد نجح أعيانُ سوريا والعراق ومصر في تحقيق هذا النوع من الاستقلال بدرجاتٍ متفاوتة.
ولكنّ انقساماتِ الأعيان وتفاقُمَ المشكلات المحليّة أدّت في النهاية إلى خروج الطبقة الوسطى المتعلّمة عن سيطرتهم، لتتحوّلَ من حليفٍ وتابعٍ إلى عدّة تنظيماتٍ مستقلة. وكانت هذه عمومًا “أحزابًا إيديولوجيّةً،” أو تيّاراتٍ منظّمةً فى أحزابٍ وتجمّعاتٍ، قَدّمتْ في مجملها طبعةً متطرّفةً للوطنيّة، اتّهمتِ الأعيانَ بالتخاذل والتواطؤ، وأنكرتْ أن يُسمّى ما حصلوا عليه “استقلالاً.” أما فكرتُها الأساسيّةُ عن الاستقلال فدارت حول استرداد “هويّةٍ” فُقدتْ، أو أضعفها الاستعمارُ، أو هُدّدتْ، أو شُوّهتْ: هويّةٍ عربيّةٍ، شاميّةٍ (بالمعنى الواسع)، مصريّةٍ، إسلاميّة. والحقّ أنّ هذا التحوّل طبيعيّ؛ فالإنتليجنسيا هي في نهاية المطاف فئةٌ اجتماعيّةٌ وثيقةُ الصلة بالحداثة، وضروريّة، ولكنها تتغذّى على الشعارات العامّة بصفتها المنتجَ الأساسَ للإيديولوجيا، ولأنها ليست طرفًا رئيسًا في أيّ نمط إنتاج.
على هذا الأساس نشأتْ تنظيماتٌ تحمل طبعةً “هويّاتيّةً” من الفاشيّة (ولا أقصد أنّ هذه التيّارات فاشيّة، بل متأثّرةٌ بها): شعب واحد (عربيّ، مصريّ، شاميّ،…)، له طموحٌ واحدٌ وتاريخٌ واحدٌ، وبالتالي يجب أن يعبِّر عن هويّته هذه صوتٌ واحدٌ، صوتٌ “أصيلٌ”. وعلى الرغم من أنّ فكرة “الهويّة” هذه غربيّة، فقد قامت بالضرورة على ادّعاءٍ مطلقٍ بالأصالة، ينبذ الغربَ كثقافة. وتشمل هذه الفكرةُ الهويّاتيّةُ “حركة الإخوان” وما تفرّع منها، بقدر ما كانت بدورها باحثةً عن الأصالة. ويُمكن بالتالي القول إنّ هذه التنظيمات، على اختلاف رؤاها الهويّاتيّة، تشترك فى محوريّة فكرة الهويّة هذه نفسها، والتي عبَّر عنها شعارٌ عامٌ، مؤدّاه: فلنؤْمنْ بأنفسنا (دينِنا ـ والمقصودُ الإسلامُ وحده، والسُنِّيُّ بالذات ـ قوميّتِنا، ثقافتِنا، خصوصيّتِنا، حضارتِنا، رسالتِنا الخالدة، الخ)، متغذّيةً على النقد الفاشستيّ، وأحيانًا الشيوعيّ، للنظام السياسيّ الليبراليّ. وبطبيعة الحال، ومثلَ كلّ فكرةٍ عقائديّةٍ هويّاتيّة، كان المشروعُ استبداديّاً في صميمه؛ ففكرتُه هي تحقيقُ الحريّة، التي هي الأصالة، من خلال فرض المشروع الهوياتيّ.
أين كان اليسارُ في هذه الخريطة؟ كان اليسار يحمل قواسمَ مشتركةً مع كلا الفريقين. ففكرة اليسار أولاً عالميّة، تتحدّث عن تحرّرٍ طبقيٍّ عالميّ، وهي بالتالي ليست “هويّاتيّة” (دينيّاً أو عرقيّاً أو قوميّاً)، ومن ثم فإنها تضع نفسَها منذ البداية في توافقٍ مع الحداثة، وفي إطار مشروعٍ عالميّ نظيرٍ لعالميّة الرأسماليّة. إنها، في آنٍ معًا، فكرةٌ منفتحةٌ من حيث المبدأ كالليبراليّة، ومتشدّدةٌ في مواجهة الاستعمار كالهويّاتيّة. ولكنّ الاختلاف المهمّ الذي يميّزها عن الفريقين هو فكرةٌ تعبويّةٌ طبقيّةٌ في إطار المجتمع المدنيّ بالمعنى الهيجليّ. فاليسار كان، منذ البداية، مشروعًا لتعبئة الناس أنفسِهم، لا بالنيابة عنهم، وذلك من خلال منظّماتهم الكفاحيّة (نقابات، جمعيّات أهليّة، مجالس محليّة،…)، سعيًا إلى ملء المحتوى المجرّد، وبالتالي الفارغ، المسمّى “الشعب،” بأجسادٍ عينيّةٍ منظّمة. وهو يلجأ إلى الفئات الأرفع وعيًا وتنظيمًا (وهم أساسًا العمّال والمتعلّمون)، لا إلى الكتلة الأفقرِ والأضعفِ والأقلِّ تنظيمًا (كالفلاّحين) التي هي الزادُ التجريديُّ اللازمُ لكلّ هويّاتيّةٍ سلطويّةٍ، شعبويّةٍ بالتعريف: صوت مَنْ لا صوت له، شرطَ أن يبقى بلا صوتٍ خاصّ.
واقع الأمر أنّ المجتمع في البلدان العربيّة المذكورة لم يكن مهيّأً لسيادة تصوّر اليسار، من حيث قواه الإنتاجيّة وبنيته الطبقيّة وخبرته التاريخيّة (بما فيها التنظيميّة). فكان من الطبيعيّ أن تجذبَ هذه الأفكارُ شرائحَ محدودةً، هي أقليّةٌ مدينيّةٌ أساسًا. فليس مصادفةً أنّ المتعلّمين كانوا هم الأغلبيّة الساحقة في معظم التنظيمات الشيوعيّة، ومعهم قطاعٌ متقدّمٌ من العمّال. ومن هنا مالت الحركةُ الشيوعيّةُ إمّا إلى التحالف مع الأحزاب الليبراليّة، وإمّا إلى التحالف مع الشعبويّة الهويّاتيّة، والأخير غدا ميلاً متزايدًا. ولكنه في كلّ الأحوال تحالفٌ قلقٌ.
في التحليل الأخير كان ما قدّمته الحركةُ الشيوعيّةُ لتاريخ المنطقة شيئين. أوّلُهما فكرةُ النضالات الجماهيريّة المنظّمة، التي كان الشيوعيون أولَ مَن أدخلوها في بعض هذه البلدان (العراق مثلاً). والثاني، والأكثر دوامًا حتى الآن، هو العمقُ الفكريُّ للنضالات الجارية، ذاتِ الطابع العلمانيّ في عهد ما بعد الاستعمار (المتمثّلِ في صيغة “الاستعمار الجديد”)، وربطُ النضالات الاجتماعيّة بالنضالات الوطنيّة، الأمرُ الذي مَنح السياسةَ والثقافةَ العربيتين أبعادًا جديدة. وليس مصادفةً أنّ أحد أهمّ مجالات النفوذ الباقية لليسار هو المجالُ الثقافيّ، بالمعنى الأوسع للكلمة.
(ب) التحوّل الهويّاتيّ وتشكّلُ مأزق اليسار الحاليّ
كان التيّارُ الهويّاتيّ، الذي يقوم على عبادة الدولة، هو الذي تكفّل بتحطيم دولة الأعيان شبهِ الليبراليّة، ولو بأفكارٍ منقولةٍ، مع إعادة تكييفها، من اليسار (ولاسيّما في نقد الليبراليّة، وفي ما أصبح يُسمّى “العدالة الاجتماعيّة”). وضع أديب الشيشكلي (حاكمُ سوريا بين عاميْ 1949 و1954) نموذجَ العسكريتاريا الهويّاتيّة للمنطقة ككلّ، ليُحتذى تدريجيّاً في البلاد الأكثر حداثةً في المنطقة: مصر منذ العام 1952، وسوريا منذ العام 1963، والعراق منذ العام 1968. وبموجب هذا النموذج تمّ إغلاقُ المجال السياسيّ برمّته، لتصبح السياسةُ احتكارًا في أيدي حفنةٍ مدعومةٍ بجهازٍ أمنيٍّ قويّ. وقد عنى ذلك إغلاقَ المجال الضروريّ لفكرة اليسار التي تقوم على النضالات الجماهيريّة. ولأنّ هذا الإغلاق تمّ باسم “الشعب” (أعربيّاً كان أمْ قطْريّاً، لا فرق من زاوية نظرنا هذه)، فقد أصبحت السمةُ الثانيةُ لليسار، أيْ عالميّتُه، مبرِّرًا لإدانته: فهو “استعمارٌ ثقافيّ،” وهو “فكرٌ مستورَدٌ،” إلى آخر المقولات المعروفة التي تعرّض فيها اليسارُ لحملةٍ هي الأقذرُ في تاريخ “مكافحة الشيوعيّة” في المنطقة، سقط فيها ضحايا على يد البعث والناصريّة على السواء يفوقون كلّ ما سبق وتلا. ومن جهةٍ أخرى سَحبتْ “مكاسبُ الشعب” (كالتأميمات وسياسات الرعاية الاجتماعيّة) البساطَ من تحت أقدام اليسار، إذ نُفِّذتْ فى إطار فكرة هيمنة أجهزة الدولة المطلقة على الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
المهمّ بالنسبة إلى موضوعنا هو أنّ انتصار الهويّاتيّين غيَّر مجملَ السياق الذي يعمل فيه اليسار، بل تغلغلتْ آثارُه داخل اليسار ذاته. ويمْكنني هنا أن أقدّم صورةً أوضحَ لهذه الآثار من خلال استعراضٍ سريعٍ لتحوّلات الحركة الشيوعيّة المصريّة، التي أعرفها أكثر من غيرها.
مثلَ معظم التنظيمات الشيوعيّة العربيّة، أتى أكثرُ كوادر الحركات الشيوعيّة المصريّة في الأربعينيّات من صفوف المتعلّمين، ومن ثمّ لم يكونوا بعيدين اجتماعيّاً وفكريّاً عن تيّارات الهويّة. وكان استعدادُ الحركة الشيوعيّة للوقوع تحت تأثير النُّظُم الشعبويّة الجديدة قائمًا منذ ما قبل صعودها؛ وهذا ما نستشفّه من معالجة الشيوعيين المصريين للقضيّتين التنظيميتين المطروحتين منذ منتصف الأربعينيّات: “التمصير،” أي التخلّص من الكوادر الأجنبيّة التي لعبتْ دورًا أساسيّاً في تأسيس التنظيمات الشيوعيّة؛ و”التعميل،” أي التركيز على تجنيد الطبقة العاملة للتخلّص من سيطرة المتعلّمين على التنظيمات. وليس من باب المصادفة أنّ الشعار الأول تحقّق في النهاية، على الرغم من معارضة أصواتٍ كثيرةٍ بناءً على فكرة “أمميّة اليسار،” بينما لم يتحقّق الشعارُ الثاني.
غير أنّ الصبغة الهويّاتيّة لليسار تبلورتْ بتشكيل “الحزب الشيوعيّ المصريّ ـ الراية” عام 1950، بقيادة فؤاد مرسي وإسماعيل صبري عبد الله. فقد نجحا في جمع الشراذم المتمرّدة المنشقّة عن “حدتو” (التنظيم الشيوعيّ الأكبر في مصر)، باسم التمصير والتعميل و”النظرية الصحيحة،” وشكّلا تنظيمًا تميّز بأفكارٍ جديدةٍ تَصْلح في مجملها أساسًا للتقارب مع وطنيّةٍ شعبويّةٍ هويّاتيّة. فقد تبنّى أفكارًا نظريّةً جامدةً، لقيتْ قبولاً لدى كثير من الشيوعيين بفعل استشهادها المكثّف بنصوص لينين وستالين، الأمرُ الذي أوحى بأنها أفكارٌ “صحيحةٌ” من ناحية المرجعيّة. وتميّز التنظيمُ أيضًا بعبادة الفرد، إذ كان هتافُ أعضائه “عاش الرفيق خالد [أيْ فؤاد مرسي] ألفَ عام،” ورَفَضَ إلاّ في أضيق الحدود عضويّةَ النساء (لأسبابٍ أخلاقيّة!)، ورفض عضويّة الأجانب، محقّقًا بذلك شعارَ التمصير الذي كان هاجسَ المنشقّين عن حدتو، على الرغم من أنّ مؤسِّسَي الحزب حصلا على الدكتوراه من فرنسا، وكانا أثناء إقامتهما فيها عضويْن في الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ (أيْ من الأجانب)، وأغريا الأعضاءَ بالانضمام على أساس اعترافٍ أمميّ (أيْ على أساس اعتراف الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ بالتنظيم باعتباره التنظيمَ الشيوعيَّ “الشرعيَّ” في مصر).
وباختصار، فإنّ التقاليدَ المحافظة، والنزعةَ الوطنيّة، وعبادةَ الفرد، والجمودَ، كلّها عناصرُ جعلت تنظيمَ “الراية” قريبًا فكريّاً من تيّارات الهويّة. وكان من الطبيعيّ أن يترتّب على ذلك أن يَعتبر حزبَ الوفد العدوَّ الأول (على أساس فكرة خيانة البرجوازيّة “لمهامّها الوطنيّة”)، بينما قبِل، مثلاً، بالتحالف مع الإخوان المسلمين في نشاطٍ مشتركٍ ضدّ الضبّاط الأحرار عام 1954، قبل أن ينقلبَ بعد ذلك إلى تأييدهم. هذه العواملُ كلّها ـ بالإضافة إلى ضعف الطبقة العاملة موضوعيّاً، وهيمنةِ خطاب التحرّر الوطنيّ ـ تفسّر لماذا انتهت تنظيماتُ الحركة الشيوعيّة إلى تأييدٍ متزايدٍ للنظام الشعبويّ الذى أقامه الضبّاطُ الأحرار، بعد الإجهاز على المجال السياسيّ برمّته، وصولاً إلى قبول قيادات التنظيمين الشيوعيين الكبيرين (نسبيّاً) بحلّهما عام 1965.
القضيّة هنا ليست إدانةَ ذلك الحلّ، بل فهمُ منطق الحركة الكامن وراءه أو وراء التأييد. تدلّ كتاباتُ الحركة الشيوعيّة ومواقفُها آنذاك (مع تحفّظٍ جزئيٍّ من جانبي في ما يتعلّق بتنظيم “طليعة العمّال”) على أنها انقلبتْ إلى تأييد النظام الناصريّ بناءً على إنجازاته في مواجهة الاستعمار، وابتعادِه عن الولايات المتحدة، وتقاربِه من الاتحاد السوفييتيّ. وفي هذا السياق عملت الحركةُ الشيوعيّةُ على تهدئة النضالات العمّاليّة، ودفعِ العمّالِ إلى التعبير عن “مظالمهم” بالطرق التي يرتضيها النظامُ السلطويُّ الجديد، بما في ذلك الترحيبُ بإنشاء اتحادٍ عامٍّ للعمّال تحت هيمنة الأمن ـ وهو تطوّرٌ (كما هو واضح) لصيقُ الصلة بفشل التعميل وانتصار التمصير.
هذا لا يعني أنّ الناصريّة (أو أيّاً من التيّارات والتنظيمات القوميّة في البلدان العربيّة) قد ابتلعت اليسارَ تمامًا وألغت الفوارق. ففي ذروة التأييد، بل بعد حلّ التنظيمات، ظلّ الفارقُ الجوهريُّ قائمًا: الشيوعيون يحثّون النظامَ على أن يحوّل “اتحادَه الاشتراكيّ” إلى تنظيمٍ جماهيريٍّ تعبويٍّ فاعل، بحجّة أنه ضروريّ لحماية “الثورة” و”المكتسبات الاشتراكيّة”؛ في حين كان النظام، وهو أكثرُ درايةً بوسائل حماية نفسه، مصرّاً على إبقاء الجمهور في مقاعد المتفرّجين المصفّقين تحت القبضة الأمنيّة. وبدلاً من التعبئة، قدّم النظامُ أغانيَ واستعراضاتٍ و”مكاسبَ” على طريقة الأباطرة الرومان، “الخبز والألعاب،” وقمَع كلَّ المحاولات لتنشيط سياسةٍ جماهيريّة. هذا الاختلاف يفسِّر لماذا كان لا بدّ من تحطيم الحركة الشيوعيّة فى ذروة تأييدها للنظام.
كَرّس هذا النوعُ من التحالف ـ الخضوع فكرةَ اليسار كمنبرٍ ثقافيّ، أكثر منه قوةً سياسيّةًَ فاعلة. فاستعان النظامُ بمفكّري اليسار لتبرير وجوده وسياساته، بينما حَرم كوادرَه العماليّة من مجرّد فرص العمل و”أكل العيش،” وذلك في مشهدٍ مريرٍ ومزْرٍٍ. كان لسانُ حال النظام هنا: لا بأس من الشعارات والأفكار في إطار التأييد، ولكنّ الحركة السياسيّة المستقلّة للجماهير، ولو في إطار “الاتحاد الاشتراكيّ،” تظلّ هي المحظورَ الأكبر.
على الصعيد الفكريّ تمثّلتْ هذه الازدواجيّة العميقة في الحركة الشيوعيّة في فكرتين تبدوان متكاملتين. الأولى هي فكرة “تمثيل الشيوعيين للطبقة العاملة،” أو لتحالفٍ طبقيٍّ تقوده الطبقةُ العاملة. ووفقًا لهذه الفكرة يكون استقلالُ الحركة الجماهيريّة والقضاءُ على الاستبداد هما المهمّة الجوهريّة، باعتبار ذلك شرطًا ضروريّاً لبناء حركةٍ عمّاليّةٍ أصلاً، لا يمْكن أن تتكوّن إلاّ في مجالٍ سياسيّ. أما الفكرة الثانية فهي فكرةُ “المهامّ التاريخيّة”؛ وبحسبها، يعبِّر الشيوعيون عن اتجاه التاريخ نحو الاشتراكيّة، فالشيوعيّة، وفقًا لمراحلَ تتناسب مع تأخّر البلدان العربيّة ونقص تبلور تكوينها الرأسماليّ. وبتحديد “المهامّ التاريخيّة،” يصبح الشيوعيون، وهم أقليّةٌ سياسيّةٌ في كلّ الأحوال، مضطرّين، بشكلٍ أو بآخر، إلى تأييد “محقّقي المهامّ التاريخيّة،” ولو حقّقها مَنْ لا يرضوْن عنهم، بل ويقمعونهم أيضًا! ويكون عليهم فوق ذلك أن يفسّروا اتجاهَ “التاريخ” (وهو هنا نوعٌ من إلهٍ محتجِب) إلى تحقيق المهامّ على أيدي النظم العسكريّة الوطنيّة، فلجأوا إلى التبرير الفكريّ للنظام القائم.
وبالفعل كان ظهورُ نظمٍ عسكريّة، بعثيّةٍ وناصريّةٍ، إحراجًا قويّاً أجبر الحركةَ الشيوعيّة على رفع إحدى الفكرتين فوق الأخرى. فنحن أمام نظمٍ سلطويّةٍ “تحقّق المهامّ التاريخيّة،” ولكنْ من وراء ظهر الجمهور، أو بشرط رفض إخماد أيّ حركةٍ مستقلةٍ يقوم بها، وأيّ درجة من الاستقلال التنظيميّ عن أجهزة الأمن، بما في ذلك الطبقة العاملة. بين فكَّيْ كمّاشة “الاستبداد الوطنيّ” هذه، وهكذا تلاشت قدرةُ الحركة الشيوعيّة على ممارسة أيّ استقلالٍ فكريّ وسياسيّ.
لم تنحلّ المشكلة بظهور السياسات الساداتيّة. فما تمّت تسميتُه “الثورة المضادّة” لم يكن أكثرَ من امتدادٍ لهزيمة 1967 ولأزمة الاقتصاد السلطويّ القائم على التوازنات الاجتماعيّة. لقد بعثت “الردّة” تنظيماتٍ شيوعيّةً قديمةً، وأقامت أخرى مستجدّةً، ولكنها كانت ـ كما أوضحَتْ أروى صالح ـ تلعب على المسافة الفاصلة بين شعارات النظام وواقعه (مثلاً برفع شعار “حرب التحرير الشعبيّة” لإحراج النظام الذي يؤجّل الحربَ مع إسرائيل). بعبارةٍ أخرى، أصبحت الحركة الشيوعيّة أكثرَ “وطنيّةً” و”ناصريّةً،” على الرغم من إدانتها الجزئيّة لهذه الأخيرة، وعلى الرغم (أو بفعل) دخولها في مواجهةٍ مع وريث الدولة الناصريّة الشرعيّ. كذلك أصبحت الحركة في طورها الجديد أقلَّ اتصالاً بالطبقة العاملة، في ظلّ القبضة البوليسيّة المحْكمة للنظم الهويّاتيّة. لذا ليس من المصادفة أنّ اليسار كان نشطًا في “القضايا القوميّة” ضدّ نظام السادات ومبارك، ولكنه كان بلا دورٍ في الكفاح الطبقيّ، رغم قيام إضراباتٍ هائلةٍ في السبعينيّات، وانتفاضةِ الخبز في 18 و19 يناير 1977، وحتى لحظتنا هذه.
من جهةٍ أخرى، قدّمت الحربُ الأهليّةُ اللبنانيّة إغراءً قويّاً، إذ أتاحت لليسار المشْبعِ بالهويّاتيّة الاحتفاظَ بأجندته الوطنيّة الطبقيّة كما هي، بقدْرِ ما كانت ساحةً مثاليّةً لاندماج ما هو “تقدّميّ” بما هو “وطنيّ.” وعوضًا من النظم الهويّاتيّة التي خاب الأملُ فيها، أصبح الخروجُ على مبدإ الدولة مغْريًا في حدّ ذاته، وأصبحت الميليشيّاتيّة (التي تسمّى أحيانًا “ثقافة المقاومة”) المنارةَ التي تهْدي الضالّين. ولكنّ فكرة الميليشيا لم تكن أقلَّ توفيقًا في إقالة اليسار من عثرته من فكرة العسكريتاريا الدولتيّة. وسرعان ما اقتنصت الحركةُ الإسلاميّةُ الفكرة، لتواجه بعد عقدين المأزق نفسَه، مأزقَ اللاأفق، بالمعنى السياسيّ.
(ج) نحو سياسةٍ جديدةٍ لليسار
نأتي إلى الخلاصة: مثلَ النظم الهويّاتيّة، اصطدم اليسارُ المتزايدُ الهويّاتيّةِ بالحائط، حائطِ غياب الأفق. هذه الخلاصة ليست “إدانة” ـ وبصفةٍ عامّةٍ يبدو لي أنّ التخلِّى عن منطق الإدانة ضروريّ لفهم أيّة ظاهرة، ولإيجاد مناخٍ صحّيٍّ يتنفّس فيه اليسارُ بمختلف اجتهاداته. نحن إذًًا أمام تشكُّلٍ تاريخيٍّ لليسار، امتدّ بضعة عقود، بناءً على تطوّراتٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ شكّلتْ سياقاتِه ونطاقَه المحدّد من الخيارات، سواء من خلال طبيعة الكوادر المتاحة لبناء الحركة، أو طبيعة البنى الاجتماعيّة ما بعد الاستعماريّة، أو طبيعة الأنظمة السياسيّة التي وَجّهتْ إليه ضرباتٍ قاتلةً، أمنيّةً وإيديولوجيّةً على السواء.
المشكلة الجوهريّة التي تواجه اليسارَ الآن هي أنّ الزمن قد استدار مرةً أخرى، وأخذت الأسسُ التى انبنى عليها هذا اليسارُ، والنظمُ الشعبويّةُ التي كان استجابةً لها، تتآكل. والفكرة العامّة هنا هي أنّ موجة الهويّة الطويلة (من الثلاثينيّات وحتى الآن) تنحدر منذ السبعينيّات، ولو ببطء. فمبرِّراتُ وجودها، فضلاً عن تاريخها الخاصّ الذي تراكمتْ فيه الكوارثُ بأنواعها، وأزماتها الداخليّة المتفاقمة، وعدم مواتاة الأوضاع العالميّة (تضاؤل فرص اللعب على تناقضات المعسكرات العالميّة المتصارعة مثلاً)، كلُّ ذلك يشير إلى أنه قد آن الأوانُ لليسار أن يخلعَ بدوره أثوابَه القديمةَ التي ألبسته إيّاها ظروفُ تلك الموجة الطويلة. وبدلاً من أن يشاركَ الهويّاتيّين مصيرَهم، وهو الذي كان دورُه مجرّدَ مساعِدٍ وملقِّنٍ فكريٍّ معرَّضٍ لقمعٍ ضارٍ، فربما كانت الفرصةُ متاحةً لاستعادة القيم الكفاحيّة التعبويّة لليسار بعيدًا عن الصبغة الهويّاتيّة، في ظروفٍ أكثر مواتاةً، أو (من الناحية الفكريّة) استعادة وجهه التعبويّ الطبقيّ، وبالتالى ممارسته السياسيّة الكفاحيّة، والتخلّص من عقيدة “الرسالة التاريخيّة،” الجامدة والمؤدّية إلى تذيُّل اليسار لتيّارات الهويّة. كيف؟
أولاً تأتي أزمةُ اليسار في إطارٍ أعرضَ بكثير، هو أزمةُ السياسة عمومًا. فالحال أنّ اليسار ليس وحده الغائبَ، إذ أين هم الليبراليون أو المحافظون مثلاً؟ بل أين أحزابُ الهويّة نفسها… أقصد كأحزابٍ سياسيّةٍ لا كتنظيماتٍ رسميّةٍ يقال إنها تَحْكم؟ أين المجال السياسيّ الذي يتيح وجودَ هذه التيّارات؟ أنْ تُعتبر مؤسّساتٌ مثل الأحزاب الحاكمة “أحزابًا” لهو أمرٌ من قبيل التجاوز. ولواحقُها، من “جبهاتٍ تقدّميّةٍ” و”أحزاب شرعيّة،” ليست كياناتٍ تضع سياساتٍ أو تسيطر على الدولة أو تعمل بوسائلَ سياسيّة، بل هي أجهزةٌ مساعدةٌ لنظمٍ أمنيّةٍ في جوهرها، لا بمعنى القمع، ولكنْ بمعنى أنّ بنية النظام ككلّ تتمحور حول أجهزة الأمن باعتبارها الجهازَ السياسيَّ الحقيقيّ الذي يتّخذ القراراتِ المهمّةَ في كلّ المجالات، بما يَسمح ببقاء النظم الحاكمة والتوازنات التي تقوم عليها: من فضّ المنازعات الاجتماعيّة، إلى اقتراح السياسات الكفيلة بحفظ الأمن في الخارج أو الداخل، وفي التعليم والصناعة والصحّة وغير ذلك.
هذه الصيغة التي انبنت على الهويّاتيّة الشعبويّة تعاني أزمةً متفاقمةً وجوهريّة. كان نجاحُ النظم الأمنيّة في تأسيس نفسها وإدامتها يقوم، مع ذلك، على توتّر دائم بين الجهاز الأمنيّ (الجهاز السياسيّ للنظام) وبين مؤسّسات الدولة المختلفة ـ وزاراتٍ ومصالحَ حكوميّةً وجمعيّاتٍ أهليّةً ونقاباتٍ وغيرها. وهذه نقطة احتكاكٍ مستمرّة تثير ضيقَ الرسميين أنفسهم. نقطة الاتصال هذه هي نفسُها نقطة ضعف النظم الحاكمة، لأنه يصْعب تقنينُها، بما يصمها بصبغةٍ بوليسيّةٍ لا فكاكَ منها. وفي الوقت نفسه يَدفع نموُّ النظام إلى تقوية المؤسّسات الخاضعة، لأنها هي التي تقوم بالأعمال المختلفة. وبالتالي فإنّ نقطة ارتكاز النظام هي نقطةُ ضعفه أيضًا، والتي تزداد بالضرورة ضعفًا. ومن الناحية الخارجيّة، ومع سقوط الأنظمة الشموليّة عمومًا، ومع العولمة المتزايدة، أصبحت القمعيّة الهويّاتيّة في مهبّ رياحٍ متزايدةِ القوة، تمتدّ إلى الداخل. فمع الإنترنت والفضائيّات وهجرةِ العمالة، لم تعد هذه النظمُ قادرةً على احتكار المجال الإيديولوجيّ.
وفقًا لهذه التطوّرات المذهلة والنوعيّة، أصبح مشروعُ “تربية الشعوب” الشعبويّ محاصَرًا، وبات أكثرَ صعوبةً حصرُ شباب الطبقة الوسطى في شعارات الدولة، أو في أيّة عقائد جامدةٍ، دينيّةً كانت أو علمانيّةً يساريّةً من النمط العقائديّ (راجع مثلاً مناقشات التيّار الدينيّ على موقع “إسلام أون لاين”). كذلك أصبحت المجتمعاتُ أكثرَ تمدّنًا، وتزايدتْ كثافةُ منظّمات المجتمع المدنيّ، وإنْ في إطار الخضوع للديكتاتوريّة، وتضخّمت الطبقةُ العاملة. وعلى الرغم من كلّ الآثار السلبيّة المصاحبة لهذه العمليّات، فإنّ أسس إعادة فتح المجال السياسيّ تتدعّم باستمرار، وبالضرورة؛ أيْ ضرورة نموّ مؤسّسات الدولة.
باختصار، نحن نمرّ بفترة تحوّلٍ كبرى في الداخل والخارج، قوّتُها الدافعةُ هي العولمة، وما يواكبها من تغيّراتٍ في البنية الاجتماعيّة وآفاقِ النقاش السياسيّ المطروح وطبيعةِ الممكنات المتاحة. وإنّ تغيّر السياق، وفقًا لمنطق هذا المقال، يتطلّب تغيّرًا جوهريّاً في أجندة اليسار، وربّما في طبيعته. والفكرة المحوريّة هنا هي أنّ ما يأفل هو شمسُ اليسار الهويّاتيّ، أعربيّاً كان أم قُطريّاً، لأنّ عالمه نفسَه يتّجه إلى المغيب؛ وبالتالي فإنّ هذا هو أوانُ مراجعة مسلّماته، بحثًا عن لبناتٍ أولى لإعادة بناء اليسار على أسسٍ جديدةٍ وسط فوضى الانهيارات الشاملة. والمأمول أنّ اليسار، بصفته احتجاجيّاً ومستقبليّاً، هو الأقدرُ على أن يرى في انهيار عالمٍ قديم ما يستحقّ، على الأقل في جوانب منه، الاحتفاءَ، بدلاً من مشاركة الهويّاتيّة في البكاء على الأطلال، وأن يرى وسط آلام الفوضى والهزائم مخاضَ بنًى سياسيّةٍ وآفاقٍ جديدة. هذه هي على الأقلّ إحدى المزايا التي تستحقّ الاستبقاءَ من الماركسيّة بعد تخليصها من الهويّاتيّة التي أُقحمتْ عليها فى ظروفٍ تاريخيّةٍ تشهد لحظةَ أفولها.
صحيح أنّ صوتَ اليسار القوميّ عالٍ، ومازال يأمل في جمع جماهير غفلٍ حول “القضايا القوميّة” بالاعتماد على غرائز هويّاتيّة، و”يفكّر” بنمطٍ ميليشياويّ خارج فكرة الدولة أصلاً؛ ولكنه، مثلَ النظم السلطويّة وتيّارات الهويّة عمومًا، يواجه أزمةَ سقوط عالمه الهويّاتيّ، وتتناقص قدرتُه على التعبئة الشعبويّة، حتى حين وصلتْ تنازلاتُ بعض قطاعاته ومنظّماته إلى القبول بالعمل تحت جناح الإسلاميين، بل كمجرّد ظهيرٍ لهم.
بيْد أنّ القضيّة ليست مواجهة هذا التيّار (فالزمن كفيلٌ بذلك)، بل صياغة بعض مقترحات بشأن أسسٍ جديدةٍ لليسار تعيد إليه كفاحيّته الديمقراطيّة والشعبيّة (لا الشعبويّة)، وتقْلب التوازنَ الإيديولوجيّ ضدّ عقليّة “المهامّ التاريخيّة” وروحها. ويجب أن نشير هنا إلى أنّ هذا التصوّر المقترح يستحيل، بطبيعته ذاتها، أن يقدِّمَ وصفةً جاهزةً على النمط اللينينيّ، وإنما يقدّم توجّهاتٍ عامةً:
– الديمقراطيّة من أسفل: في مواجهة الليبراليّة الجديدة والهويّاتيّة عمومًا، ولكنْ أيضًا في مواجهة ازدواجيّة الثورة والإصلاح كإستراتيجيتيْن، قد يرى اليسارُ أنّ المطروح ليس رسمَ إستراتيجيّةٍ محدّدةٍ سلفًا، تتمّ الدعايةُ لها في الأوساط المرشّحة، من العمّال والطلبة وغيرهم، لتقام التحالفاتُ على أساسها، ولكنْ أن يكون اليسار عاملاً محفِّزًا وناقلاً للخبرات في مختلف النضالات الديمقراطيّة للطبقات والجماعات المضطَهَدة. على اليسار أن يساعد في تشكّل تنظيماتٍ طوعيّةٍ وتطوعيّةٍ في مختلف التجمّعات الاجتماعيّة، والمساهمة بالجهد في ما هو قائمٌ منها، وفي مؤسّسات الدولة (لا أجهزتها الأمنيّة) بغرض الضغط على المفْصل الضعيف في البنية السياسيّة الأمنيّة؛ أو إنشاء منظّماتٍ موازيةٍ مستقلّةٍ (ينشئها أصحابُ الشأن: مهندسون مثلاً أو عمّالٌ أو أطبّاء، لا أن ينشئها اليساريون بقرارٍ فوقيّ ثم يدْعون أصحابَ الشأن إلى دخولها).
ويقوم هذا التصوّر على أنّ قضيّة السياسة والسلطة لا يمْكن أن تُحسمَ على مستوى التحكّم من أعلى في جهاز الدولة، عن طريق ثورةٍ أو انقلاب، وإنما بتغيير الوعي العامّ من خلال تجربة ونضالات البشر أنفسهم الذين يعنينا تحرّرُهم وتحرّرُنا معهم. فالهدف ليس إنجازَ مجموعةٍ بعينها من السياسات (تأميمات مثلاً)، وإنما التنظيم الذاتيّ بغرض الضغط في إطار الصراع على موارد المجتمع.
– أخلاق النسبيّة والمبادرة: التخلّص من تقديس أيّة نظريّةٍ أو عقيدة، أو مفكّرين بعينهم، أو التنظيم نفسِه. فهذا الشكل من اللاهوتيّة لا يؤدّي إلى الجمود فحسب، بل أيضًا إلى توسيع إمكانيّات الصراع بين التنظيمات المختلفة، وإلى جعل إمكانيّة التحالف بين قوى اليسار عسيرةً. وفي المقابل يمكن أن تترابط قوى اليسار المتناثرة، فيما بينها، ومع قوًى ديمقراطيّةٍ أخرى، على أساسٍ تنظيميّ لا مركزيّ، هو عبارةٌ عن شبكةٍ من المنظّمات الأهليّة والسياسيّة والأعمال التطوعيّة، في مختلف المواقع (نقابات، جامعات، أحياء، منظمات أهليّة، لجان سياسيّة، صحف، دوريّات فكرية،…)، تحدّد نقاطَ الالتقاء بينها مبادئُ عامّةٌ، وتقوم أعمالُها المشتركة على مفاوضاتٍ وتنازلاتٍ وحلولٍ وسط، وتتعامل مع مبادرات الأفراد والجماعات بأفقٍ مفتوحٍ، وتقْبل بوجودٍ علنيٍّ لآراء أقليّةٍ أو أقليّاتٍ تدافع عن نفسها في كلّ موقع في الشبكة التي قد تربط منظّماتِ اليسار. وبالتالي تكون السياسة، لا النظريّة، هي أساسَ التنظيم السياسيّ حين يصبح قيامُه ممكنًا، أيّاً كان شكلُه.
– اليسار الديمقراطيّ والجمهور: في ضوء النقطتين السابقتين فإنّ اليسار الديمقراطيّ يُستبعد أن يطرحَ نفسَه على الجمهور كتنظيمٍ حديديٍّ يَعِدُ الجمهورَ بالنصر إذا سار خلفه، وفقًا لتكتيك “الانتشار من المركز.” ولا يَعتبر نفسَه الضمانة الوحيدةَ والأساسيّةَ لانتصار الديمقراطيّة من أسفل، وإنما يَطرح نفسَه كعاملٍ محفّزٍ ومساعدٍ منغرسٍ في ما يقوم به الناسُ أنفسُهم، أو ما هم على استعدادٍ للقيام به دفاعًا عن رؤاهم ومصالحهم. ومن هنا فإنّ دعاية اليسار قد تقوم على جمع مبادراتٍ جماعيّةٍ لها قدْرٌ من الاستقلال، والحثِّ على تعاونها في تنظيماتٍ أو شبكاتٍ أوسع بقدْر ما يكون ذلك مفيدًا للأطراف المتعاونة.
أخيرًا، ربما تجدر الإشارةُ إلى أن “الكفاحيّة من أسفل” تحت شعار “ديمقراطيّةٍ جذريّةٍ” تختلف تمامًا عن الفكرة الليبراليّة عن الحريّة. فعلى الرغم من أنّ الدستور الديمقراطيّ جزءٌ من آفاق تصوّرٍ كهذا، فإنّ هذا التصور يقوم أولاً وأساسًا على النشاط العامّ والمنظّم للطبقات والجماعات المضطَهَدة، وخصوصًا الأكثر فاعليّةً وتنظيمًا منها أو من قطاعاتها. وهو ما يقطع الطريقَ منذ البداية على معضلة العلاقة بين الديمقراطيّة والعدالة، التي نشأتْ من هيمنة السلطويّة الشعبويّة؛ فالعدالة هنا لا تنفكّ عن حيازة القوة السياسيّة بالمعنى الأوسع للكلمة.
قد يعني هذا التحوّلُ إتاحةَ الفرصة لليسار ليدافع عن برنامجه الكفاحيّ الأصيل واقتناعاته، فينتصر ويُهزم في معاركه الخاصة، بعد أن كان ينتصر ويُهزَم بالتبعيّة في معارك تيّارات الهويّة.
القاهرة
* كاتب من مصر.
مجلة الآداب » ٤-٥/ ٢٠١٠