أسئلة لبنانية خاطئة!
سليمان تقي الدين
لا يتوقف فريق من اللبنانيين عن إنتاج الشعارات الجذابة التي تأخذ الجمهور إلى اهتمامات غير واقعية حتى لا نقول وهمية. بعد شعار «العبور إلى الدولة» جاء شعار «حماية لبنان». لكن الأسئلة تتدحرج فوراً عن أي دولة وأي لبنان وأي خطر وأية حماية!؟ لا شيء من هذه العناوين والمفاهيم والقضايا يتفق عليها اللبنانيون. نعيد إنتاج الانقسام عمداً لأننا لا نحتكم للقواعد والمعايير التي صارت مرتكزات للاجتماع السياسي في عصرنا. لا يتقدم مشروع الدولة مع كل هذا الحجم من نظام الامتيازات والرؤى الطائفية المتناقضة. ولا يمكن التواطؤ على حماية لبنان ونحن نضمر هويات مختلفة له ونريده جميعاً على مقاس أفكارنا المسبقة عنه، مرة كملجأ ومرة كجوهر لا يتفاعل مع التاريخ ومرة كجزء من منظومة سياسية واقتصادية وثقافية لا تتفق مع مكوّناته ومركّباته. أما الخطر فتشخيصه ينطلق من مواقع سياسية مثقلة بالتصورات التاريخية أو بالمنطلقات الأيديولوجية، والحماية بداهة لا تتعدى هذه الضمنيات وهذه الخيارات.
الفكر السياسي اللبناني بمنوّعاته كان وما يزال منشغلاً بالبحث عن أوّليات تجاوزتها معظم شعوب الأرض لأنها تجاوزت النقاش حول أسس الدولة والوطن والوطنية التي تحدد سلفاً العدو والصديق انطلاقاً من هويتها الجماعية ولو كانت مركبة، ومن مصالحها العليا المحكومة أصلاً للمشتركات الإنسانية. على العكس من ذلك ما زلنا هنا نريد دولة بغلبة سياسية طائفية اجتماعية، ووطناً بهوية جزئية راجحة أو فئوية مهيمنة ونقصي من الهموم والاهتمامات الشأن الإنساني العام لصالح توطيد نظام
من التحكّم الاقتصادي والاجتماعي المتعاظم بصورة تسابق الخيال. لقد صارت الفوارق الاجتماعية هائلة ومولّدة لحال من الكراهية والعداء المرضي، ولو أنها تلبّست صورة الفاشيات والعنصريات الطائفية.
علينا أن نتوقف ملياً وبإمعان شديد أمام ظاهرات التنكّر لعاصمة الوطن وإعلان الغربة عنها، أو تحويلها إلى غيتويات للون معيّن من البشر بانتمائهم الاجتماعي أو الطائفي. ومن أكثر ما صار شائعاً في المنتديات على تعدد أشكالها الأسئلة التي لا نملك حقيقة أجوبتها عن مستقبل الجماعات المتراصة خلف سياج الخوف ومشاعر الغبن والحرمان والبحث عن المصير وسبل الحماية والقلق الأمني. المسألة باتت بهذا الحجم ولا تنفع معها إجابات بسيطة أيديولوجية أو تطمينية ساذجة عن أكذوبة العيش المشترك واحترام حدود الآخرين وحرياتهم. إذا كان هذا شأننا فكل خطاب مشروع وكل عنوان مثير للجدل وكل طرح مسموح وكل حقيقة نسبية وكل قضية خلافية!
ليس هذا الاضطراب أو الفوضى في التفكير تهويمات وهلوسات تنبع من تعدد الهويات الثقافية فقط، بل لأن هذه الهويات تتغذى من معطيات اجتماعية وسياسية تتجدّد عبر التاريخ اللبناني من غير أن تتكرّر تكراراً بسيطاً. لبنان هو صيغة تتجاور فيها الجماعات وتتفاعل سلباً وإيجاباً لكنها لا تعيش عيشاً واحداً. ما يجعل هذا الواقع المرضي المؤدي لعدم الاستقرار ممكناً هو «النظام» الذي يرعى هذه الصيغة من الوجود البشري ويحفزها على التنابذ بدل الوحدة.
تشكّل الثقافات ذات الجذور الدينية عوائق أساسية لأنها بطبيعتها حصرية، لكن النظام السياسي هو الذي يفعِّلها ويلهبها أحياناً كثيرة لتصير حروباً يختلط في دوافعها الوعي والمصلحة، العدوانية وروح الدفاع، الوهم والحقيقة. لعلنا المختبر الإنساني لكل المشكلات المعاصرة، الأزمات الاقتصادية، تجويف معاني الحرية والديموقراطية في عالم الهيمنة للأقوى، المحرّضات الاستهلاكية والمنبّهات الغريزية، فقدان الغذاء الروحي وتيبّس الفكر الديني، واضمحلال الفلسفة وتشظي المعرفة واستلابها، وفوق ذلك كله نظام الغلبة العالمي الإمبريالي المشفوع بنزعة استعمارية مفرطة في تجاهلها لقضايا الشعوب الضعيفة أو المستضعفة.
لبنان اليوم بلد المفارقات الصارخة العجيبة كما العالم العربي والعالم حيث تتمركز الثروة بشكل فجّ وفاجر ويتزايد الفقر والعوز بدون أية أشكال من الحماية. يتحدث الناس هنا عن ملايين الدولارات ثمناً لشقة سكنية في جزر الرفاه ويموت الناس على أبواب المستشفيات ويموتون أيضاً بالدواء الفاسد، وبالغذاء الفاسد والمياه الملوثة. دولة تسرق مواطنيها وتشد الخناق والأحزمة على الفئات المتوسطة المحدودة الدخل والفقراء وتمارس أشكال الهدر والبذخ والسرقة بلا حياء ولا تحسب أي حساب لمساءلة أو لتذمر أو شكوى أو احتجاج.
ليس ترفاً فكرياً أن نسأل عن مصير الجماعات أو الدولة أو الوطن، لكنه سؤال خطأ لن يؤدي إلا إلى نتيجة خاطئة. لن ننتج ثقافة نقدية تجاوزية للأزمات ما لم نعترف أن في روما غير القيصر، وفي الطوائف غير الزعماء، وفي الوطن غير الطوائف، وفي الطوائف غير الدين، وفي المجتمع غير النخبة، وفي السياسة غير الحروب والعنف، وفي العالم غير القوة. مشروع الأنسنة هذا هو نقيض التوحش الذي تديره طبقة سياسية عبر شريعة الغاب السائدة. مشروع الأنسنة حاجة لبنانية عربية عالمية.
لم يعد الإنسان المعاصر في منأى عن أي من المشكلات في أية بقعة من العالم. يتفاعل البشر، وهذه ميزتهم عن الحيوانات، مع كل مشهد أمامهم. كيف يمكن أن نعزل وجودنا عمّا يدور حولنا، وفي فلسطين نموذج، وفي تداعيات الصراعات الدولية، وفي القرية الكونية التي تحرّكها خيوط القوة الممتدة من قمم النظام العالمي ببُعده الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري والقيمي نموذج ساطع. في حضارة القوة هذه، في سباق التسلح، في جنون الصناعة والمنافسة من دون غايات إنسانية، في انتهاك الطبيعة وقتلها، في سيادة دين الربح والثروة كأعظم سلطة، هناك قيامة كبرى يمشي إليها العالم مليئة بالمآسي الجهنمية. ستة مليارات من البشر تدبّ على هذا الكوكب وهناك بضعة آلاف من الناس تعتقد أن مصير الكون متوقف على إحدى خطبها العصماء، أو على مصيرها الفئوي الصغير.
المنطقة من حولنا تغلي بالتناقضات والتوترات السياسية تكاد لا تحمي دولاً كبرى من الانكشاف، وإسرائيل تخوض معركتها الأخيرة لفرض خياراتها على الدمار والدماء ولا يتحسّب البعض عندنا إلى أن هذا الحريق هو جزء من تحديات وجوده ومصيره، ويريد أن يتقّي النار بعرزال من الخشب اليابس.