صبحي حديديصفحات العالم

تأبّط قطّة!

صبحي حديدي
جاء في أخبار الكونغرس الأمريكي أنّ عدداً من الأعضاء الديمقراطيين الذين صوّتوا لصالح قانون الرعاية الصحية الجديد، مشروع الإصلاح الأهمّ في برنامج الرئيس باراك أوباما، والعلامة المسجّلة لولايته الأولى بأسرها ربما، تلقوا رسائل تهديد من مواطنيهم المحافظين، الساخطين على القانون. وإلى جانب الرسائل الإلكترونية، وبعضها يحمل الإسم الصريح الفردي، أو اسم هذه المليشيات اليمينية أو تلك، جرى تحطيم زجاج النوافذ، وتلطيخ الأبواب، والعبث بالأملاك الخاصة، و… إلقاء القطط الميتة على العتبات!
أليس عجيباً أمر هذا التلازم بين الكونغرس، والسخط اليميني، والقطط؟
قبل سنوات عمد المواطن الأمريكي رسل وستون الابن إلى اقتحام مبنى الكابيتول، وبدأ بإطلاق النار ذات اليمين وذات الشمال، ثمّ قتل اثنين من حرّاس ‘بيت الشعب’ و’حاضنة الديمقراطية الأمريكية’، ولكن أحداً لم يفلح في تفسير خطوته الأولى الابتدائية: ذبح 16 قطّة في حديقة بيت الأسرة في فالمير، إيللينوي، قبل أن يتأبط غدّارة من طراز Smith & Weon، ويتجه صوب العاصمة واشنطن، لترويع السادة النوّاب والشيوخ ممثّلي الأمّة.
الأيام المتعاقبة، والتحليلات اللوذعية السيكو ـ سوسيو ـ سياسية، لم تكشف حتى اليوم طبيعة العلاقة بين القطط والسادة أعضاء الكونغرس، في المستوى الرمزي النفسي على الأقل، وداخل دماغ ذلك الأمريكي الذي تميّز غيظاً ذات ساعة قيظ، فأراق دم الحيوان قبل أن تسوقه سورة العنف إلى إراقة دم الإنسان. ‘مختلّ العقل’، يسارع الخبراء إلى القول. هذه نعرفها وحفظناها عن ظهر قلب، ‘ولكن لماذا مبنى الكابيتول بالذات؟’ يسأل الآخرون من غير الخبراء، ولا تسعفهم إجابة شافية. فريق ثالث قد يتهامس تأويلات من النوع التالي: إنها ‘ميليشيات مونتانا المناهضة للحكومة الفيديرالية’، أو هي ‘طبعة مخففة من تفجير المبنى الفيديرالي في أوكلاهوما’، أو ‘نموذج من تيد كازينسكي، صاحب لقب الـ Unabomber دون سواه، بدلالة أنّ وستون الابن قطن ذات يوم في كوخ ناء داخل أدغال مونتانا، غير بعيد عن بيت كازينسكي’…
وريثما يكتسب أيّ من هذه التكهنات بعض المصداقية التأويلية، في وسع الحائرين أن يزجوا الوقت بتأمل ظاهرات العنف الأمريكي التي تنتمي إلى طراز ليس بحاجة إلى تأويل، لأنه اليوم حقائق ووقائع وحكايات. وهذه، أيضاً، هي بلاغة متكاملة في تجميل العنف وتبرير السلوك العُنْفي، ربما على مبدأ الدكتور جونسون: ‘مَنْ يحوّل نفسه إلى وحش كاسر، هو الوحيد القادر على التخلّص من الألم الآدمي’. وهكذا فإنّ أبرز الفنون الأمريكية المعاصرة، لكي لا نتحدث عن أبرز السياسات الأمريكية المعاصرة، تعتمد على تجميل العنف، وتسويق ضروراته، واستدخاله في صلب الحياة اليومية كطبيعة ثانية روتينية. وثمة ثقافة كاملة متكاملة في تحويل العنف إلى سلوك يومي، رومانسي وبطولي، وليس جديداً التذكير بأنها ثقافة قديمة قِدَم مجازر الهنود الحمر والأقوام الأصلية.
والحقّ أنّ هوليوود لم تقصّر ابداً في إعادة إنتاج هذا الماضي التليد: كلنت إيستوود، ‘فريق A’، ‘كونان البربري’، ‘شرطي بيفرلي هيلز’، ‘حروب النجوم’، ‘تيرميناتر’، ‘بليد رَنر’، ‘روبو كوب’… وفي سلسلة أفلام ‘رامبو’، على سبيل المثال الأثير، يلعب سلفستر ستالون دور إرهابي أهوج جرى تدريبه، بعد تدجينه وترويضه، لكي يبيد أفواج السوفييت والفييتكونغ وسمر الوجوه إجمالاً، ضمن ذهنية ‘وطنية’ عرّفها باختصار مدهش كما يلي: ‘لكي تتفادى الحرب أو تنجو منها، يتوجب أن تتحوّل أنتَ نفسك إلى حرب’. وذات يوم كان حكيم الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر هو الذي وصف الدواء ذاته لإخراج الـ’مارينز’ من المستنقع اللبناني.
وحين انفجر صاعق أوكلاهوما، اضطرت أقنية التلفزة الأمريكية إلى الإنشغال بتغطية حكايتين رئيسيتين في آن معاً: بثّ صور الجثث المستخرجة من أنقاض المبنى الفدرالي، وبثّ تفاصيل صحوة ضمير روبرت مكنمارا (وزير الدفاع أيام حرب فييتنام) بصدد أكاذيب وزارته، وآثام الولايات المتحدة في فييتنام. مفارقة محضة؟ ربما، ولكنها خضعت لتزامن صاعق أشد دلالة من أن يسمح بإلقائها في العشواء.
‘هذه الشلة من عتاة الجمهوريين يعطون معنى جديداً رهيباً لكلمة متطرف’، يقول المحامي رالف نادر. المعتدلون بينهم يطرحون برامج كانت فرائص نكسون وفورد وريغان سترتعد من مجرد التفكير فيها داخل الكواليس، فكيف بإعلانها على الملأ. المتطرفون؟ حدّث ولا حرج، خصوصاً حين تكون أفكار رجال مثل نوت غنغريش وديك تشيني هي الصوى التي يهتدي بها اليمين الجمهوري. ولسوف نعلم علم اليقين ما إذا كان رسل وستون الابن قد استهدف المبنى ذاته بوصفه حاضنة الديمقراطية (أي استهدف النظام بأسره، ليس أقلّ)، أم استهدف بعض الرموز الكبرى في الحزب الجمهوري.
ومَنْ يدري، لعلّ الكاوبوي هذا تميّز غيظاً لأن شلّة اليمين الجمهوري باتت أشبه بقطيع من القطط السمان الخاملة المتثائبة، تراخت وتقاعست وتنازلت عن نسبة التطرّف القصوى المطلوبة، أو لعلها لم تعد موحّدة في التطرّف اليانكي الكلاسيكي، بما يكفي لتبديد وطأة القيظ اللافح… المتطرّف. وقد يكون الساخطون على قانون الرعاية الصحية الجديد عاتبين على أعضاء الكونغرس المحافظين لأنهم لم يأكلوا القانون، اقتداء بما تفعل بعض القطط مع أبنائها.
وإلا… فما العلاقة الغامضة بين القطط، والسادة أعضاء الكونغرس؟
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى