صفحات الشعر

ربيع الشعر والشعراء

null
ملحق النهار الثقافي

وراء الـــبـــــــاب
بقلم أحمد يماني
1
وراء الباب نقف أنا وأنت،
الباب الخشبي العتيق يفتح على ممر طويل في نهايته غرفة مغلقة،
لا نريد أن ندخل الغرفة ولا أن نعبر الممر،
نريد فقط أن نطرق الباب،
مرةً أنت بالداخل ومرةً أنا.
أطرق الباب ولا تفتحينه ولا تسألين مَن الطارق،
ثم تطرقينه أنتِ ولا أفتحه ولا أسأل من الطارق.
في هذه الأثناء القصيرة كنا قد عبرنا بحراً وقف الآخرون بساحله.
2
فتحوا الباب فهبّت أربعة جراء متشبثة بقدميه، انحنى عليها وعندما رفع بصره كانت الجراء قد فرّت إلى مكان بعيد. كان الوقت مساء وكانت قد خرجت إليه، أغلقوا الباب وتحت جلده وضعوا دودة هائلة، لم يشعر بها أول الأمر، على أي شيء تتغذى دودة هائلة؟
في مساء آخر قريب خرجت الدودة، بصعوبة بالغة في البداية، حتى ظن أنه ليس هناك من دود بل بعوض ينقر الجلد ويفرّ هارباً. عندما أمسك الدودة بيديه كان الباب قد أغلق من جديد وكانت هي قد خرجت إليه والجراء فرّت إلى مكان بعيد.
3
اليوم رأيت كينونتكِ بعينيَّ وأنا أعدّ الطعام. الكينونة هذه التي طالما أفزعت نومي وجعلتني أراني كنقطة معلّقة خارج الأرض دون عظام ودماء وصوت من العدم يهمس لي:
ECCE HOMO
كينونتكِ الطائشة في الفراغ اليوم رأيتها بعينيَّ واهتززتُ في مكاني، تأكدت أن في هذه النقطة البعيدة تكمن حياتي كلها.
4
يمنح العاشق نفسه طويلا، في معظم الأحيان لا ينتظر شيئا في المقابل. لكن ما إن يأكل الخوف روحه حتى يتوقف للحظة في انتظار مردود عمله. هنا تسقط الطاولة الخشبية التي ترفعه عشرات السنتيمترات عن الأرض، هنا يعود صغيراً ويرى نفسه في المرآة ولا يفرح.
تمنح العاشقة نفسها طويلا، وغالبا دون انتظار شيء في المقابل. في لحظة يتسلط الشك على روحها، تقول إن عطاء أكثر سيجعل مني صندوق قمامة لن يحفل به كثيراً. هنا تضع هي الطاولة الخشبية وتعلو عشرات السنتيمترات عن الأرض، ترى نفسها في المرآة أكبر مما كانت عليه ولا تفرح.
5
تخرج أولا من سلسلة الظهر وتمضي في مسارات تخصّها قبل أن تقبع هناك أحجاراً على الصدر تتسرّب منها مياه مالحة إلى البطن وتظل تعمل طوال النهار. الخيالات تمضي إذاً في طريقها المحتوم كنسوة ذاهبات إلى المقابر يوم العيد، يتشحن بالسواد ويعدن في المساء بعد حوار طويل مع الموتى يعيد إليهن ابتسامة وغمزة عين وراحة في باطن القدم لم يعرفنها منذ زمن طويل.
6
النهر الذي يمتد تحت بطنكِ
أحياناً تُسمَع مراكبه وهي تسبح في رحلة نصف مضاءة
نحو المجهول
تغطّيها سموات تنقّط بين حين وآخر بعض المياه.
أحياناً حين يصطخب النهر وتظلم رحلة المراكب
تحت السماء العاصفة ألمح ابتسامة خفيفة على شفتيكِ
والسنّان الأماميتان تضيئان للحظة قصيرة
تماماً كاللحظة التي تتأهبين فيها لتقبيلي.

نهر آخر يمتد فوق بطنكِ
نهر من زغب لا يُرى ولا يُمسّ
أراه وألمسه
أنا عقلة إصبع صغيرة
أنا مركبة شراعية
أنا رغوة النهر في مصبّه الأخير.
7
ظننت في لحظة عماء مطلقة أن أمراً جللاً يقبع في علبة هدايا مغلقة، أدور حول العلبة وبكل شغف أتحسس ورقها اللامع وشريطها الزاهي أتركه هناك الى حين بينما تصطك ساقاي شوقاً وحين أبدأ أخيراً في فك الشريط ونزع الورقة اللامعة يكون قد مرّ وقت كافٍ حيث لم أعد أنتظر شيئا من العلبة، أفكّ الشريط وأنزع الورقة لأجد علبة أصغر بالشكل نفسه، أفكّها محموماً لأجد علبة أصغر وأصغر، في مزحة سخيفة لا تكفّ عن التكرار.
8
عندما تغيبين أغطّي المساحة التي يحتلها بجانبي جسدكِ على السرير؛ الذراع اليمنى أضع مكانها رسائل فان غوغ إلى أخيه واليسرى أغطّيها برسائل ريلكه إلى الشاعر الشاب، بطول ظهركِ أفرد مستنسخا للوحة ديفيد هوكني “عباد الشمس والزجاجة”، مكان رأسك رواية “لا شيء” لكارمن لافوريت، عند القدمين قصيدة المدينة لكفافي واللوحة التي رسمتها لي وأنا متمدد في سريركِ في الصباح. أشياؤك نفسها التي تشاركنا فيها أحياناً ستغطي سريري. استلقاء واحد على السرير سيعيدك إليَّ أينما كنتِ.
9
كنا في سفرة قصيرة، اخترنا أن يقطعها كل واحد بمعزل عن الآخر واخترنا ألا نتحرك فيها بأكثر مما نفعل عادة: من البيت إلى العمل ومن العمل إلى البيت. لم نفعل أكثر من ذلك. فقط تركنا لخطواتنا اللاهثة أن تهدأ قليلا. قدماي المرسومتان بعناية في لوحتكِ الفائزة كانتا قد تشققتا وكان يلزم وصل الشقوق، حشوها بتراب كثيف بحثنا عنه طويلاً في رحلات سابقة ولم نعثر عليه، كان يلزم تبليل التراب وسدّ الفراغات، كان يلزم وضع القدمين في حائط من الجبس وتركهما هناك إلى حين، كان يلزم وضع القدمين في لوحة على الحائط.
10
اليوم أجد رقبتي في المرآة وقد أخذت تماماً شكل رقبتكِ، ذلك الجزء البارز من أعلى الصدر حتى اللوزتين كنت أحدق اليه يومياً وما من مرة ذكرتُ لكِ الأمر، ربما كنتِ تلاحظين وتصمتين ربما هرّبتِ إليَّ رقبتكِ قطعة وراء أخرى. يدكِ اليمنى الآن صورة مصغّرة ليدي بلون أفتح قليلا.
(مصر، اسبانيا)

* مقاطع من نص طويل.

نــصـــوص الــقـــاهــرة
بقلم رنا التونسي
أحيانا يخيَّل إليَّ أن والدي يتحدث على الهاتف مع جدتي التي ماتت منذ أعوام قليلة
أن أمي دخلت الفيلم
ولا تريد أن تخرج من القبلة
أن الحياة أفراح
أني سأنجب ثلاث سمكات صغيرة من رجل لا أعرفه
أو أعرف كيف أعيدها إلى الماء
سأكتشف عائلة جديدة في تونس
عائلة من الأشجار السامقة
أعانقها طويلا كالريح
وأتركها تسرق الكوابيس بهدوء من صدري
سأودعها كثيرا
وأنا أبكي
وأهتف في سرّي:
ينبغي أن أبحث لنفسي عن عائلة جديدة
لا أعرف كيف أحب أحدا
كيف أعانق الأشجار
وأنا أتكسر
قطعاً زجاجية صغيرة
لكن عيني تجلس هناك
على سلّم خشبي مهجور
سيصلني حتما إلى السماء
فقط إذا أحببت.
***
عندما انشقّ قلبي
بدا القمر دائرياً ومجروحاً
قمر تضيئه ألوان كهربائية صارخة
يدور على استحياء
يحاول أن يخلق الأعذار والألفة.
إذا اصطدمت سيارتي بغضب عارم
يلوّح بيديه ساخطاً في عرض الطريق
سأبقى في مكاني ساكنةً
أتشبث بآخر جزء من اللحظة،
لن أرتمي على الأرصفة
لن أدّعي الصدمة أو الدهشة
لن أرتمي جثة صغيرة ومرتعبة
تحاول ملاطفة ما تبقّى لها من الوقت
إذا ارتطمت سيارتي
فسيخرج صوتي هادئاً وسحرياً
يغنّي أغنية سعيدة من بيت أبي.
***
عجلة رشيقة كجسد إمرأة ترتكن على حائط مضيء
وأنت نجوم ورقية صغيرة تلمع في الفضاء
أمسك بكاميرا العلاقات القصيرة
بخيوط الوحدة التي ترتجف
أفتح عين الكاميرا
كي أجد لي أصحابا
يسقط وجهي ضاحكا من الزووم
رأسي في الأسفل
وأصابعي تلمس حافة المقعد
رأسي في الأعلى
وكتفي عارية
أصوّر نفسي في أماكن مختلفة
ثمة شارع يتظاهر دوما بالزحام
وأنا لا أعرف أحداً.
***
ذات مرة كنا نجوماً
نصنع المعجزات والضوء وأفعالاً شائنة
ينتفض منها القلب
كنا نجوماً
ما إن نضحك حتى يرتعش الهواء
حتى الرياح أرادت دوما أن تصافحنا.

حاولنا استعادة وجوهنا بصور الأبيض والأسود
علّنا نلمح حباً في الممرات
ضوءا خفيفا نتعلق به
نقفز إلى الصورة.

لو عاد بي الزمان ثلاثة وعشرين عاما
لأصلحت كل شيء
لو عاد بي الزمان إلى ما قبل الخلق
لأصلحت عمري كلّه.
***
رأيتني أمشي وحدي نائمةً
وجودي عارياً
صوت رعد
صوت عراك
نصائح جدتي
مفاتيح لم أفتح بها
أصوات لم ترجعني إلى البيت.
***
بدلاً من أن أحزن لفراقه
أفكر في موته قبل أن يموت
كان عليَّ فقط
أن أرفع ذراعي
وأنظر إلى الأعلى
أن يحقق لي الله أمنيتي.
***
كنت أريد أن أحمل الثورة
كما يحمل العريس عروسه يوم الزفاف
أركض إلى كل عيون الحي
أرسل الضحك إلى أبوابهم
كنت أريد أن يصحو الناس على صوتي وأنا أقرأ بصوت عال
عن العدالة والحب.
***
كان يريد أن يأخذ نصيبه من الألم
يحجز الحكايات من أن تطير للريح
يقلب صفحات حياتي
وأنا واقفة
أسمع صوت العملات
واحدة
واحدة
كلها تنتظر داخل حصالة فارغة
وأنا لا أعرف ما الذي أفعله هناك.
***
أشعر بغضب تجاهك
كأنك أنت الذي أرسلتني هنا
بكل تلك القبل التي لم تمنحها لي
بقلب مكسور
وجسد يحتاج إليك
مثل قطّ تخربش أظفاره المنفى.
***
عندما لا أعرف كيف أصل اليك
تصبح كل الطرق والشوارع مغلقة
لأسباب لا أعرفها
أحاول أن أسقط من على الشجرة
وأنا أحارب بيدي آلاف الأغصان.
***
النافذة
تصلح عنواناً جديداً لديوان
القطار يغادر مكانه كل صباح متجهاً الى الحنين
الشمس ذهبية
وأنت عصفور لا يغادرني
ابتعد عن عمري قليلا
تعال فقط لتلقط الحبّات من فوق كتف أو جسر
من طريق لا يخاف العاشقين

ابتعد عن نفسك قليلا
كما يليق بعصفور
لا يعرف كيف يحب أو يكره.

أريد أن أخبرك أسطورة ليس فيها أشياء خيالية
أو كائنات عملاقة تدبّ بقدميها في الأرض
لم أعاصر أي أشياء خرافية منذ ولدت،
اهتزّت بي الأرض مرةً
اهتزّ عالمي مرّات
وهذا كل شيء
لا أعرف كيف أخلقها
فقد تمزقت أبيات القصائد التي كنت أستند عليها منذ فترة

لديَّ الآن أصدقاء طيّبون
يسمحون لي بالوقوف على عمودهم الفقري
الهياكل العظمية النحيلة التي ترتعش
الملابس التي اهترأت من الضحك والحرمان
أقف على ظهورهم المحنية لأرى العالم
لأرى مع من تخونني
لأرتعب من الفكرة
كيف يكون العالم حقيقياً إلى هذه الدرجة
ولا تنتقل إليَّ عدواه.
***
لو كانت الرغبة تمشي
لتعلقتُ بقدميها وهي ترحل بعيدا عني
لو الطريق شجرة
لجلستُ تحت أغصانها
وكتبتُ لك الأشعار
رأيتُ شارعا بداخله قوس قزح
بيوتا تبتسم لي
تفتح الأسوار
بينما أنا أمشي وحدي في الظل.
***
حين فتحتُ كتب التاريخ
سمعتُ أصوات سلاسل من الوقت
امرأة تنتظر كفراشة
أغراضا معلقة قرب نهر
بيتاً مهموماً يذرع الطريق
عيوناً لا تتأمل الدرس
وأنا أردتُ أن أفتح الباب لمعجزة.
***
في ساحة العراك
حيث العالم يمزق نفسه
الأشجار مهددة بالزوال
والأشباح تهرب من الأرض
كنت أفكر فقط في طاقة الحب
وفي القدرة التي يمكنها أن تجعلني سحرية.
***
لأنك صديقي
لا تجلس قرب قبري باكياً
أو تشبك يديك مع أيادٍ أخرى غريبة
لأقف عليها وأصل إلى السماء
لأنك صديقي
لا تشرب نهرا ملأته بدموعي.
***
بدأت أضجر من كتابة الشعر
أشعر أني أحمل حقيبة ثقيلة
يزداد وزنها كلما حاولتُ رفعها عن الأرض
أريد أن أقذف هواءها كلّه عليك
أخبرك من دون صوت
أن الباب سيغلق في المساء
أني سأنتظر في النافذة
رافعةً وجهي إلى السماء
حيث المسافرون يرفعون كؤوسهم في وجهي
ولا يحلو لهم الذهاب إلا من أمام البيت.
***
عندما تصبح أطراف أصابعي زرقاء من حروف كثيرة لم أكتبها
أعرف أن لا أحد يحبّني
أني اتأرجح وحدي في السماء
ونجوم صغيرة تسطع في يدي.

مصر

أهترئ كالظلّ بعد موت صاحبه
بقلم أحمد ديبو

لا تُفارق اسمي
I
بخطواتٍ صالحة لاصطياف العصافير
أوت حبيبته بكامل فتنتها إلى العراء
العراءُ الذي شحذ همّته وراح يقطف من حسنها، ما خفّ وغلا ثمنه

ها هو، يلاحق خطواتها قبل أن تنقلها العصافير
بلّله التعب،
وبردت مشاعل وجهه.
ذهابها أباحه،
لا اسم له بعد الآن
بقي يرقب عودتها
حتى ضرب الشيب انتظاره.
II
روحه الآن تتحدّث مع خيال جسدها الذي أضحى حجابه
جسدها الذي من نسل رسالات سماوية آتية:
غمامُهُ حبقٌ
ونوافذه نبوءة
من التفاح سُبيت حمرتُهُ
ومن حليب النعناع قُطِّر بياضُهُ
خيزرانهُ تربية الحمام الأبيض تحت العرائش
ضياءُ القمر عتمتُهُ
وندى اللوز سياجُهُ
من أساءَ إليه، عوقب بعدِّ النجوم من وراء الغيوم.
إذا أخطأ قلبه قُتل بردَّته.
III
ها هو،
تحت المطر الهائل
عاقداً ذراعيه خلف رأسه
ظهره على الهاوية
ووجهه إلى السماء
يحصي النجوم عن ظهر قلب.

ذابَ حتى ظهرَ حُبُّه من تحت جلده.
الفراغ المهجور
رجلٌ وحيدٌ يجلس أمام وحدته
أصابعه تعبر بتؤدة على جسده
كأنه يحاول اكتشاف ما ترك الغيابُ عليه

ها هو،
بدأ نصفه الأيمن ينمو على ذكرى امرأةٍ غابت
بعد قليل، يلتحق به النصف الآخر
ورويداً رويداً…
تصالبت خيوط العنكبوت يابسةً على الفراغ المهجور.
الرجـل الحـائط
أمام الرجل الحائط
وقفت امرأةٌ ناعمة
وجهها مغمَّسٌ بالقمر
وراحت تتكلّم وتتكلّم بانكسارٍ شديد.
بعد قليل،
أصابعها الناحلة المرتجفة
اتكأت برجاءٍ على صدر الرجل الحائط:
كأنها تحاول فتح كوّة.
مـرآة
تتعرّين،
أشعل عود ثقاب
لنا نحن الاثنين
ذلك الكرسي.

أنا أنتِ
غائبان.

تكفي يدي،
نقطة تسقط من كلماتكِ.
عذوبتها تصطاد الحجال
أمام باب بيته،
وقفت حبيبته ترقب كلامه الأخير.
وقفت تسندها أصابع الريح
ها هي، مكسوّةً بالسحب
صمتها يشبه الدموع
وعذوبتها تصطاد الحجال
يداها ذابلتان مثل زهرتين في أواخر الربيع
كثيرةٌ هي بهذا الجسد النحيل
لا أملٌ شدَّ فستانها
ولا عشبٌ بسط راحتيه لخطواتها.

وقفت وحيدةً ويابسة كعجينة ملصقة أعلى الباب
فيما كلامه الأخير لا يزال يتحلّل ويهترئ وتُفرّقه الرياح.
ابتسامـة
يستطيع الأطفال الركض داخل ابتسامتكِ
كما أنني أستطيع غرس زهرة فلّ
أو ربما شتلة نرجس
أستطيع السهر والقراءة.

ما لا أستطيع فعله حقاً
هو أن أغمض عينيَّ ولو لثانية
فلا أرى هذه الابتسامة
التي تزيّنها الأجراس ويحاذيها الخجل.

هذه الابتسامة،
فيها أزقةٌ عسلّية تمتلئ بأطفالٍ
يلعبون.
قوس قزح
إلى ديمه
حين بكت لم ترتجف البتّة:
هكذا يكتمل القمر.

لم أجرؤ على القول
قالت لك الأصابع.
لم أجرؤ على القول
الضوء ناسب النظر فخطف القول.
لم أجرؤ على القول
بخيوط حزنك/ اختبأ الشعر/ كالسكّر في القصب.
لم أجرؤ على القول:
بالأخضر نبات العالم في عينيكِ يتكلّم
بالأزرق بحار العالم في نظرتكِ تتكلّم
بالبرتقالي صمتكِ يتكلّم
بالأحمر الشفق على خدّيكِ يتكلّم
بالنيلي قميصكِ يتكلّم
بالبنفسجي انحناءة عنقكِ تتكلّم
بالأصفر الخرّوب البرّي في عطركِ
يتكلّم.

لم أعد أجرؤ على الصمت:
معكِ بكلِّ الألوان سأتكلّم.
أهترئ كالظلّ بعد موت صاحبه
ابتسامتكِ كجريدةٍ مطويَّة ومعلَّقة.
ابتسامةٌ بلا نوافذ كحقيبة؟!
ها أنذا أرقب أصابعكِ وهي تمسك بالفروق بيننا وتعدّها كسبحة.
إنني ضعيف ومرتبك أمامك كسلحفاة مقلوبة.
ها هو،
غيابُكِ يطلُّ من النافذة ذاتها التي توسطت ابتسامتكِ الصفراء.
الغيابُ الذي راح يكبر ويقطر ناراً على تَلَفي.
الغيابُ الشبيه بامرأةٍ تتعرّف الى ملامحها
من أسراب الطيور العابرة.
الغياب الشبيه بطفلةٍ تجري ليصير الماء كلَّ مرّةٍ صوتها.
الغياب الشبيه بطفلةٍ تختبئ بين أوراق العشب.
أوراق العشبِ الحمراء… الحمراء.

إنني أهترئ كالظلِّ بعد موت صاحبه.
على طريق الشعر
بخطواتٍ إذا ما نودي عليها خالت أنها فتىً
سارت حبيبتي على هذه الطريق!
حبيبتي سمراء كغيمة ماطرة
في ضحكتها يطير الحمام الأبيض ويصفّق
وفي صوتها الرهيف الذي ينقّط في دمي كخيط من النمل العسلي يتفتّح زهر الليمون ويُثمر
كم مرّةً قلت لها:
على هذه الطريق، لا شيء غير خزائن الألم
لا شيء غير زمن يركض مثل غزال
وفي هذه الطريق جدار…  يطلقون عليه: جدار اللغة
كلُّ من ينظر إليه طويلاً تدفنه نظراته
حبيبتي نزعت كتف خوفها وسارت قبالتي متحدّيةً
كم مرّةً ذبتُ وأنا أردّد لها:
أنَّ أعذب الشِعر يطفو كزهر اللوتس في ماء عينيها
لكنها ضحكت ضحكتها المنقّاة حبّةً حبّة
فاستقام شارعُ بيتنا المحدودب.
أتألم كالغيمة العاقر
لشدة ما نظرتُ إليكِ نقلتُكِ وأضفتُكِ إليَّ

سواكِ لغة سوايَ وأنتِ لغتي

قصائدي الجديدة التي كتبتُها لكِ
تنام معي كثياب العيد
وما بين النوم والصحو أنتظر الصباح بلهفة
أنهض بسرعة،
وبسرعة أرتدي ثيابي وأخرج الى لقائكِ…
ها أنتِ أمامي كثيرةٌ وجديدةُ ككلّ لقاء
أمّا قصائدي نسبةً إليكِ،
فيا لها ضحلة وعتيقة ومباغتة مثل كلّ مرّة.

أتألم كالغيمة العاقر.
في المساء عند الصباح
في المساء يقول لها:
نهداكِ حكايتان منسوجتان من كمالهما.
حمامتان متروكتان للذئب.
زهرتان بيضاوان عليهما نحلتان.
حَجَران يصيران بعد عناء نبعَي شهوة.
شالٌ يرمى بغتةً على ليلتين من ليالي ألف ليلة وليلة.
أحجيتان لأبي الهول تصيران قبضتَي ندم إذا هدّدتهما بالسكّين.
فرصتان سانحتان للأخذ بالثأر.
قرطان فرعونيان يصيران علبتَي بسكويت.
كلمتان منسوجتان من كمالهما:
كلمتا افتح يا سمسم.
نهداكِ ظلاّن يخرجان من اللبن.

خطوتا علاء الدين في أذنَيّ الساحر المغربي.
مصباح علاء الدين الحقيقي معروضاً في “أكسبو بيروت”.
علاء الدين بذاته وهو يروي مغامراته في “معهد العالم العربي” بباريس.
جاك بريفير، بورخيس، سان جون بيرس، رامبو، فيرلين، أراغون، أندره بروتون، أنسي الحاج، بول إيلوار، رينه شار، أبولينير، تريستيان تزارا، محمد الماغوط، أيف بونفوا، ريفردي، عقل العويط، بيار جان جوف، عباس بيضون، بسام حجّار، ماكس جاكوب، فيليب جاكوتيه، كلود روا، نزار قباني، جان روسلو، جان كلود رينار، غييفيك، بول فاليري، سعيد عقل، جان بيار فاي، هنري ميشو، برنار نويل، سافو… الخ.
نهداكِ قصيدتان اشترك في كتابتهما هؤلاء مجتمعين بعد استماعهم إلى مغامرات علاء الدين في المعهد المذكور.
أما الآن، فالشمس في يميني والقمر في يساري،
ونهداكِ طيّعان بين الأصابع…
والأصابع مغلوبة على أمرها تصنع الغرق.
ما يتركاه نهداكِ على الأصابع، شبيهٌ بما يتركه الطائر في الفضاء
يابسٌ عندما يسقط بطلقة صيّاد ماهر.

– عند الصباح،
وقبل أن يخرج، فقط على المرآة يكتب: عيناكِ البارحة،
ملكتا نحلٍ على حقل من الثلج الحارّ.
نتوءٌ يربط بين نقطتَي ماء
ذاب فقط،
هنا مات رجل. كما لو أنه كان يرى من خرم إبرة نوراً سدَّ الأفق.
لم يكن يمشي، لأن ما بقي منه، نتوءٌ يربط بين نقطتَي ماء.
أظنُّ أنه في اليوم الأخير كان صامتاً، لأن صمته المتبقّي أدفأنا عندما وصلنا إلى النتوء.
وعلى الأغلب ارتاحت نظراتهُ على هذه الصخرة، الأعشاب الخضراء هنا من نظراته حيكت. نظراتُ رجلٍ مات كثيراً. الوقت مرَّ عليه دبقاً، لأن العتمة تركت ملامحها بكثرة في هذه الأنحاء. بِركتا ألم نزّتا من نقطتَي الماء هاتين. يبدو أن جسده رفرف لوهلةٍ، فالهواء حاول مثل نقطة ماء أن يرتاح على كفّيه لكنه سقط بجانب النتوء به ملوّناً.
كأنه صوتٌ فَرَدَ ظلّين بين خطوتين ومات.
كأنه يدٌ صارت زهراً على عجل لتحبك بين ابتسامتين.
كأنه نرجسٌ أغمضَ ماءه مرّات عديدة كي تحطّ السنونو وتقتلع عينيه.
كأنه عشبٌ سال الربيع على شفتيه أرزق.
هذا النتوء، أشبه ما يكون بفكرة، أو بغيمة، أو ربما بنظرة!
التراب لا يترك نتوءاً هكذا!
قال أحدُنا: لحظة الموت يتذكّر المرء ما كان قد فقده.

على عجل فلشنا أفكارنا، جلبنا سلّماً من أجل فكرة عالية وصعدنا.
تذكّرنا على عجل ما كنا قد نسيناه، ربّما كلمةً نافقة رماها إلينا من داخل موته،
أو ربما فكرةً وضعها ذات يوم بتؤدة في صندوق.
لا شيء البتة، الموتى لا يحسنون إلينا أبداً.
الموتى لا يتركون لنا إلا موتهم، لا يحسنون إلا الموت.
فقط يتركون للطيور العابرة ملامحهم كي يتحرّروا من قيودهم.
لو ربطنا جيداً بين النتوء ونقطتَي الماء لوصلنا.
لكن الوضوح كان سراً!
“الحزن في ضوء القمر” جاء ليلقي نظرةً سريعةً، تأمّل النتوء وقال:
عيناه لا تموتان أبداً، وجسده نتوء.
إنه بدر شاكر السيّاب.

(سوريا)

ربما أنا ياسر الزيات
ياسر الزيات
نعم، أنا ياسر الزيات:
تركت لكم كل شيء على حاله: المحبة الحارقة والموت الفجائي، القصائد الخربة والحياة المؤجلة، العزلة الوراثية والقسوة الأبدية. تركت لكم كل شيء على حاله، فرتِّبوه إن استطعتم، أو اتركوه على حاله، وتخلصوا مني لتحرِّروني؟ حرِّروني، أنا الهائم في جحيم ذاته، حرِّروني.
***
نعم، ياسر الزيات:
وحدي، وحيد، خائف. ربما أنا لا أحد، أو لا شيء. فما الذي يعنيه هذا الوجه؟ ما الذي تعنيه العينان المزدحمتان؟ ما الذي يعنيه القلب الغائم الطري؟ ما الذي تعنيه هذه الكتابة العرضية المعلّقة في الأصابع؟ ولماذا أبكي هكذا كعاشق خائب، كإرهابي، كمنفيّ في ذاته، كنصف برتقالة؟ كشتات بلا نهاية؟

من أنا حقا؟
***
ربما أنا ياسر الزيات:
وحده، أو بعضه، أو بقاياه، أو أثره، أو نبضه الأخير المتلاشي في اسم بلا معنى، يفتش عن جسد بلا معنى، ليكون شيئا، مجرد شيء مكتمل، له نهاية واحدة تجعله وحيداً أو خائفاً، أو ميتاً حقيقياً تحضنه ربما حقيقة، يبعثرها هواء حقيقي، كلّما مرّت حبيبته عليه.
***
نصف ياسر الزيات

يا زوجتي، يا حبيبتي، كوني عادلة قليلاً: خذي نصف جسدي ونصف روحي، وهكذا يصبح لديك ياسر الزيات كامل. واتركي لي نصف جسد ونصف روح أهديهما الى بقية العالم.
أنا عادل تماما. وأريد نصف جسد ونصف روح، أكتبهما أو أمزقهما أو أبعثرهما في رمال الزمن، لعل حفّاراً أركيولوجياً يعثر على فتاتي ذات يوم، فأكتشف أنني كنت موجوداً حقاً في ذلك العالم.
أنا تحت غطائي الآن، أفكّر في كل شيء في وقت واحد: في الزعماء الخالدين، في المقابر الجماعية، في حبيباتي المؤجلات، في بائعة الجرائد الصغيرة، في الجوعى الذين يندهشون عندما أصفهم بأنهم جوعى، في الأوطان الخائنة تلك، أفكّر في كل شيء، ولكن لا شيء يفكّر الآن فيَّ، ليجمع نصف جسد ونصف روح، ولعلني أكتمل في مكان آخر، تحت غطاء آخر، وأفكّر في الزعماء الخالدين، والضحايا الخالدين، والحروب الخالدة، والمشردين والجوعى الخالدين، وفي أنصافي التي لن تكتمل أبداً.
ورقة بيضاء لا تلوثها إلا الكتابة

لا أريد أن أكتب شيئاً هنا. أريد أن أبكي فقط. أريد أن أبكي على هذه الورقة، لكي تنمو دموعي بجوار دموعك. سوف تنمو دموعنا معاً، ترقص معاً، وتضحك معاً، وتنتحر على حافة الورقة معاً. فاطمئني إذاً، لن يحدق ما هو أكثر، لن نلتقي أبداً، ولن نحبّ أبداً، ولن نتذكر شيئين ولن نترك أي أثر لنظراتنا الهاربة. فاطمئني إذاً: نصف روحي الذي كنت تختبئين فيه، سأزرع فيه قتلى وجائعين ومجانين وأحجاراً ميتة إذا استدعى الأمر. نصف روحي الذي كنت تتعرّين وتضحكين وترقصين فيه، لن يكون أبداً لك، اطمئني إذاً.
لن أراقبك وأنت تضعين أحمر الشفاه، ولن أتمنى أبداً، أبداً لن أتمنى أن أقبّلك، لن أدّخر دروس اكتشاف الأنوثة إلى يوم تسكنين فيه نصف روحي، وان أسجنك في غرفتي السرية، في صخرتي الأبدية، فاطمئني إذاً. تحرّري من ذاتك وذاتي، وصفّفي شعرك بالسيشوار كما تشائين، لا يهمّك أن يتساقط شعرك، فأنا لن أكون موجودا بعد اليوم.
***
لو أنني أبكي، فقط لو أنني أبكي على هذه الورقة، حيث سقطت دموعكِ، فنظرت إليها دموعي بحسرة قبل أن تحضنها للمرة الأخيرة، وإلى الأبد. إلى الأبد ستنمو دموعنا معا، لتصبح بشراً كاملين، يحبذون ويرقصون ويضحكون ويبكون، كأنهم وحدهم، كأنهم أحرار حقا، على ورقة بيضاء، بيضاء لا يلوّثها إلا الكتابة.
***
كل شيء ناقص، كل شيء غير مكتمل، كل شيء نصف ناقص، كروحي التي خبأتكِ سنين في ذوبانها، كذنوبي التي كتبتها ألف مرة بدون أن أفعلها مرةً واحدة، كحريتي التي وزّعتها قطرةً قطرة على قبور أصدقائي، كجنوني الذي دفنته في المرآة، كحلمي الذي بكيته مرة واحدة، على هذه الورقة، هنا، حيث ترقد دموعك كجسد مكتمل ينتظر مدفناً سرياً في نصف روح تفتش عن شقائها.
***
اطمئني إذاً، لن أستيقظ غداً، سيصبح العالم أوسع، لن أحب مرةً أخرى، ولن أبكي مرة أخرى، ولن أكتب شيئا ـ لن أكتب شيئا هنا، في تلك المقبرة التي تضم دموعنا معاً.
من أنت حقا يا الله؟
يحلم المجنون بأنه يبكي فيستيقظ باكياً، ويحلم بأنه يعشق فيستيقظ عاشقاً. ليس لديه ما يبكيه، وليس لديه من يعشقه. إنه وحيد، كسرب عصافير في سماء عابرة. يبحث عن أوطان يبنيها المجانين وحدهم، بأحلامهم وأوهامهم، ببكائهم الحرّ المتواصل. لذلك يبكي المجنون ليبني وطناً بدموعه، ويبكي ليخلق امرأة يعشقها من دموعه، يبكي ليفقدها، ويبكي ليبكيها، ليتحرر من بكائها، ليحرّرها من بكائه، يبكي لينتحر من أجلها، ويبكي ليموت حقاً في بكائها. إنه وحيد، وحيد حقاً، كسري دموع في ورقة عابرة.
***
يهرب المجنون من الكتابة كمن يهرب من عينين باكيتين. يهرب من البكاء كمن يهرب من الموسيقى. يهرب من الموسيقى كمن يهرب من عزلته. يهرب من عزلته كمن يهرب من أنقاضه. لا تصدِّقوه. لا شيء حقيقياً. وهو يكتب عوضا عن أن يحب، ويحب ليموت موتاً حراً مستمراً لا كتابة فيه ولا حبّ ولا بكاء.
***
يموت المجنون فيرى أوطانه الافتراضية تنكّس دموعها، ويرى أصدقاءه الافتراضيين يحملون نعش أحلامه، ويرى حبيباته الافتراضيات يوزّعن أسراره على العشّاق العابرين، ويرى غرفه السرية مهجورة من فئران حبه، وروحه معلّقة في سقف عزلته، وجسده يذهب بعيداً، بعيداً في الرمال والنباتات والحيوانات الأليفة. لن يوقفه شيء، فلا شيء حقيقياً سوى ذلك الموت الفجائي، ذلك الموت الافتراضي الذي يلقيه وحده في جحيم ذاته.
***
عندما يقابل الله، سيقول له: يا الله، أنا ياسر الزيات، الشاعر الافتراضي، الاسم التائه ـ الجسد الذائب، الروح الوحيدة السجينة، العاشق السري، المذنب الأبدي، الموصوف بصفاته كلها، الموجود في أحلامه وأوهامه، المتجسد في دموعه، الهائم في عزلته وجنونه، أنا ياسر الزيات، فمن أنت؟ من أنت حقاً يا الله؟
وربما يبكي الله فيخلق من دموعه امرأة يعشقها، وربما يبكي ليفقدها، ليحرّرها من بكائها وبكائه، لينتحر من أجلها، ليدفن نفسه في دموعها، ليشعر مرة واحدة بأنه وحيد حقاً، كسرب دموع في سماء عابرة.
إذا لم نتألم من أجل الحب
أنصحكم: لا تكتبوا هكذا. أنصحكم: ليس بكل هذا الألم. حتى الشعر لا يستحق ألماً من هذا النوع. والحب أيضا لا يستحق أن تتألموا من أجله.
ولكن إذا لم نتألم من أجل الشعر، وإذا لم نتألم من أجل الحب، فمن أجل ماذا نتألم؟ أيّ ألم نختار من بين آلام كل هذا العالم؟
أنصحكم: لا تتألموا هكذا. أنصحكم: لا تكتبوا آلامكم، فالعالم في النهاية يبحث عن تاريخ لنفسه، يبحث عن مجد شخصي، يبحث عن بقاء أبدي، ولن يحركه سوى تلك الآلام، فانتبهوا.
أين نذهب بآلامنا إذاً؟ أين يمكننا أن نتأمل خيباتنا؟ كيف يمكننا أن نقول إننا قتلى وجرحى ومجانين وغرباء؟ أين ندفن عزلتنا وحبيباتنا؟ أين نترك وصايانا للذين يريدون أن يتألموا؟
أنصحكم: لا تكونوا موجودين حقا، ولا تبكوا هكذا كالأطفال.
ولكن المسرحية لن تنتهي على خير. سيغضب الجمهور، الجمهور الذي يحب آلامنا سيغضب، فكيف يمكننا أن نتألم بدون جمهور؟
أنصحكم: لا تعيشوا هكذا، ولا تموتوا هكذا، لا تكتبوا هكذا، ولا تتألموا هكذا، ليس بكل هذا الألم تستمر الحياة.
***
أصحو من النوم، فلا أجد اسمي في دليل الهاتف. هل كنت حقاً هنا، في هذا الوجود العبثي؟ وأبحث عن أسماء أصدقائي: كيف استطاعوا البقاء في هذا الدفتر الموحش؟ لماذا يحتملون أرقامهم وآلامهم؟ وكيف يحتملون أسماءهم هذه؟ هؤلاء المساكين، هؤلاء الجبناء، كيف لا يقفزون قفزة واحدة، خارج الحياة؟
***
كل ليلة، عندما يزورني الموت قبل نومي، قبل نومي مباشرة، أقول له: لماذا لم تكتب اسمك مرة واحدةً في دليل الهاتف؟
ما الذي كان يفعله في هذا العالم؟
لا أحد يتصل بي: لا القاتل، ولا المؤرخ، ولا حفّار القبور. لا أحد يتصل بي، والموت يقف في نهاية الشارع، يقف في قلب المحبة، يقف مزهواً بأسلاكه المزهرة. يقف الموت وحيدا في نهاية الشارع، ولا أحد يتصل بي.
القاتل مثلا: القاتل يجلس ملقيا رأسه بين يديه، يفكر أو يبكي، ولا أحد يراه، ولكنه أيضا وحيد، وحيد وخائف من عينيَّ الوحيدتين الخائفتين، يفكر أن يرقص، ويفكر أن يبكي، ويفكر أن يكتب أحلاماً تطارده، لكنه لا يجد رأسا بين يديه، ولا يجد قدمين تحته، ولا يجد محبة كافية للكتابة. لا يعرف من أين تأتي كل هذه الدموع، ولا يعرف كم هو خائف لأن الموت يقف في نهاية الشارع، ولا كم هو وحيد لأن أحداً لا يتصل به، لذلك يجلس ملقيا رأسه بين يديه، يفكر أو يبكي، وحيداً وخائفاً، لا أحد يراه، وهو يقتل نفسه بعينين وحيدتين خائفتين.
والمؤرخ أيضا: المؤرخ حائر أمام هذا الشاعر القتيل. لا يملك قصة مثيرة، ولا حياة درامية. شاعر مملّ كئيب، مجرد شاعر مملّ وكئيب يبعثر قصائده في بيوت أصدقائه، يحب ويرقص ويضحك داخل جسده، وهو أيضاً لا يمتلك جسداً كافياً للكتابة، كما أن أحداً لا يعرفه، ولا أحد يحزن عليه، فما الذي يغري المؤرخ في حياة شاعر ممل وكئيب؟، يسأل المؤرخ نفسه، وما الذي كان يفعله في هذا العالم؟ أي لعنة جعلته يحب مصادفة، ويبكي مصادفة، ويموت مصادفة؟ إنه شاعر ممل وكئيب، يقول المؤرخ. المؤرخ حائر، وهذا ما يُبكيه، هذا ما يجعله خائفاً ووحيداً، ينتظر أحدا يتصل به، ولكن الموت في نهاية الشارع، يقف هناك في قلب المحبة، والشاعر يبكي بعينين وحيدتين وخائفتين. والمؤرخ يبكي.
… وكذلك حفّار القبور: ما هذه الجثة العجيبة؟ كل طلقة دخلتها نبتت مكانها امرأة، وكل امرأة خرجت منها تحدثت عن ثقوب سوداء ونيازك وأقمار. ما هذه الجعة التي تحلم كل دقيقة بنسائها، وتغنّي وحدها، وتضحك وحدها، وترقص في موتها وحدها، وتحيا وحدها في رائحة امرأة واحدة، قبّلتها مرة واحدة في خيالها، ونظرت اليها نظرة أبدية، بدون أن تعرف أن الموت هناك، يقف هناك في نهاية الشارع؟ يفكر حفّار القبور، ويسأل، ولا أحد يتصل به، لا أحد يراه، ولا أحد يحبّه، لذلك يجلس وحده، حائرا، ملقيا رأسه بين يديه، ويبكي.
أما أنا، فلا أحد يتصل بي، لا القاتل، ولا المؤرخ، ولا حفّار القبور. إنهم خائفون، لأن الموت يقف هناك في نهاية الشارع. وأنا وحيد وخائف، ولا أعرف كيف أقول لهم إن الموت يقف هناك، يقف وحيدا، ويقف خائفا من الحياة. ولذلك أبكي، بعينين وحيدتين، وخائفتين.
(مصر)

حـــــيــــاة –
بقلم كريم عبد السلام
حياة
أريدكَ
لا أريد مزيدا من الأوراق
لا أريد الكتب تحاصرني
ولا الكلمات الفصحى على لسانكَ
أريد عشرة أطفال منك
وأنت تجلس أمام برامج المنوعات وأفلام العنف
يداك على الخلاط
وأصابعك على أزرار الريموت

أريدك زوجا بدينا يتثاءب بينما ألاطفه
اضربني لو تأخرت عن إعداد الطعام
أو كيّ قمصانك
أريد أن أستمتع بالصراخ مثل جاراتي
وأن أجلس وأبكي على حالي.
طفلنا الملائكي
انقطعت الكهرباء التي تسري بيننا
وفي الظلمة الباردة
وقعت عيناي على بثورها القديمة
على شعراتها البيض التي تشير إلى عصر التجاعيد
سنّها المكسورة بدت بشعة تماما
أهي من كنت أعانقها بقوة ليلة أمس

ووقعت عيناها على الهالات السوداء تحت عيني
وشاربي الذي ينتمي لأفلام الأبيض والأسود

من وضع ألواح الثلج بيننا
هل كنا قبل ساعات غارقين في الحب
نحن اللذين هربنا من العالم على إيقاعات باخوس
كيف أصبح الصمت هو المشترك بيننا
والغرباءُ الملاذ لكل منا

تقول إنني حوّلت حياتها دجاجة نافقة
وإن أيامها معي مغطاة بطبقة كثيفة من الغبار

أقول إن العالم بدونها نسمة صيف في الشرفة
والعالم معها مياه ساخنة في ظهيرة حارة

انقطعت الكهرباء
تحسسنا الحبَّ، طفلنا الملائكي في فراشه
وجدناه ميتاً.
لاجئون
آلاف اللاجئين، في أرض واسعة خالية
يحتمون بخيام من القماش وأكواخ من أغصان الشجر
هربوا من حروب أهلية ومجاعات،
وبعضهم ضحايا فيضانات وزلازل
لكنهم صنعوا خياماً وأكواخا هشة متشابهةً،
يستعيدون بها ظلال بيوت كانت لهم
ولحظات سعادة أمسكوا بها.

كلما أوغلوا في ذاكرتهم
تأكّدوا أنهم لاجئون.
في عيونهم رعب من لحظات قادمة، وأمنيات بالشبع والنوم العميق والاسترخاء في الظل.

مثلهم، لجأنا إلى أرض الحب المفتوحة
هاربين من حروبنا ومجاعاتنا،
مرعوبين من فيضاناتنا وزلازلنا،
نصبنا خيامنا المرتبكة وأكواخنا الهشة
واختبأنا داخلها

نستبدل لحظة بأخرى
ونموّه الحاضر بالماضي.

(مصر)

أول مــا ســأفــعــلــه –
بقلم عادل حوشان
أن أبحث عن أبي الذي أتوقع أن يذهب قبلي وسأجده يبحث عنّي
أن أفتح كشكاً لبيع السجائر
أن أتفقّد جيبي لأتأكد من وجود مفاتيح الباب والسيارة
أن أوسّع حذائي قليلاً
أن أقشّر الجلد الميّت في سبّابتي اليسرى
أن أغلق كل منافذ الكهرباء وأصغي الى الهواء
أن آخذ لأخي الأكبر زجاجة نبيذ من النهر ليقضي على تردّده الدائم
أن أطلب أن يتحوّل رماد سيجارتي هواءً لكي لا يتسخ قميصي
أن أرى كيف تصدر الأوامر
أن أجد طريقةً لفقدان الصوت لساعة واحدة
أن أذهب بعيداً
أن أطلب من صانع الخشب، هناك، أن يعدّ لي مساحة 4×4 على الأرض
أن ألمّعها معه
أن أشرب شيئاً له طعم رمّان لكنه بلون الكيوي
أن أرى السياسيين يتدلّون من شجرة شوك
أن يشرح لي أقرب شخص معنى قترة، غير ما قاله عبد الكريم في معناها ليلة البارحة
أن أصبح قادراً على عدّ الأشخاص الذين عرفتهم من دون أن أخطئ أو يصيبني الملل
أن أزيل شعر يدي من دون أن أفكر في ما سيقوله أخي المتديّن
أن أنام ليلتين متتاليتين من دون منبّه
أن أدعكَ ريش طائر صغير من دون فزع
أن أرى أحلام المسنّين تتحقّق من دون أن يفهموا لماذا
أن اخرج رئتيّ لأرى كيف أصبحتا بعد 35 عاماً من التدخين
أن أحصل على هدية، جهاز نوكيا ذي الباب الانزلاقي، وأرميه قبل استخدامه
أن أقسم الشمس نصفين وأرتّبهما أحدهما الى جانب الآخر بشكل متعاكس
أن أرى امرأة تعطيني ظهرها وتبكي من دون أن اعرف لماذا
أن أجد أشخاصاً يكتبون رقماً ويضعون له ظلاً عن عمد
أن أجد عمالاً يمضغون رصيفاً وأعمل معهم
ألا يتحدث عبدالله ثابت الإنكليزية مدى الـ…. حياة
أن أفقد الرغبة بمعرفة مدى قدرتي على إطلاق رصاصة من Shotgun على رأس قاتل قصير القامة
أن يكون بيدي ورقة لإعلان إجازة رسميّة لكل الموجودين
أن أمزّق قبّعة يحيى أمقاسم الصوف
وأن يكون في إمكاني التنازل عن كل ذلك حين يكون شرطاً لأن أستمع إلى أرياف تحكي بطلاقة كيف كانت تجد صعوبة في إيصال ما تريده لي عندما كنّا هناك وهي تحاول أن تخفي لعابها طوال 15 عاماً بكمّ قميصها الطويل.
(السعودية)

غائبون لشراء بطاقات هواتف –
بقلم نصر جميل شعث
(اهداء إلى الشهداء واليتامى في غزة)
خمس دقائق لحضنك مرتين
أعطنِي خمسَ دقائق لأثبت لك أنني لا أبالغ كالشعراء صانعي التماثيل من وسخ أظفار الشيطان، وذابحي الطيور التي بالغ السجناء في عدّها؛ بشعاعاتٍ استلّت من تلاقي الشمس والشيطان الذي لا ينام. نحن لم ننم كسائر المرضى، لكن إذا فكرنا في النوم ننام. ولم نسافر في التفاصيل، إلا لنسرع في وصف الأجندةِ بالحبلى!
خمس دقائق أوسع من أي عتبة ومن كل هدنة. خمس دقائق زمناً لحضنك مرتين، لا على عتبة بيتٍ ولا على سلّم مقهى ولا تحت صيف مزراب قديم. خمس دقائق لتصريف دموع عاشق غادر مراياه، وراء ظهرك؛ لأجل الصمود في وجه عاشقة لم تغادر المرآة. خمس دقائق قبل أن يجمد ماء النشيد، قبل أن ينقص في عين ويغلي في أخرى، وقبل أن تحزّ في نفسي زاوية الغياب. أعرف لا تحبّين الأخطاء الجديدة ولا الضحك الثقيل…
لم أسرق من لسانك معرفة الظلال، لكن حضوراً فائضاً كالرمل عن رقبتك اللدنة الظمأى، والأشبه بخشبة رقّ العجين ما زال عليها غبار القمح وصدى الأساور وأثرٌ من رائحة الجوع هناك؛ لكن احتمالاً عالياً كموجة السمّان… يقول: خمس دقائق كافية أيضاً، ليؤمّن السقوطُ غيمةً من خمس دقائق تشربُها كثافةُ شَعرك الذي يكفي جمالُه ساعةَ الحائط عن التطلع في المرآة. خمس دقائق للعاشق، كي يخبّئ الماء في اسفنج كتفيك، ويعيد التطابق بين ظهركِ والقميص الشفاف الفضفاض.
لا وزن لغيابكِ
لا وزنَ لغيابكِ…
هو بخفّة الكأس التي انقلبت على أريكة من إسفنج.
هو ثقيلٌ كدعابة امتلأت بنيّات السماء في عينيكِ.
هو مجدول كظهر كرسيّ يحجب رؤيةَ الساعة المتروكة على الطاولة ليومين، بجانب كسرة خبز وزجاجة طحلبيّة.
لا وزن لغيابكِ…
هو قطار سريع تقوده عواطف الراكبين.
ومن قلقي أسمّي كومة الماء تحت القصيدة رئةً تتنفّس هواء ستارةٍ تحرّكها الرموش، وأبرّر سقوط الثلج بغزارة على جناح الغابة القريب!

لا وزن لغيابكِ…
هو ليس قاموساً في حقيبة، أو رأساً في خيال.
هو ظلّ كلمةٍ عند البحيرة صارت بيتاً كالمثلث من خشب، سطحُه انقلابُ قاربٍ (هكذا مازحني صديقي العراقيّ)، وصححتُ، رغم غيابك هذه الليلة أيضاً:
“البيتُ قاربٌ إذا أتى الطوفان”!
أشياء لامعة
سأخبر ذهابكِ الإضطراريّ، هذا الليل، أن صوتك الذي أعاد نظرتي إلى الساعة؛ دليلُ عينيّ التي قابلتِ المرآةَ عرَضاً وهي تبحثُ عن أشياء أوّلها: مفتاحُ الزجاجة اللامع كجناح طائرة في نافلة السحاب.
سأخبر ذهابك الإضطراريّ، هذا الليل، أن يدي الصافنة فوق ركبتي مركبٌ على جبل.
وسأخبر ذهابك الإضطراريّ عن ريح عمّرتِ المسافة بين وجهي ووجهكِ برسوم جلبتْها من كراريس الصغار: جرس ببحة اللون الشفيف، وحصانٌ ممسوسٌ من رقبته بما يشبه طريقاً من ظلّ تمشي عليه الحياة محمّلة بنهرٍ رياضيّ؛ على أسماء روافده تقع هدايا يغلّفها حدسٌ يعمّد كلّ أشيائي في يديك، وأولها: مفتاحُ الزجاجة اللامع كجناح طائرة في نافلة السحاب…!
لا ندم في القصيدة
الليلة أيضاً، سأخبر طريق القدْس التي تقصدينها غداً أن لا ندم في القصيدة؛ لأنّ النار التي حرقت أصابعي أبعدتْ فمي وطهّرته من دم الأخطاء.
وأحتاج أن أقول لهبوبٍ في رجوعكِ الإضطراريّ، قَسَمَ بخصلةِ شَعركِ الحرّ سطوعَ جبهتك الجميلة أنّ: ثمة تاريخاً للأمل في لسان إمراةٍ تشبهكِ، استراح على سطح لساني، قبل أصباغ الشراب.
حتى بعد القهوة هو لوحٌ لكتابة أسماء الشهداء بأسنانٍ بيضاء تجرف الليل، وتقضم التفاحة، وتقدح وهي تطأ حافة الفنجان!
غائبون لشراء بطاقات هواتف
وهذه الليلة عندي لعينيك خبرٌ جديد:
ربحتُ الجولة في لعبة الورق. عشرةُ قلوب حمراء منحتني حبّ التمغّط في وجه الصديق.
اثنان يطحنان الحنين في الهواء: شاعرٌ من غزة ورجلٌ واقعيّ طيّب من دارفور.
لكلّ واحدٍ منّا لكنته التي تتصرّفُ بلغة Grethe المدرّسة المرحة  (مدرّسة اللغة النروجية في مدينة أو جزيرة سفولفار الواقعة أعلى شمال النروج، وتعتبر موسكو أقرب الى المدينة المذكورة من أوسلو العاصمة)
هو يضرب كعب يده بركبته التي لا تصلّي، وينفخ بخار الشاي عن لحظة التخمين.
وأنا أحدّق الى كومة القلوب على الخشبة، وفي منافض الغائبين لشراء بطاقات هواتف من وراء الجبل.
حين ألقيتُ بيدي تحت الطاولة، ونقرت بظفر الشاهد على مفصل رِجْلها؛ خمّن الرجل الواقعيّ الطيّب أني أخبّئ ورقة العشرة قلوب، قبل بداية الجولة!
لأقابل الشهداء في يدكِ
الأحرى أن يُعدّوا القصيدة للعقاب، لأنّ مدينةً دفعتْ في عيدها الوطنيّ أرواح موتاها لأكشاك الورود، وتثاءبت أثناء إيقاد الشموع!
أمّا أنا من غير شرّ هذه الأيام فأنام مبكّراً؛ لأقابل الشهداء في يدكِ التي زرعتْ ورداً مشاعاً ليتامى ذلك البلد الصغير! أو لأصحو على عجل الحياة أكتب عن صغيرتكِ الواقفة كحلّ إلى جانبكِ، ووردةُ شَعرها تطلع من ركبتك! ولكي تكسبي ضحك الحياة بجانبي، إنتقي لي صوتاً غريباً من لسانها، وهو يحمل بلّورة الحلوى أثناء تجريب اللغة. ثم قولي واضحكي: “هذا هو اسمك” في مذاق ابنتي!
خطورة الأحلام
بعدَ وقت قصير كاستناد يدي على فترينة الملابس وخروجها من برودة الزجاج للحاق بباب المترو…
تضرب رأسي فكرة مثل كرة الصوف التي ضيّقنا روح أمّنا ونحن نتقاذفها في سماء الغرفة.
الأمّ الّتي علّقتْ على جدار الصالة عروساً من الخيش مقابل ساعة الزينة، لتخفي فيها إبر الحياكة؛ لم تكن تعرف أن أحلامنا الأولى ستلمع في عروس الجدار، وأننا سنبكي غداً على المعلّقةً في رؤوسنا المحشوّة بأحلام كافكا.
الأمّ التي رأت أمس صورتي التقنية بعين واحدة، ولم أر العدسة الجديدة على عينها الصامتة تحت الشاشة البيضاء؛ تسألني عن مرح النساء في الثلج، وعن وزن ملابسي في أحلامي، ثم تشكو من نار الخضراوات في سوق المدينة.
الأمّ التي تحبّ الأمهات، ظهرُها إلى الخزانة على جارور الطوارئ وملابس أولادها الداخلية: مقصّات قديمة يعوزها التجليخ، قدّاحة، صنّارتا صوف، وظرفُ شمعٍ شفّاف في الزاوية القربية من يدها
التي عقدَتْ صرّة أزرار مختلفة.
الأمّ التي أخبرتنا أن الشعوبَ تعلّق الأجراس في الزوايا لتتسع، وعلى جباهِ حصن الأسواق لتسرع؛
لم ترني الآن وأمس: وضعتُ في رأس سريري ساعة المنبّه على مرآة صغيرة زرقاء الظهر، كي تردّد الجرسَ لصورتي في البرواز…
ولكني حلمتُ أن تمثالاً يدبّ على ظهري من تحت السرير، وأنني أجري على الفقرات عكسَه، عابراً رأس السرير، خارقًا البرواز ومعميّاً بصورة حالم غنّى: لستُ مفاجأة النار للأفعى، لكنّي سقطتُ من الكلمات في شربة الطائر!

(فلسطين)

حداد التانغو –
بقلم نسيمة بوصلاح
ريش الكلام
يسير الغبار على رسله قادماً نحونا
يُشيع الحكايات ملء الهبوب
وملء اللغات التي كانها برزخي
قبل بدء الكتابة
يحدّث عن طفلةٍ كنتها،
حين فصّلت الشمس للكون فكرتها في علوم البصر

غواية أشيائي الذاهبات إلى نبع أفراحهن
ترجّع لحناً قديماً،
رماه مغنٍّ قديم هنا،
على بعد شبر من النافذة
على بعد أرجوحة من هسيس الحبال

تراءى صراخ الأيائل يعلو
على صهوة السطر والمنحدر
وكنت أنا…
أغلّق نافذةً للكلام بعيد المحاذير
أقرأ ما خلّفته الرتابة في الطين
فتُسلمني فضة الروح
سخفَ المحابر،
عادةَ أن أقتفي ما يقول التراب
وما لا يقول
وعادةَ أن أحتفي بالحُفَر

أرتّب للفجر موعده الفارغ المنتهي
كصرير البداءات في داخلي
عندما وزّعتْه الكتابة عادلةً
بين رجم البلاغة
والاعتذار لنبل الحجر

أقصقص ريش الكلام المغلّف بالصحو
لكي لا يحلّق بعد الغروب إلى أفق ليلٍ رمته الكناية،
في ردهات الخيال المريض بأسرار ليلى

هناك …
جثا العامريّ
صلّى صلاة المغامر في حيّها
وأودع أسراره غيمةً
قيل ليست تُجيب دعاءَ الهطول
ترجّل عن شعره متعبا

تفقّد زوادة الكلمات ونام
يباغتني وجهه الآن منتعلاً شفتيه
ويركض خلف الكلام المكدّس في الحلق
أذكر أني كنته كاملةً كالنعاس
وكالريح تبدأ من داخلي
كلما عنّ للكون أن يتثاءب من نومه
أو أن يصفّف شعر سيجارته بالضرام

وأذكر أن ضفاف الحقيقة ضيّقة
كنعال الصغار،
وأن الرتابة لا ريب فيها
وأن الصباح مُحالٌ على ليله في الظهيرة كي لا يلام.
مكاشفة
وحيداً تلقفته الطرق،
وجيش هزائمه بايعه
وحيداً يسافر في دركات السماء التي
هادنته قليلا،
ليبقى المطار مكاشفةً للذي ودّعه
وتبقى الخرائط مشروع تيه
ويبقى الحنين
جوازاً لسفراته الرادعه
ولا شيء غير الأفول المعلّق فوق الغيوم
وغير خطاه التي أنكرت حيّنا،
حين أوحى لها ظل تلك المسافة أن تتبعه

صديقي الذي
تعرّت أساريره الدامعه
تقاذفه اللغو والطائرات ومكر المنافي
وفزّاعة الحلم والأقنعه

صديقي الذي
تشبّث بالله والأمتعه
كمثل البريد الذي لا يجيء
يعرّي جهات الخريف المكبّل بالصحو،
حين الأجندة تهفو إلى الوقت كي تلسعه

يعرّي جحيم اللهاث الذي يقتفيه الحذاءُ على عتبة الحظ،
حين تعضّ التعاسة فانوس خطوته فجأةً
فينفث لله ما أوجعه

صديقي الذي
تنام على خدّه زوبعه
يعالج بالظلّ قهر الغياب
يشدّ على همهمات القصائد والأغنيات،
لكي يصبح السقف أطيب عند انقشاع النوافذ،
كي يعرف البيت من صرّعه

يحطّ الجدار على كتف المعطف الوبري الذي ضاق عنه صقيع السفر
وذاك صديقي
سماء… وتنقصه الأشرعة
ليصبح بحراً كثير الملوحة والميّتين
ويصبح للسر مستودعه
صديقي الذي..
كان يوماً هنا،
فرّخت في خطاه الفصول التي ظنّها أربعة
يصعّر للريح والطيّبين
ويشعل في صيفه عتمةً
لأقرأ كفّ اللغات الغريبة في دمعه
ثم أبكي معه…
رنين
عليَّ أن أطرح كل هذه الحلى في مخابئها
كي أسمع رنينك داخلي.
سورة الموج
وحدها السفن تعرف هرج البحر
ووحده البحر يعرف ثقوب السفن
والداخل بينهما يوسوس في صدور الموج.
مروق
كرات الثلج
التفافات البياض على الصقيع
شهقة الماء في الجحيم الباردة للغيم
قطن الذين لا قطن في وسائدهم
لا تشبهين شيئا أيتها المارقة على كتاب الصحو.
ريح
فلتمنحني القليل من الصبر يا الذي في كثافة غابة
لن أصير ريحا إلا لكي تتثاءب بعمق.
زعيق
أنتِ التي تمضين سريعةً كموجة تسطو على مخيلة الشاطئ
مهلاً
تندم الموجة عندما تنسى القليل من ملحها على أقدام العابرين.
زعيق ثان
أيتها المصابة بفتق في الرأس..
يرشح الهواء من ثقوب رأسك، وتنزفين
أيتها المصابة بفتق في القلب
لا يرشح شيء من ثقوب قلبك وتنزفين
تذرعين الشوارع بالورق
وتفرقع أصابعك في أذن النهار
أنا الريح سأكنس الشوارع من نقرات عكّازك الأبكم
وأشيع في الناس أن النهار في شبهة الماء
وأن الليل أعمى بالقهوة والتبغ
وأنا المبصر الوحيد بينهما
لا أرى إلا الطين الذي لن يخرج من أصابعك
أصابعك والباب واحدان أيهما المغلق
يقربك البهلول الذي صديق الهواء
تقربك الحبال وزلة القدم
والكدمة الصغيرة على الركبة اليمنى.
وتقربك الكتابة إلا قليلا.
(الجزائر)

تـربـيــة الألــم –
بقلم عبد الوهاب الملوح
الجرح
لم يكن عميقا؛ لا لون له؛ لم يكن مفتوحا؛ لا شكل له؛ ليس ثمة شيء يدل عليه. كان ينظر بعينين متألمتين ذلك الجرح في عمق الروح.
جمرة اللوعة لسنوات طويلة ظلّ يبذر أكفّ الأطفال بسمات
يُسرج أحصنة الريح للمراكب
يقشّر الغيم لنساء اليأس
لسنوات اخرى ظلّ يعزف الليل مقطوعات رعوية لسكان المدن
يخلع على العشّاق سترته
يحجز للبلاد سماءً في دمه
كبُر الأطفال
عادت المراكب محمّلةً
تفتّحت نساء اليأس مزاهر
خرجت البلاد تتفسح مع الخونة
ولا يزال هو كعادته يوقد النار بجمرة لوعته.

فخاخ
لا يكفّ عن تدبير مكائد بالفرح
يهرّب الأشجار للموتى
يهب الشعراء طين صرخته
يغسل المساءات بآهات خطواته
وما ينزف من صمته
لا يكفّ عن تدبير مكائد للفرح
غير أنه يقع في فخاخ الألم
كلام لا يهمّ أحداً
هذا وقت للحزن فقط؛ والمقبرة مكان جيّد لتأمل القمر.
المدينة مقفرة إلاَّ من حزني. الشوارع عويلي والأرصفة ما عادت تتسع لضرورة البغاء الأكيدة؛ لا أحد هنا غير خطاي تلملم سلاميات الروح.
منذ قليل رأيتُ روحي مشنوقة في سوق الخردة والشمس تُطعمها مرارة الوقت؛ ألقتْ عليَّ الأشجار تحياتها؛ أودعتني لحاءها ومضت هي بدورها تبحث عن زمن آخر؛ لا برد في المفاصل غير أن بكاء عاطفتي أتلف الكبد؛ أنا المسكون بفواجع العصور؛ لا ريح تسندني الآن؛ ما زلت واقفا لم أسقط؛ ما زلت أمشي لم أسقط؛ ومنعرجات الأزقة تختلس نظراتي العمياء المطمئنة؛ أذكر ما قرأتُه منذ حين “ما ثمّ إلاّ حيرةٌ لتَفَرُّق النظر”، غير أن شمس الليل حارقة وقلقي قديم لا يفي بالحاجة.
حذائي أوسع من رأسي الذي كبر بفعل الغباوة؛ سأحلق شعري الآن وذقني أيضا بمقصّ النسيان؛ السجائر أيضا لا تفي بالحاجة والحانات مغلقة؛ أيُّ بلادٍ هذه لا خمر فيها غير ريق الدعوات بحياة السلطان؛ أحتاج أن أسكر ولا حبيبة تمنحني من نعاس نظرتها قطرةً واحدة.
الوقت فاجعة والجدران ظلال تشرّدي؛ هل يليق أن أسكبها في فنجانَي قهوتي الفاسدة؛ سيكون جيداً أن أنام الليلة في المقبرة واضاجع القمر.
البلاد
اليد وهي تشرع في ترتيب الثوب مجدداً
افتقدت أصابعها
تكاثرت الدبابيس في الكبة وتشابكت
لم يعد هناك خيط واحد يصلح.

(تونس)

لا أعرف كيف وصلتُ الى هنا –
بقلم زكي بيضون
في فم الوحش
وحدي في فم الوحش، ولا أعرف كيف وصلتُ إلى هنا.
لا أرى ملامحه، بل فقط جوفه الهائل يحيطني من كل جانب ويغوص في الفضاء مبتلعاً مسافاتٍ خيالية.
عالقاً بين هاويتين، تارة يخيّل إليَّ أنني أسقط وتارةً أنني أصعد، ثم أكتشف أنه في إمكاني أن أوجّه مخيلتي بحرية في جهة أو في أخرى.
نسيمٌ بارد يلفح عنقي، أتحسس المنطقة المصابة فأكتشف عدم وجود أي هواء. هنا ألاحظ واقع أنني لا أتنفس، وإثر ذلك تعتريني إلفة غريبة.
لكن أين يمكن الإلفة أن تتماهى مع الغرابة إلى هذا الحد؟ هل هذا يعقل؟ هل متّ؟ هل تكون الأنا المنغلقة على نفسها من أمام العالم وحشاً أعمى يجترّ ظلامه إلى ما لا نهاية؟
أحاول أن أعود بذاكرتي إلى لحظة وصولي إلى هذا المكان. بعد لحظات مضنية من التركيز تنتابني دوخة حادة وأتفادى في اللحظة الأخيرة السقوط في بحيرة اللعاب حيث أقف. هنا يخيَّل إليَّ كأنه قد مرّ عليَّ دهرٌ في هذه الحالة. حتى الخواطر والتساؤلات التي تشغلني في هذه اللحظة يبدو لي أنني عشتها مرات لامتناهية من قبل.
ماذا يحصل ومنذ متى أنا عالقٌ داخل هذا الزمن الدائري؟ الغريب أنني أذكر طفولتي وشبابي ومجرى حياتي اليومية بدقة لامتناهية، إلا انني أعجز عن أن أعثر فيها على رابط أو مؤشر يساعدني في تفسير واقعي الجديد (الجديد؟). كأن الأمر يتعلق بزمنين مختلفين يتوازيان في وعيي بدون أن يلتقيا. أشعر بالإعياء، أهمّ بالجلوس عند قاعدة إحدى الأنياب لكنني أعدل في اللحظة الأخيرة خوفاً على بنطالي من البلل. هنا أنتبه للمرة الأولى أنني في ثياب العمل. لكن مهلاً، لا يمكن أن يكون هذا هو الموت. كل شيء هنا هو من صنيع مخيلة حية ودنيوية للغاية! وجودي في هذا الفم العملاق قد يكون لاوعيي الأوديبي استلهمها من الأسطورة التوراتية عن إقامة موسى في جوف الحوت. الهواء البارد الذي لفح رقبتي يذكّر بكليشيهات أفلام الأشباح. وجودي في ثياب العمل قد يكون علامة على المكان الذي أوجد فيه في هذه اللحظة. نعم، لا بد أنني كالعادة، وبعد الإطمئنان من عودة جميع الزبائن إلى غرفهم، قد أغلقت الباب، أطفأت الأنوار، ثم تمددت على الكنبة العريضة في آخر البهو.
أغمض عينيَّ لبعض الوقت ثم أطلقهما في فضاء المكان. تضاريس الحلق تتراص وتتقاطع بثقلٍ تماسيحي ثم تلين شيئاً فشيئاً في اتجاه الزلعوم العملاق. هذا الأخير يرتعش بلا توقف ويتراءى لي مخلوقاً حياً ينتفض داخل ظلام جسمه العالق والعقيم من الحواس.
هنا أتذكر طفولتي حينما كنت أمضي ساعاتٍ أمام المرآة أحدّق الى فمي المفتوح على وسعه كأنه بوابة إلى عالمٍ آخر. لطالما آمنت أن اللغز الأول الذي اصطدم به العقل البشري وتوقف عنده طويلاً كان لغز أجسامنا بالذات. لو وضعنا الخرافة الطبية جانباً فلا يمكن شيئاً أن يكون أقل بداهة. الكانيبالية ربما كانت محاولة أولى للفهم. كل العوالم الداخلية والعلوية التي تراءت لنا في ما بعد لا بد أن تكون قد خرجت من هنا، من اللحم والدم والأحشاء.
لكن لماذا أفكر في هذا الآن؟ أحدّق الى الزلعوم فاتحاً فمي على وسعه ثم أصرخ بأعلى صوتي. أنقُز على الفور من فكرة أن تُسمَع صرختي في الفندق. بعدها ولثوانٍ عدة أسمع الصدى المخيف يعود إليَّ. وضوحٌ ما يصدم ذهني، في البادئ أعجز عن تميزه بسبب قربه المعمي، إلا أنه يتسارع بعد ذلك بحيث أشعر كأن وعيي يسبقني. هنا غشاوة تسقط من عيني وأدرك معنى الإلفة التي تتملكني منذ البداية: إنني أقف في هذه اللحظة داخل فمي بالذات.
لا شك في ذلك، فذاكرة لساني تحفظ المكان بأدقّ تفاصيله عن ظهر قلب. تلك الحفرة الصفراء المقرفة في سقف الحلق هي الحمو الذي يزعجني منذ أيام، وما كان يبدو لي أنياباً حادة وعشوائية ليس سوى الصف المهذّب لأسناني الأمامية.
لكن أيّ حلمٍ هو هذا؟ سبق لي أن اختبرتُ أحلاماً كنت أفطن فيها لواقعة أنني أحلم، لكن لم تكن أفكاري وتحليلاتي على هذه الدرجة من الوضوح. كل شيء حولي يبدو حقيقياً للغاية ولم يسبق لحواسي أن كانت على هذا الحد من اليقظة. ربما لهذا شعرتُ بشيء من الخيبة عندما توصلتُ إلى إستنتاج أنني أحلم. إذ منذ فترة، ضجرٌ وبلادةٌ عميقان يسيطران على حواسي ويضفيان على الأشياء حضوراً باهتاً. كأن هناك حاجزاً شفّافاً بيني وبين الواقع يمنعني من لمس الأشياء التي تمرّ بي. كأن غياب الإحتكاك بيني وبين الحاضر يجعل الزمن يمضي بسرعةٍ خيالية. كنت أشعر أن حياتي تفوتني، وفي أعماقي كنت أتوق إلى صدمة توقظني من غفلة العدم المُدرِك التي أنا عالقٌ فيها.

أجتاز تلك الفجوة العتيقة في أسناني الأمامية ثم أتسلّق شفتي السفلى المتشققة بفعل البرد. أقف وأحدّق الى الخارج.
لطالما اعتقدتُ أن العقل البشري غير مبرمج على السقوط. الحيوانات الأخرى تبدو أكثر نباهة منا على هذا الصعيد. ما يشلّنا لحظة السقوط ليس الخوف من قوة الإرتطام بل هو بالأحرى اللافهم، عقلنا وجسمنا يتخبطان خارج حدودهما الطبيعية، نظراتنا وانفعالاتنا ترتد نحو الداخل. لا، معنى السقوط يتخطى البداهة الفارغة لتفاحة نيوتن. هو يكاد يكون قفزة خارج العالم الفيزيائي، غوص في اللامرئي، ورقص مع الأشباح.
اللافت في هذه اللحظة ليس غياب الخوف بل بالأحرى استحالته أو يقين الهاوية الذي يجعله متعذراً على التخيّل.
أقفز في الفراغ. بطريقة ما أشعر أنني أهوي في كل الإتجاهات دفعة واحدة. أنتبه أنني لم أعد أملك جسماً وهنا يتجلى أمامي عينياً معنى السقوط المُعجِز الذي طالما احتجب عني، وأدرك أنني الهاوية.
لا أعرف كيف وصلت إلى هنا، لكنني أعرف أنني كنت هنا طوال الوقت، وأعرف أيضاً أنني، وللمرة الأولى ربما، في قلب اللحظة.
المرأة التي لا أعرفها
أقابل إمرأة لا أعرفها، أقول لها: تبّاً، أعرفكِ منذ ولادتي! تعيدين اليَّ حنيناً دافئاً، ذكريات لم أعشها، أحلاماً لم أصدّقها، حياةً لم تكن لي. أن أردم هاوية البداية المنسية، أو أقطع حبل ولادتي الأبدية.
كلما هجرتني امرأة أعود لأرتمي في أحضانكِ أيتها المرأة التي لا أعرفها.
لأنّ الطفل انتظر كثيراً حتى نسي نفسه، وبقي الإنتظار. لذا لا يزال ينكش بحشرية في عيون الغرباء كمن يبحث عن كنز فقده منذ مدة طويلة. لأن الطفل الذي لم يكن طفلاً، صار رجلاً مثقوباً، لأن قلباً مثقوباً في إمكانه أن يبلع البحر بدون أن يرتوي، ولأن الطفولة التي لا تعاش، وحدها نعيشها أبداً.
أرجوكِ لا تهجريني أيتها المرأة التي لا أعرفها، فأنا كما قلت، أراكِ في كل وجه، أعرفك منذ ولادتي.
مختلس الفجر
استيقظ مستبقاً الفجر. تسلل إلى الحمام. بعينين ضبابيتين أعلن ارضية السيراميك، المرحاض ثم المغسلة. اصطدم بنفسه في المرآة. حاول عبثاً أن يهرب من نظراته. في لحظة مفاجئة من الوضوح، تساءل: إلى أين؟ هنا تذكر أنه منذ عشر سنين، وفي الظروف نفسها تقريباً، نظر في المرآة وطرح السؤال نفسه. فكر أنه على الأقل عرف الجواب عن السؤال الأول.
غروب
بحّار لا يملك شراعاً، يبحر بقلبه الممزق.
الكلاب والعرب
– أنت مجنون، الكلاب لا تتقصّد العرب في باريس.
– إسمع، ربما لا نملك التجربة نفسها، لكن لا يحق لك…
– لا أريد أن أناقش، لا يوجد موضوع للنقاش، اليوم تتهم الكلاب وغداً عقدة إضطهادك ستزيّن لك أن الأشجار تتقصدك.
– تقول ذلك لأنك معتاد على الكلاب في لبنان. الكلاب الفرنسية متحضرة ومدربة وهي لا تعوي على أيٍٍّ كان.
– لم أشعر بذلك لا هنا ولا في لبنان، الكلاب تحبّني.
– حسناً، ربما الكلاب لطيفة معك، لكن لا يمكنك أن تعمّم تجربتك.
– ماذا؟ أنا الذي أعمّم! أنت تعمّم موقف فئة من الفرنسيين على مجتمعهم بأكمله، والآن تعمّم أفكارك المعممة عن الفرنسيين على كلابهم.
– أنا متأكد أن الكلاب تعاملك بالطريقة نفسها، لكنك عديم الإحساس ولا يمكنك أن تنتبه إلى ذلك. مثل المتوحدين، أنت تعلّب العالم في معادلة ولا تستطيع أن تخرج من منطقك.
– أترى، ها نحن ندور من جديد (أصنع بيدي حركة عصبية على شكل دائرة).
– إسمع، الفرنسيون لا يستطيعون أن يحزروا أننا عرب إلا عندما نخبرهم، فكيف تريد من كلابهم أن تعرف؟
– حاسة الشم عند الكلب تفوق بما لا يقاس تلك الخاصة بالفرنسي.
– لو قلت لي إن الكلاب تتقصد السود فستبدو الفكرة أقل هذيانية. العرب هوية ثقافية وليسوا عرقاً. يوجد عرب سود كما يوجد عرب شقر بعيون زرقاء.
(أتبسّم من رؤية إشكالية القومية العربية تناقَش من وجهة نظر الكلاب ثم أفكر انه على الأقل في هذا الإطار قد تكتسب الإشكالية معنى ما)
– إسمع، إسأل **. البارحة كنت أتنزه معه في الحديقة العامة. كان هناك إمرأة عجوز تتشمس على المقعد وكان كلبها نائماً بجانبها. كان المارة يروحون ويجيئون بدون أن يحرّك الكلب ساكناً، لكن ما إن اقتربنا حتى استيقظ مهتاجاً.
– كيف تلوم الكلب وأنت ترتدي مثل زعران الضواحي (أدركت أن المخرج الوحيد أمامي هو أن أسلّم معه بالواقعة).
– إذاً انت تتفق معي، الكلاب…
– لا، الكلب لا يمكنه أن يميز، فحاسة نظره ضعيفة، الكلب يستشعر حالة صاحبه.
يصمت وقد ظهرت على وجهه علامات ارتياح.

سـائـق الــنـــزوات –
بقلم غسان جواد
1
إضحكْ هكذا
كما تفتح ذراعيكَ لابنتك ايفا
كما تستقبل الشمس في صدركَ
كما تقفز عن الارض
إضحكْ كأغنية حبّ على اسطوانة جديدة
إشرب العتمة مثلما تشرب الويسكي
ستثمل بعدها بالضوء
ويحضنكَ الهمس الرقيق من كل الجهات
العالم واحد في ضحكتكَ
وانت ترسم على شفتيكَ بهجة المجانين.

2
ذات يوم كتبتُ عنكِ ايضا
أغمضت عينيَّ على رجل واصل السير نحوكِ من دوني
لم اكن انا تماما
وما زلت اجهل ما استطعت ان اخفيه من ملامحي
ليس لي ملامح في الاصل
رجل عادي مرسوم بيد ترتجف.
انتِ لا تذكرينني الان
تظنينني خدعةً
ظلاًّ من الشحوب على جدران قديمة
اياماً بالأبيض والاسود.
بلى…
تعرفينني ربما
كما تعرفين الثلج على الجبال
كما تعرفين الهواء في الهواء
كما تعرفين الاعمار من باطن الكف
هناك ظلال كثيرة على وجهي
وانت لم تتعودي تظهير الصور
لم تغرّكِ فيَّ كآبتي.
يدي امسكت يدي
فمي قبّل فمي
عانقت نفسي
وسرّحت شعر الوسادة،
حدست بذلك الرجل الذي شرب الماء قبل ان ينام
وضع الكوب على مهل مخافة ان ينكسر
لم يستيقظ
ظلّ الماء في جوفه
والكوب الى جانبه
ظلّت الوسادة تحت رأسه طويلا
كأنها قررت ان تؤنس موته.

3
مكشوفةٌ قدمكِ
الغطاء المرقّط بدلة نوم رسمية
فمكِ انفاس من الندم
وعيناكِ مغمضتان على كثير من القلق
لا احد سيوصلكِ غيري
انا سائق النزوات
اقود جفنيكِ نحو نوم عميق
اقود فمكِ نحو قبلة طويلة
اقودكِ بجواري
ايتها المرأة النائمة
لا شيء سيوقظكِ
سوى انفجار قوي في آخر الحلم.

4
أقول للسائق الذي لا اعرفه قُد سيارتكَ على مهل انها تمطر.
هل أخاف على السائق؟
أم أخاف أن تتدهور بصماتك تحت العجلات؟
الخوف شجرة من الاشواق، أتجوّل في افيائها واقود مسرعا
أمامي المرآة العتيقة ولوحة الحبّ ومنحوتة القُبل
لديَّ نظرة واحدة انقّلها كضيف مرتبك.
هذا المنزل معروف الزوايا
ينتصب بعظامه الجافة، وخوفه المرموق
أخاف اذا علّقت اغراضك ان يقضي نحبه بين ذراعي
هذا المنزل ممسوس وكلّما رآني عاشقا سال في حضني
كمن يضم الى صدره حبيبا سيهجره بعد قليل.
أنظر في مرآتك العتيقة
انا نرسيس البشع
تكفي نظرة واحدة كي يتفسّخ وجهي في ماء حبّكِ ويسقط.
كل ما في الداخل في الخارج، وكل ما في الخارج في الداخل. انا انتِ، سجينُ منحدرات واحلام.

5
الحجارة وظيفة
وأنتَ لا تجيد تهشيم الهواء
سلالة توتر تتناسل في جسمكَ
لكنه كلام وحسب،
رجل عاد صباحا
قطف عن جسمها رغباته
أودعها قليل حبّه،
قالت: غدا تبدأ دورتي الشهرية
حبّك لن ينمو…
6
الكلمات تخرج من فمكِ رغماً عنها
لم تعد مهمومة بالنهار
غادرت دفئا في سقف حلقكِ
واستحمّت.
تلك انفاس، وليست تفاحاً طرياً
تلك احرف بمقاس الشفتين
وهذا لسان ترك على قلبي بركة من الافتقاد.
تتحدثين…
كحقنة من لغة
كرعشة اثر ارتطام عظيم
كزغل بين العينين عند رؤية الزنابق.
أصافحكِ وأدير ظهري نحوكِ مغادرا
كل هذا الصمت على أوراقي
كل هذا التجوال في ممشى حياتكِ الطويلة
كل هذا العالم المليء بكِ
كل هذه الايدي التي تمتد لتصافحكِ بالنيابة عني
كل هذا
جسدي الجديد عندما جلست أتأملكِ وانتِ تنحتين شكلي بنظراتك النافذة.
جسدي منحوت بالنظرات،
وأنا أجول هذا الوجع كسائح او مستشرق.

7
اللغة طائرة قبطانها ثمل،
تفرد حروفها وكلماتها ونقاطها وفواصلها، ثم تستجمع نفسها سطورا، وتطير.
تقودني نحوها…
النوافذ مشرعة للطريق الطويل المتعرج
والعجلات تُحدث تحت الاسفلت عويلاً موحشا.
الكلام المصطدم في سقف الحلق، حروف تهرب.

8
هدموا المنزل الريفي القديم. حملوا هيكله العظمي في الشاحنات. نزعوه كما تنزع نجمة من فلكها، كما يُسحب الطفل من رأسه. ترى؟ اين سيدفنون الجثة الحجرية؟
الشاحنات توابيت المنازل القديمة الى حتفها.
الاشجار حول البيت لجأت الى مخيم قريب. اخذت معها ما يعينها على الصمت وهربت. كانت الجرافات تلاحقها مثلما يفعل جيش عقائدي مع قرية متمرّدة. يدخل الجنود بأسلحتهم، يبقرون بطون الحوامل، يمسكون المسنّين من ذقونهم، ثم يكملون وراء اطفال ونساء هرّبوا حياتهم معهم. الاطفال والنساء والاشجار هاربو الحروب، يرفعون عن صدورهم  فأس الحطّاب الكبير، ويركضون.
قال الممثل في الفيلم: “الاشجار تغضب على مهل”.
حفروا عميقا تحت البيت المجروف. شرعوا بإحضار الحديد والاسمنت والعمّال. هنا النصب التذكاري للمنزل الريفي القديم. هنا حجارة سترتفع، كي لا يعرف المارة موقع المجزرة. كل قاتل يدفن ضحيته في اسفلت يابس، لا احد سينتبه. الاسفلت قبو شرعي للموتى. كبرياء الآلات الضخمة، اثرها المفزع على صدر الارض.

9
خذ الدواء. قلبك يطرق بسرعة وينتابك الموت على شكل خوف ومشاهد. ترى نفسك في الحفرة ممددا. الكفن أبيض لكنك تفضل موتا فوق اغصان مرتبة، وحريقا يلذع مسامات جلدك ويخترق العظام نحو الرماد. في النهر على شجرة يضعونك ويوقدون النار. موت طريّ فوق نهر، وستجد حتماً من ينثر هذا الرماد.
حين تصارح صديقا يقول انك ينقصك الايمان. وتخاف على روح لن تكون في الحفرة. روح تفارق بيتها وتعود الى العدم (…)، حيث لن تحتاج لحما ودما وعظاما، لن تحتاج قدما ويدا وعينا، انما اجنحة من رذاذ كي تطير وتخترق. تستعمل جسدك وترميه مثل حذاء قديم. لا توصي ان يحرقوك. هل يحرق بيته كل من يغادر؟
تخبرك الطبيبة حين تسألها عن احوالك، انك تلامس الكآبة. وان الهلع الذي ينتابك سيزول مع الوقت. الوقت دواؤك الوحيد. اترك يديك وقدميك في الهواء، تجرّع ايامك كمن يلحس ثلجا خفيفا باردا. خذ عينيك فقط. يقولون ان الروح عمياء لشدة ما تبصر. وان العمى كما الكآبة، ظلمة في طرف المكان.
تمشي على الطريق مطرقا نحو دماغك. الدوار الخفيف ليس خطيرا. افتح عينيك وتأكد انك كائن حي. تقود سيارتك على شارع من الاحياء. ليس بين الذين يقودون احد من الموتى، لا تخف. هذا الدوار لا يقتل.
فجأةً تجتاحك الصور. يضمر جسمك ويضطرب نبضك. الصور تؤلمك. ليس في رأسك ممحاة ولا تجيد تحوير الالم.
يؤنّبك هذا الضحك، وتخاف ان تبتسم حتى لا تلفت نظر الزمان.

يغازل الفتيات بنصفه الأعلى –
بقلم ناظم السيد
ساقا أخي الأكبر
أخي الأكبر
فقد رجليه في الحرب
عندما يعود إلى البيت في الليل
يجلس ويفكر
أين تمشيان في هذه الساعة.
***
يده اليسرى بُترت أيضاً
قال في قلبه:
لا بأس، فقدت صفعة فقط.
***
بعد الأربعين تعلّم قيادة السيارة
قادها بسرعة جنونية
بيد واحدة وعناد واحد
كان ينطلق بها مزهوّاً
وهو يشرب الويسكي مع الكولا
ويدخّن ويغازل الفتيات بنصفه الأعلى.
***
أخي الأكبر
يحبّ اللحم المشوي
والعرق
والثياب الوقورة
التي تجعل يده المقطوعة
نوعاً من الزينة.
***
أحبَّ امرأة سبع سنوات
تزوجت
لم يقل اسمها لأحد
لقد فقد رجليه من قبل.
***
يحبّ الأشياء الثمينة
ساعة فخمة
مسبحة أصلية
كنزة أنيقة
وأحياناً يفضّلها على المشي.
***
منذ خسر رجليه
صار كبيراً
الى درجة اعتقدنا
أنَّ الأب والأم ولداه.
أخت بعد الخمسين
الأخت الكبرى
حين يخطر لها المستقبل
تقول أشياء غريبة عن الحياة
تتمتم أمثالاً شعبية
وهناك
بعيداً في عينيها
يلمع
ما كان في السابق دمعاً.
منزل الأخت الصغرى
في المرطبان الزجاجي
بقايا متيبسة من مربّى المشمش
وعلى الباب
قشر برتقال
يقود النمل إلى بيت فارغ.
أحد أخوتي
أحد أخوتي يهوى جمع العدّة والخردوات:
مفكّات
لاقطات
براغٍ
عزقات
مسامير كأنها نظرات بالطول
يجمعها محدِّثاً نفسه:
الخراب وارد في أي لحظة.
الجورب بعد يوم عمل
بعدما استحمَّ جيداً
وجفَّ في الهواء والشمس
عاد الجورب إلى بيته
التفَّ على نفسه
قبضة دافئة
طابة مرحة
كوكباً خالياً من الأقدام.
على حبل الغسيل
جوارب على حبل
تنقّط منها
خطوات
غُسلت صباح اليوم.
مقبرة الأوتوبيسات
مررتُ بها
تلك المقبرة
حيث الأوتوبيسات
متروكة
للريح وللشمس
وأيضاً
للقمر
الذي ينزل كلَّ ليلة
ليتأكد بنفسه
من أنها ميتة.
ما حدث للناجيين الوحيدين
يأتيان يومياً إلى المقهى ليشربا القهوة
الأم التي اقتربت من السبعين
والابن العازب الذي غادر الأربعين
وبينما يفعلان ذلك يتشاجران
دائماً يتشاجران
ودائماً يتنازل الابن الذي بدت على جبهته
آثار جروح بالغة
بعد ذلك ينهضان
يمشي الابن أولاً وتتبعه الأم
إنه يتقدّمها ببضع خطوات
ملتفتاً كلَّ مرة إلى الصوت الغاضب خلفه
ينعطفان الآن
وحيدين
نهائيين
مخبّئين عن القدَر ما غفل عنه
عائدين إلى المنزل الذي
ما زالت إلى اليوم
قذيفة واحدة تسقط فيه
وتقتل عائلة ينجو منها اثنان فقط.
ظلال
عند الظهيرة
ظلُّ شجرة
يستريح تحتها.
***
ينفصل الظلُّ عن صاحبه
لكنه يمشي خلفه
صامتاً، بارداً
معيداً كلَّ حركة
بطريقته الخرقاء.
***
يتمدّد هذا الظلُّ
على الأرض
متعباً
من لعب دور عمود كهربائي.
***
أنا ولدتُ فجأة
كبيراً وقاسياً
– يقول ظلُّ العمود-
أنتَ على الأقل
لديك طفولة
يا جاري
ظلَّ الشجرة.
***
ارتفع الطائر
لكنَّ ظله
بقي ممسكاً بالأرض
وهماً ينوب عن أصل.
***
ظلُّ طائر في السماء
يعود إلى الأرض
خائفاً وقد فقدَ لونه الحقيقي.
لعبة
أحببتها
تلك اللعبة
التي تعدُّ فيها
طوابقَ كلِّ بناية
وكيف في الطابق الأخير
كان نظركَ يغادرك
ويترككَ تحت
وحيداً
مع هؤلاء الوحيدين.
نصائح الآخرين
لا أفعل شيئاً سوى كتابة نصائح الآخرين
أكتبها على أوراق صغيرة وأضعها في الجارور المعتم
بعد فترة طويلة أو قصيرة أعود إلى هذه النصائح
ولا أتفاجأ حين أجدها لا تشبه تلك التي قُدّمت إليَّ
لهذا أكتبها
تلك النصائح
وأتركها هناك تتغيّر من تلقاء نفسها.
هذا الانتظار
في المكان ذاته
حفرتُ طويلاً
وما كان همّي أن أجد شيئاً
أو أثراً أو مقعداً أو حتى عظاماً
كلُّ ما طمحتُ إليه
أن تتغيّر- مع الإصرار- يداي.
مرآة السيارة الجانبية
أبتسم لنفسي في وجوه الآخرين
أبتسم لكلِّ شيء تقريباً
لعبارات المراهقين على الجدران
للبحر الجاهل مثلي
أشمله بنظرة غير مقصودة
أرقص في الحانة مقلّداً آلام الحيوانات
أحتاج إلى مبالغات كثيرة
لأقطع هذا الشارع
لأقطع هذا الليل
هذا النهار
لأطرد حالي من مشاعر
كما تطرد مرآة السيارة الجانبية طريقاً وراءها.
حنان
كدتِ تكتشفين رقّتي
حين دخلتِ فجأة
ورأيتِ تلك القطة الصغيرة التي جلبناها من الشارع
نائمة قربي على الكنبة
وكيف كانت تغمض عينيها ببطء
تحت يدي التي انفصلت عني
وأعلنتْ حنانها

آه نسيتُ أن أقول:
الأشياء التي فيَّ كلّها
تركتني إلى الرقة
تركتني وحيداً وقاسياً
كضرس مات صاحبها.
الألبوم العائلي
في الألبوم العائلي
كيف أنكِ كنتِ تكبرين صفحة بعد صفحة
باكية تحت نظرة الأم
المحتجبة في مكان ما خارج الكادر
ساذجة بين الأخوات
سمينة بين زملاء الدراسة
وفي حين كان الجميع يقفون
كنتِ أدركتِ باكراً أسباباً مقنعة للجلوس
وبعينيكِ اللتين يوسعهما الخارج
رحتِ تنظرين كي تفارقي هذا الجسم
في الألبوم الذي يختزل حياة بثلاثين صفحة
وحدها الاستغاثات
تطلُّ مبهمة وخرساء بين صورة وأخرى
إذ لا يستطيع الناظر
أن يخمّن الصوت المناسب لكلِّ صورة.
ممارسات الهجران
الحبّ هو ما انتهى للتوّ:
في الممر أنهارُ بكاملي
وحولي “بندق”
هرُّ الشارع الذي جلبناه معاً
في كلِّ عضة يقول لي:
الألم أن تعيش بين فكين.
***
أقيس هجرانك
بحركات “بندق”
يركض من غرفة إلى غرفة
وعلى وشك أن يتكلم.
***
أنظري من بعدك:
رجْلي تصطدم بالكنبة
ويدي من فرط إحساسها بي
تكسر
فعلاً تكسر الصحون.

أكره الشعراء تقولين –
بقلم فيديل سبيتي
رجل مطاطي
تفاحتان على المجلى
يتقاسمهما النمل والغبار
بيتهوفن يُمرّ اصابعه على البيانو
نربيش الدوش ينتظر رجلاً مطاطيا يغتسل تحته
بسكويت مفرفط، قشور الفستق، عبوات البيرة المعدنية
دفعة جديدة من الضباط
بيتهوفن يقود النوتات نحو الآذان…
سرير ينتظر رجلاً مطاطياً يستلقي فوقه
ينتظر موته ليحتضنه
رائحة غبار الكتب
دفء كلمات خارجة من فم امرأة بعيدة
الجيران يُقلّبون البصل ويعدون أمعاءهم بطعام لذيذ
شجرة على رصيف تنتظر رجلاً مطاطياً يحررها من جذورها
أصابع بيتهوفن المملوءة صرعاً
اندفاع أخطبوط نحو فريسته
الابنية الواقفة لتصنع المدينة
مال متروك لشحاذ
طفل الحياة الهانئة لا يعرف ما الذي ينتظره
البرد المتشاوف في غرفة المرايا
الفكرة عن المنزل، والمنزل
باب أغلق منذ قليل وسينفتح بعد قليل
هدية متروكة في علبتها
لمعان العمود الفقري على كرسي المكتب
عاطفة ممثلة فرنسية في فيلم رومنطيقي
ضجة المعاتبة والكلام الصريح
التحف في صمتها
أحوال الخلق في أحزانهم الموسيقية
بيتهوفن ربّ البيت مصفرا في لوحات فان غوغ

كان حرياً بنا أن نكتب
كم كان حرياً بنا أن نكتب.
أطفال أعشاش الشقاء
تعالي ننسق الزهور
الحمراء قرب الصفراء والبرتقالية قرب الخضراء
ولنضع باقة الزهور بعيدا من الشمس…
ولا نرأف لبكائها
فلتبكِ
الزهور ليست أعلى شأنا من الاطفال
(يا إلهنا كان عليك ان ترمي الشِّعر في عيون الساهين عنك)
تعالي نصنع جنّة صغيرة هنا على الطاولة
وبعين مكبّرة
سترين نهراً من القهوة
ونهراً من الماء
وفتات التشيبس والفستق
وحياة أبدية للجراثيم…
على طاولتنا جنّة الجراثيم.
تعالي ننسق الزهور
واحدة لفرويد وأخرى لكارل ماركس وواحدة لكافكا وأخرى لويلهلم رايش
لكل منهم باقة زهور يستر بها نظرته الى حياته…

وانا رأيت أحد عشرة كوكبا والشمس والقمر لي ساجدين
ولم يكدْ لي أحد
لمَ أنا ممنوع من أن يُكاد لي
ألهذه الدرجة اختفائي؟
ولتشقَ الازهار
ولتذبل
ليست الازهار أعلى شأنا من الاطفال
والاطفال ليسوا أعلى شأنا من عصافير تقع من العش
لن تجرّب الطيران.
وأنا أيضا مضت الغيوم وشرّدتني
ولم تنظم بي قصيدة
ألهذه الدرجة اختفائي؟
لا ضير من التأفف
تقفين هنا
ضفدع حائر امام مستنقع متجمد.
كان في إمكانكِ ان تطلبي ضمّة الى صدري
لكنكِ فضّلت الصمت،
كالموج والغيوم
كجثة قبل ان تتحلل.
أن تسأمي
أن تتأففي
أف واحدة لا تضيرك
لكنه الصمت الذي يتأكلك
ويجعلك قطعة واحدة
بعينين
ورجلين
ويدين
ولسان مربوط الى الحلق
الصمت الذي تفضلينه على كل فضائلكِ
تعلنينه كصقر طار توّاً عن ساعدكِ
وها أنتِ تقفين في فيديو اوقفتُ كل ما يتحرك فيه
حتى جسدكِ
تركت الشمس وحدها تمر في قوسها
وظلّكِ يتحرك في دائرة
ولم تغضبي
حيرة وصمت فقط
ولن تطلبي ضمّة
يداي اللتان أمددهما ستبقيان معلقتين في الهواء
قلقي ذاك
مقيت ستقولين
“قلق الشاعر الذي فيك”
أكره الشعراء
أكره الشعراء
سيعلو صوتكِ
كبئر عميقة
“جنونهم لا يُحتمل”
ثم تأخذين رأسك بين يديكِ
وتعصرين دمعتين
أكره الشعراء
ببطء ستقولينها هذه المرة
تتشفّين من كل حرف
والشمس لن تتوقف الا عند الافق
وظلّكِ سيختفي
وستبقين وحيدة مع يديَّ الممدودتين في الهواء
ولن تطلبي ضمّة
لن تتأففي
على رغم ان الطلب لن يضيركِ ابداً.
إعادة تكوين
تعال الى المنزل
هنا يمكننا صنع فطائر
او شيء مما تبقّى في البراد
سيطرق بابنا جارنا المهرّج وسيضحكنا
وسيمر الوقت بطيئا
تعال قد تعود الى صدري
وتصير انت من ضلعي.
ولادة
ستقولين ان التراب يمتص ماء قدميكِ
وتظنين انكِ عدت الى الطين
وسيرفعكِ رجال على أكتافهم
وتضحكين لتراب ينهال على وجهكِ وأسنانكِ البيضاء
وستظنّين انكِ ميتة
لكن لسوء حظّكِ سيأتيكِ الطلق في تلك اللحظة.
ظنون
السلحفاة المتروكة على سطح المبنى
ملّت المسير من الحائط الى الحائط
جلخ الاسمنت بطنها وأظفارها
تحلم بالطيران وبزلزال يسوّي السطح بالارض
السلحفاة المتروكة
تهذي بأنها نصف كرة
يركلها اللاعبون في ملعب مزروع بالخس.

مــــزمــــــــــــــور  –
بقلم فوزي يمين
متاهة
كي لا أضيع في العودة
آخر الليل
أرمي أعقاب سجائري ورائي على الطريق
ثمّ بعدها
وبوضوح
يسلّمني الليل الى النهار
كعميل تحت سطوة الشمس.
أوّل الحرب
بلمعة ضرس تبدأ الحرب
تخرج زواحف من البطون حاملة مصارين من نار!
خريف
يا أوّل المتناثرين في الحبّ
ورقةً ورقة
يا شجرة البؤس!
ليل ونهار
ماذا لو استيقظ الليل ولم يجد أحداً من الساهرين
فجلس على كرسيّ في الغرفة منتظراً عودتهم
وفي هذا الوقت بالتحديد
سرق أحلامهم النائمة تحت وسائدهم؟
ثمّ
ماذا لو نام النهار وفاته أن يأتي؟
هواء
لا أول الغيم ولا آخر المطر ولا ما بينهما،
عصفورٌ واحد يحلّق كفيلٌ استرجاع الهواء.
ترنيمة
النمل مصنوع من مخمل التعب
وأوراق الشجر ترنيمة فضّية قديمة تعود الى عهد نسي عهده على ما أعتقد.
دعوة
تعال نجلس تحت سقف تنك نزفّ حبّات المطر
والى أوّل عابر سبيل
نرمي بأوقاتنا العصبية المدوزنة
الحلوة الرقيقة
الضجورة اللئيمة،
تعال نلفّ أعمارنا بسجائرنا وندخّن حتى أوّل العمر.
عند قاب قوسين
تفّاحك عسل
وفي فمي الحيرة
وعند قاب قوسين أقف كغزال مرتعد
خرج للتوّ من كتاب الأطفال ولم يأخذ معه ظلّه.
جدّتي
قبل أن تموت جدّتي، جاءت من أميركا ونفضتْ بيتها نفضةً واحدة. قبلها بليلة، حلمتْ بناتها بالبيت يتزعزع وهنّ يسندن عواميده قطعةً قطعة. بناتها الثلاث العازبات المنحنيات عليها  كعشبة هوجاء في العاصفة.
قبل أن تموت جدّتي، وعلى مرأى من الجميع، رتّبت سنوات عمرها سنةً فسنة، كما ترتّب الغرف صباحاً بعد نوم طويل ومؤرق. نهضتْ، أوّلاً أعادت الأشياء الثمينة الى أماكنها المعتادة: الصور الى العين، الذكريات الى الأعصاب، والهموم الى دُرج البال. ثمّ حشرتْ نهاراتها في قوارير فارغة معتمة، ولياليها في مواسير الجدران الرطبة، من دون أن يشعر أحد كأنها ترشّ عطراً فوق وسادة. بعد ذلك دفنتْ أحلامها في بطنها واستقالتْ من الحياة (“هذه المهنة المتعبة التي نزاولها بحكم العادة”، كما كانت تقول).
لمزيد من التفاصيل
لمزيد من التفاصيل
هوايتي تجميع الغيوم صباحاً
ورتق جورب الشمس آخر المغيب
أسكن حيّ الضجر وسلالم بيتي من هواء
أوّل درجة عاصفة!
مزمور
دعوا الأحياء يدفنون أحياءهم والموتى يموتون أكثر.
المقهى
المقهى الذي أجلس فيه كلّ يوم يجلس فيَّ،
أعقاب السجائر في منافضه أناملي المحترقة،
وتلك الفناجين على الطاولة ليست سوى أفكاري
أصفّها وأحرّكها
فكرة في اتّجاه الغيوم
وأخرى في اتّجاه الطريق المفتوحة كشدق القدر!
غربان
لو معي الآن خبزٌ أرميه الى تلك الأفكار التي تتوافد الى غرفتي
كغربان أنيقة
آخر الليل.
الأفكار التي تشعّ في الظلام ولها أجنحة
البطيئة كأحلامنا في المطر
كجدّاتنا المنسحبات من العمر بهدوء من وراء باب المطبخ.
كلماتنا
كلماتنا التي تكرج من فمنا
ترتطم بأقرب جدار
وتعود الينا مرهقةً كجيش مهزوم،
كلماتنا التي تصعد
وتصبح فوق رؤوسنا صقوراً تهدّدنا بمخالبها المسنونة،
كلماتنا التي نرتعد من نظراتها
وهي تقف في عين السراب،
كلماتنا التي تفلت في غفلتنا
لتغدو كوابيسنا الجميلة!
خطّة
بالتبغ الرطب أُزيل الشكّ
وأمشي واثقاً من أن الأفكار لا تخون صاحبها
أقلب الصفحة على بطنها
وأدغدغها حتى تموت من الضحك
ثمّ أرفع الكلمات منكّسةً!
بدائل
من النافذة التي تطلّ
أرسم طريقاً فوق الطريق
شجرة فوق الشجرة وسماء فوق السماء
والناس نقاط صغيرة جداً أبعثرها هنا وهناك
ثمّ ما إن أنتهي من بدائلي هذه
حتى أقفل النافذة وأعود الى نومي الطويل.
خلاص
ندرّب الأسف على الطيران
والحسرة على الغرق
ونبعث الى الأمل برسائل عجولة
طالبين منه المكوث الى جانبنا نداعب فروته البرّاقة
لنبقى هنا فوق سطح التراب
نقهقه كالقرود
متمسّكين بحبال ظنوننا المجدبة
وبأرجلنا الصغيرة الرجراجة
نلكز الموت الرابض ككلب صغير عند بوّابة الانتظار!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى