صفحات ثقافية

أورهان باموق الروائي القادر على النسيان

null
نجاة علي
لعل الروائي التركي أورهان باموق (1952) الذي نال جائزة نوبل (2006) هو الكاتب الأكثر شهرة بين الكتّاب في تركيا، والأكثر جدلاً، ليس بسبب أدبه فحسب، بل أيضاً بسبب مواقفه السياسية الجريئة، ومنها مثلاً ما صرح به في مقابلة مع صحيفة «تاغيس أنتسايغر» السويسرية معترفاً «أن 30 ألف كردي في تركيا، ومليوناً من الأرمن قتلوا، ولكن ليس لدى أحد الجرأة على ذكر ذلك».
وتمت ملاحقته قضائياً أمام القضاء التركي الذي رأى أن ما كتبه يمثل «إهانة واضحة للأمة التركية»، وهي جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن ما بين ستة أشهر وثلاث سنوات.
وتعرض باموق لتهديدات بالقتل، وصدر أمر في أحد أقاليم غرب تركيا بإحراق كتبه، لكن هذا الأمر لم ينفذ لحرص الحكومة التركية على عدم تشويه صورتها أمام العالم بسبب رغبتها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفي نهاية الأمر تم التخلي عن الملاحقات القضائية بحق باموق في مطلع العام 2006.
وتعرض باموق أيضاً لحملات عنيفة من خصومه بسبب حملات الترويج الكبيرة والدعاية له ولكتبه في وسائل الإعلام، الأمر الذي جعل البعض منهم يشكك في أرقام المبيعات المعلنة لأعماله التي قيل إنها وصلت لمئات الألوف من النسخ.
ولعل كتاب «ألوان أخرى» الذي ترجمته إلى العربية الكاتبة سحر توفيق وصدر حديثاً عن دار «الشروق» في القاهرة، هو أول كتاب لباموق بعد حصوله على جائزة نوبل ويضم مجموعة من المقالات التي تدور حول حياته، ومدينته، وعمله، والكُتَّاب الآخرين.
يجمع باموق في هذا الكتاب مقالات ونثريات، كتبها في فترات مختلفة من حياته، وهي أشبه بكتابة اليوميات التي تموج بأفكار شتى وصور وشذرات من الحياة، ربما لم تجد طريقها الى إحدى روايات باموق – كما يصرح الكاتب نفسه في المقدمة – وقد وضعها باموق في شكل سرد متصل، مستكشفاً ذاته وعلاقته بالأشياء والعالم لتشكل في النهاية كتاباً أشبه بالسيرة الذاتية.
على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، كتب باموق، بالإضافة إلى رواياته الثماني، عشرات النصوص والمقالات، شخصية ونقدية وتأملية، وقام باختيار أفضلها، وفيها يفتح باموق – وهي سمة مشتركة في معظم كتاباته – نافذة على حياته الخاصة متنقلاً برشاقة بين أزمنة متعددة، بين ذكرياته البعيدة عن كراهيته للمدرسة في صباه، وعلاقته مع ابنته، ونضاله الناجح للإقلاع عن التدخين، إلى القلق الذي تولاه لدى احتمال قيامه بالشهادة ضد لصوص خائبين سرقوه أثناء وجوده في نيويورك. إلى حديثه عن بعض الأمور العادية مثل طلب استخراج جواز سفر أو حضور وجبات الأعياد مع الأقارب.
وتظهر كذلك حساسية باموق الخاصة وارتباطه الروحي بالمكان – الذي يمارس سطوة ملحة على ذاكرته – في تفاصيل ما يروي عن الأمكنة التي عاش فيها خصوصاً اسطنبول، مسقط رأسه، فيحكي مثلاً عن ماضي المآذن والسلاطين، وورش البناء الضخمة الحالية التي تنتشر في الأحياء القديمة. ويروي أيضاً كيف تنقل من ضواحي اسطنبول إلى شوارع المدن الأوروبية، مثلما تنقل من عالم الهندسة إلى عالم الصحافة، ثم انتهى به المطاف في عالم الأدب.
يعتقد باموق أن أعظم فضيلة للروائي ذي الخيال المبدع هي قدرته على نسيان العالم، كما يفعل الأطفال، أن يلعب حول المكان، بقواعد العالم المعروفة، ولكن في الوقت نفسه أن ينظر عبر رحلات خياله المحلقة بحرية إلى المسؤولية العميقة الخاصة بالسماح في ما بعد للقراء بأن يفقدوا أنفسهم في القصة. قد يقضي الروائي اليوم كله يلعب، ولكنه يحمل قناعة عميقة بأنه أكثر جدية من الآخرين، لأنه يستطيع أن ينظر مباشرة إلى مركز الأشياء بالطريقة نفسها التي لا يستطيعها سوى الأطفال.
ويعلن كذلك إيمانه العميق بالأدب القصصي، وينهمك في تأمل علاقته بأعمال كتاب سابقين لهم مكانة خاصة لديه من أمثال لورنس ستيرن وفيودور دوستويفسكي، ويعلق على رواياته الخاصة. ويتأمل الهاجس الغامض الذي يدفعه الى أن يجلس وحده إلى مكتب ويحلم، ليعود دائماً إلى الانعتاق الذي لا ينضب، وهو القراءة والكتابة.
وفي جزء مهم من الكتاب يقدم باموق مختارات من بعض الأحاديث الصحافية حول روايته «اسمي أحمر»، كأن يصرح مثلاً في أحد أحاديثه تلك بأن البطل الحقيقي في تلك الرواية هو الحكاء الذي يذهب كل ليلة إلى مقهى ليقف الى جوار صورة ويحكي حكاية. ويشير إلى أن الأسلوب كان أحد همومه الرئيسة في الرواية نفسها، وهو- كما يفهمه اليوم – مفهوم ما بعد نهضوي، احتفل به مؤرخو الفن الغربي في القرن التاسع عشر، وهو ما يميز فناناً عن سواه.
ويعتقد باموق أن القضية المركزية لرواية «اسمي أحمر» ليست قضية الشرق والغرب، بل العمل الشاق الدؤوب لفنان المنمنمات، معاناة الفنان وإخلاصه الكامل لعمله، فهو كتاب عن الفن والحياة والزواج والسعادة. أما قضية الشرق والغرب فتقف مستترة في مكان ما في الخلفية.
يعترف باموق كذلك بأن كل كتبه تتكون من خليط من الأساليب والأنماط والعادات والقصص الشرقية والغربية، وإن كانت كتابته تحظى بثراء فإن الفضل يرجع إلى التراث الشرقي والغربي، وأن سعادته المزدوجة هي من المصدر نفسه، حيث بإمكانه أن يتجول بين العالمين وكأنه في بيته.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى