صفحات ثقافية

الفيلم الجديد للمخرج السوري عمار البيك

null
سينمائيّ تجريبيّ ثمرة التقنيات الرقمية

صلاح سرميني

يفتتحُ الفيلم القصير

(Jerusalem HD)

أحداثه البسيطة بلقطةٍ كبيرة لأصابع تتصفح كتاباً عن السينما، نفهم ضمناً، ونتوقع، بأنها لمخرج الفيلم نفسه، السوريّ (عمار البيك)، يُصاحبها صوتٌ بعيدٌ لصفارة سيارة إسعاف(أو شرطة)، وكعادته، يُذكرنا فوراً بأنه يُنجز فيلماً مُغايراً، مُختلفاً، وتجريبياً، يُشكل قطيعةً مع معظم الإنتاج السينمائي العربيّ القصير،
ويهزّ مدارك المُستقبل بمحاولةٍ طموحة لتحطيم أسلوب السردّ التقليديّ/النمطيّ.في حقلٍ ما/أو حديقة كبيرة، لم تتبيّن بعد معالمه/ا، يحاول تثبيت الكاميرا، ويطلُّ برأسه على العدسة كي يضبط بؤرتها، أو زاويتها التي تأبى إلاّ أن تكون مائلة، و(البيك) بدوره لا يُعير اهتماماً لأيّ معايير أكاديمية، وببساطة ينزعُ عنها قدسيتها. منذ اللقطات الأولى، يغمرنا في طقوسٍ جنائزية، عندما يفرض اللون الأسود عظمته، وقسوته، على ملابس شخصيةٍ تراجيدية نراها من الخلف، وحقيبتها.ومنذ تلك اللحظات، يتوّجب على المتفرج متابعة خطيّن درامييّن متداخليّن(فيلميّن بالأحرى)، لا هما روائييّن، ولا هما تسجيلييّن، ولكن، يتعانق فيهما الروائيّ بالتسجيليّ(المُصطنع).في الأول، مشاهدَ داخلية، سوف يكون المخرج نفسه بطلها في حضوره الجسديّ، وشرحه المُقتضب لمُكونات الإطار السينمائي مقاس 35 مللي، ومن ثمّ إنجاز الفيلم داخل الفيلم، وتدمير شريط صوت(كاسيت)، وإعادته إلى وضعه الطبيعي.وفي الثاني، مشاهدَ خارجية، سوف تُلاحق الكاميرا (المُصور/المُخرج) شخصيةً نسائية(بازولينية) متشحةً بالسواد، تعبر حارةً قديمةً متهالكةً (تمّ التصوير في جزيرة يونانية)، وتهيم في مقبرةٍ عثمانية مهجورة، حتى تصل إلى بيتٍ عتيقٍ متهدمٍ تسكنه امرأةٌ عجوز نسيّها الموت، أو تناساها، وتُكمل تجوالها في غابةٍ، حتى تنطفئ الصورة ، وكنتُ أتمنى بأن ينتهي الفيلم في تلك اللحظة بالذات. من خلال مونتاجٍ متشابك، يتبادل الخطان حضورهما على الشاشة بمدةٍ زمنية متساوية تقريباً، وبدون أن يطغى أحدهما على الآخر. وفي بعض المرات، يقطعهما لقطات مُعترضة، هوامشَ، أو تفسيرات، ومنها آلة تسجيلٍ نسمع منها إعلان الرئيس الفلسطينيّ الراحل (ياسر عرفات) عن قيام دولةٍ فلسطينية، هذا الشريط، يمكن فكه، بعثرته، وتقطيعه.وتتأكد الأجواء الجنائزية باقتراب الكاميرا أكثرَ فأكثرَ من الفتاة الغارقة في سوادها، وهي تُحاذي أحد جدران الحارة، وفي حديقة البيت تنشر غسيلاً أسود اللون، ومن ثمّ تكمل مشوارها في المقبرة،..(عمار البيك) إذاً، عاشقٌ للأماكن الغريبة المسكونة بالموت، العزلة، الوحدة، والذكريات.الفتاة الفارعة الطول، الهائمة بحدادها منحت بعض الحياة لصورةٍ تكاد تختفي منها ألوانها، وتتحول إلى الرماديّ، مفردةٌ جماليةٌ تُبعد الصورة عن واقعيتها، وتزجّّها في عالمٍ حُلميّ، أو مُتخيلٍ، لولا تلك اللقطات الكبيرة التي تخيّرها المونتاج، و(البيك) يشرح بطريقةٍ تعليمية مكونات الكادر 35 مللي في السينما.لقطات مُعترضة بكلّ معنى الكلمة :ـ هي تُحطم سيولة السردّ/ أو بالأحرى التتابع، وذلك لافتقاد الفيلم لمنطق الحكاية : فتاةٌ متشحةٌ بالسواد، وتجوالها الشبحيّ في حارة، ثم مقبرة، حتى تصل إلى بيتٍ متهدمٍ لامرأة طاعنة في السنّ.ـ تثير إشكاليةً تقنية، جماليةً، عن وسيلة التعبير المُستخدمة لتصوير الفيلم نفسه(الكاميرا الرقمية)، واختلافها الجوهريّ عن الكاميرا 35 مللي السينمائية . ويبدو بأنّ الفيلم يعكسُ مزاجاً كئيباً، ومُكتئباً لصاحبه، ليسَ هو (عمار البيك) الذي يتدّخل في أفلامه بعفوية، ومرح. هنا، في(Jerusalem HD) يمثلُ، ويتصنّع، صحيحٌ بأنه أقحم نفسه عفوياً في البداية كي يُعدّل من وضع الكاميرا التي بقيت مائلةً على أيّ حال، لأنه يريدها ـ ضمنياً ـ بأن تبقى هكذا، مائلة.ولكن، لأنه منح نفسه دور(المُعلّم) الذي يعرف خصوصيات الإطار السينمائي 35 مللي، وهو الذي لا يستطيع العمل به حالياً، يتجنبه، وربما يكرهه، وباستخدامه، لن يكون (المُؤلف الأوحد) لفيلمه، وهو السينمائي التجريبيّ ثمرة التقنيات الرقمية، ولولاها، لما ظهر، أو غيره من سينمائييّ الظلّ البعيدين، والمُستبعدين عن المركز، المُؤسسات الإنتاجية، الحكومية، والخاصة. في هذا الفيلم المُتشح بالسواد، ينظر(عمار) إلى الكاميرا مُتجهماً، مُحدقاً طويلاً في العدسة، وكأنه غاضبٌ منها، أو من المتفرج، يُعاتبه لأنه صامدٌ في كرسيه حتى هذه اللقطة/الدقيقة الصادمة، وخلفه في العمق صورةً لمقاتلٍ فلسطينيّ يتخفى بكوفيةٍ مُخططة، لم تكن تلك اللقطة ثابتةً تماماً، لقد تعمّد عدم تحويلها إلى صورةٍَ فوتوغرافية ميتة، بل تركها (دقيقةً) تنعم بقليلٍ من الحياة.كان يجلس على كرسيّ دوّار أمام جهاز الكمبيوتر/المونتاج الرقمي.في الشاشة الأولى (يميناً) : صورة المُقاتل الفلسطيني.وفي الثانية (يساراً) : لقطةٌ دالةٌ من فيلم (موسيقانا/2004) للمخرج الفرنسي(السويسريّ الأصل) جان لوك غودار، نراه من ظهره، ونتعرّف عليه من صوته، وهو يشرح :في عام 1948 مشى الإسرائيليّون في الماء نحو الأرض المُقدسة، في حين مشى الفلسطينيون في الماء نحو الغرق، اللقطة، واللقطة المُقابلة، اللقطة، واللقطة المُقابلة، الشعب اليهودي يصل المُتخيل/الروائي، أما الشعب الفلسطيني، له الوثائقي،….أتوقع، بأنّ (عمار البيك) قد شاهد مُسبقاً أفلاماُ أخرى لـ(غودار)، ولكنني أظنّ أكثر، بأنه مُولعٌ بالمخرج الروسيّ(تاركوفسكي) إلى حدّ تأثره الواضح بفيلمه (ستالكر/1979) .لقطته البانورامية الطويلة جداً، وهو يُلاحق الفتاة تعبر غابةً، تتسلل بين أشجارها، وبفعل التغيّر الطبيعيّ المُفاجئ لإضاءة الشمس، تتحول الصورة تلقائياً من الألوان إلى ظلالٍ مُعتمة(Siluette)، كي تتهادى الفتاة بآليةٍ مُفزعة، وكأنها شبحٌ خرج لتوّه من حكايات الجدّات.وبشرحه للكادر السينمائي مللي35، يمنح(عمار البيك) الاعتبار ـ ربما ـ لهذا المقاس الفيلميّ الأشهر، الأفضل، والأغلى في الصناعة السينمائية، ولكنّ هذا الشريط المرغوب من السينمائيين، والمأمول التصوير به، خذل تجسيد فكرته، ودفع المتفرج إلى حدود الارتباك، وزجّه في تفسيراتٍ متضادة، ومقارباتٍ ـ ربماـ كانت بعيدة تماماً عن الفكرة الجوهرية التي انطلق منها الفيلم.كان التجوال الماديّ/ الذهنيّ في أمكنةٍ متلاحقة لوحده كافياً بأن يسمو بأحاسيسنا، ومشاعرنا، ويجعل من الفيلم قصيدةً بصريةً مُوجعة عن الوحدة، والزمن المُتدفق(مثل خرير المياه)، وعن الأمكنة التي يسكن فيها الموت.كما تخيّر (البيك) في المشاهد الخارجية كاميرا محمولة تتابع الفتاة في تجوالها، وفي المشاهد الداخلية، كانت كاميرا ثابتة تتوجه نحوه .في البناء الصوتي للفيلم، المُصمّم بطريقةٍ مُبهرة، ونادرة في الأفلام العربية القصيرة، تتعايش الحياة(خرير المياه) مع الموت(نعيق الغربان)، تتشابك المُؤثرات، تتوافق مع الصورة أحياناً، وتتعارض مراتٍ، تتناغم، وتتصادم، لتُكوّن عملاً صوتيا/ موسيقيا.ً الحوار الوحيد(ماعدا تلك الخاصة بفيلم موسيقانا لغودار )، عندما نشاهد الفتاة تُلامس علماً فلسطينياً مشغولاً باليد يتأرجح على حبل :هي(من خارج الكادر) : راجع على سورية ؟المخرج (من خارج الكادر) : وإنتِ، وين رايحة ؟سؤالان شعريّان، بدون أجوبة، استضافهما شريط الصوت لاحقاً (خلال مرحلة المونتاج)، تدعيماً للجانب الروائيّ، حالما تُكمل الفتاة تجوالها في غابة، تُرافقها أصداء قادمة من فضاء بعيد، فحيحٌ، أنينٌ، أزيز، خرير مياه، زقزقة عصافير، نواح آلاتٍ حادة غريبة، وخطوات أقدامٍ فوق أرضٍ ترابية مليئة بالأوراق الجافة، هناك شئ ما سوف يحدث، تُسيطر المُؤثرات تماماً على صورةٍ بدأت تزداد عتمةً، وفي هذا الجوّ الغرائبيّ، تبتعدُ الكاميرا عن الفتاة، وينطلق شهيقٌ، وزفيرٌ، وصدى نبضات قلب.هل قامت الفتاة بتفجير نفسها في مكانٍ ما من القدس، أو فلسطين المُحتلة ؟هل كان الفيلم بمثابة (عودة إلى الماضي) بعد أن شاهدنا في إحدى اللقطات الأولى من الفيلم سيارة الشرطة الإسرائيلية تعبر الشارع، والفتاة تنهض من استراحتها على أحد الأرصفة ؟هل تعود الحياة إلى الصورة ؟ أبداً، إنها في طريقها للانطفاء، وهو ما يحدثَ فعلاً.ولكن، هاهي لقطةٌ أخيرةٌ، (البيك) يُعيد شريطاً(كاسيت) إلى وضعه الأصلي، بعد أن شاهدناه مُفككاً، ويضعه أمام الكاميرا كلقطةٍ أخيرة، إشارةٌ ضمنية، أو علنية ـ ربما ـ لذاك الفيلم الذي سوف يبقى حياً.تستمرّ المؤثرات الصوتية حتى آخر قطرة/لقطة من الفيلم. Jerusalem HDسيناريو، إنتاج، تصوير، مونتاج، تصميم صوت، إخراج، تمثيل : عمار البيكمشاركة تمثيلية : كاتارينا كاليتسانو، فاطيمة. فيلموغرافيا

حصاد الضوء

إنهم كانوا هنا نهر الذهب

ملميتر د

بولفار الأسد

أذني تستطيع أن ترى

عندما ألون سمكتي

كلاكيت

أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها د(إنتاج، وإخراج مشترك مع هالة العبد الله

Jerusalem HD

ناقد سينمائي سوري مقيم في باريس

salah_sermini@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى