“الإصلاح” بين التدرج وحرق المراحل!
د. عمار علي حسن
تسعى بعض النخب الفكرية والسياسية العربية إلى الإجابة عن سؤال معقد حول كيفية انتقال بعض النظم الحاكمة من حالات تتراوح، في أغلبها، بين الشمولية، إلى أشكال تتعدى مجرد الانفتاح السياسي، والتعددية المقيدة، إلى الديمقراطية بفضائها الرحب، الذي ينطوي على قيم تتصدرها الحرية والتسامح، وإجراءات واقعية مقننة، تحول الأقوال إلى أفعال ملموسة، وذلك في ظل السياق الراهن، حيث الضغط الخارجي المتماس في نقاط عدة مع مطالب شعبية داخلية لإصلاح هذه النظم.
ولكن ما يحدث حتى الآن، يشير إلى أن هناك محاولات للالتفاف على الإصلاح السياسي، بما قد يفضي في خاتمة المطاف إلى تجميل القبيح، أو تلميع القشرة الخارجية لنظم تسلطية، في إيهام، للداخل والخارج معاً، بأن هناك تغيراً نوعيّاً ما يجري. وقد يتم هذا الالتفاف تحت لافتة عريضة مفادها أن الديمقراطية ليست شكلا واحداً، أو مساراً ثابتاً، بل إنها تتخذ أنماطها حسب ظروف كل مجتمع، وأن من حق كل جماعة أن تبدع النظام السياسي المتلائم مع أحوالها الحياتية. ويتمادى الملتفون في تقديم الذرائع إلى درجة القول إن الديمقراطية الغربية نفسها لا تخلو من مشاكل أو نقائص، وأن بعض المفكرين الغربيين أنفسهم يعترفون بأن الديمقراطية المطبقة حاليّاً، ليست نظاماً كاملا أو مثاليّاً، وليست نهاية لتاريخ الممارسة والتجريب السياسي، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام الآخرين ليدفعوا بإبداع سياسي خاص.
بالطبع فإن الإبداع السياسي مطلوب لكل جماعة بشرية، لكن ما يجري قد يكون استغلالاً لهذا الحق أو تلك الرخصة في إرجاء الإصلاح، بدعوى أن شعوباً بعينها لا يصلح معها الحكم الديمقراطي، لأن بنيتها الشاملة لا تستوعب قيم الديمقراطية وإجراءاتها، أو أن الأخيرة تؤثر سلباً على مصالح أمنية حيوية، مرتبطة بالتركيبة الاجتماعية أو التهديد الخارجي. فالإبداع السياسي ينبغي، في الأحوال كافة، أن يكون صعوداً لأعلى في اتجاه النظام الأكثر قدرة على صيانة كرامة الإنسان، وحفظ حقوقه، ومصالحه، وضمان مستقبل واعد له، وليس انحداراً لأسفل في اتجاه تكريس التسلط.
نعم، قد ينال تحليل بعض الأسس الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية من هيبتها كأسلوب للحكم ثبتت أهميته، لكنه لا يقلل أبداً من أنها الطريقة الأكثر رقيّاً في إدارة المجتمع، والتي توصل إليها البشر بعد تجارب عميقة وكفاح طويل في سبيل تأكيد حريتهم وكرامتهم، أي أنها “العقد الاجتماعي” بين الحاكم والمحكومين في أحدث صوره.
وهذا العقد قابل للتطوير، بما يجعله أكثر نزاهة وعدلا، وأكثر انتصاراً للمجتمع في مواجهة السلطة، أو بالأحرى يضمن للجماعة آليات وإجراءات أعظم قدرة على تقويم أداء الحكومة. ومن هنا فإن هناك في الغرب من يطالب بتطوير الديمقراطية بما يحقق هذه الغايات. وهذه المطالبة تنصب أساساً على إيجاد فرص متكافئة حقيقية تمنع اختطاف الديمقراطية بما يجعلها مجرد حكم النخبة أو الفئة القابضة، أو ما يجعل المشاركة السياسية عملا هامشيّاً.
وبالطبع في مثل هذه الحالة لا تطالب النخب الفكرية العربية بديمقراطية من الطور الذي سترتقيه الديمقراطية الغربية، بل تسعى إلى الحد المناسب من الديمقراطية، أي انتخابات نزيهة وحرية تعبير وقدرة على مساءلة السلطة. أما الحديث عن “تكافؤ الفرص الاقتصادية وتوزيع الموارد السياسية” فيبدو أمراً “طوباوياً” في ظل نظام حكم تسلطي أو شمولي، ويصبح إجراء قريب المنال بالنسبة لنظم ديمقراطية عريقة.
ويقوم هذا المنطق على أن الديمقراطية تطبق بتدرجية، ليس لأنها تشكل خطراً، لكن لأن القائمين على الأمر السياسي في الدول غير الديمقراطية لن يفرطوا في تمتعهم بمناصب، لا تعرف رقيباً وإن عرفت هذا شكلا فهي تنكره موضوعاً. ومن ثم فإن استدراج هؤلاء ليطبقوا خطوات متلاحقة حيال الانفتاح السياسي يبدو هو الحل المتاح في ظل غياب الحلول المفترضة، التي تقوم على التغيير من أسفل وليس التغيير من أعلى. وفي المقابل هناك من ينادي بـ”حرق المراحل”، أي سد الفجوة في الأداء السياسي بين الدول المتقدمة سياسياً والدول غير المتقدمة في المضمار ذاته فوراً ودون تردد.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المضمار هو: أيهما أحق بالاتباع الآن، وفي مثل حالنا الراهنة: التدرج أم حرق المراحل؟
وما يبدو للوهلة الأولى أن السلطة السياسية في بعض دول العالم الثالث، بما فيها الدول العربية، ترى في التدرج الطريقة المثلى، بينما تنحاز الجماهير الغفيرة إلى النقيض، مطالبة بحرق المراحل، باعتباره الوسيلة الأسرع والأنجع في تحصيل الإصلاح، بعد طول انتظار.
والرؤية الأولى يرى أصحابها أن الشعوب قاصرة، وتحتاج إلى رعاية وتربية طويلة، حتى تتأهل للحكم الديمقراطي، أما الثانية فيرى معتنقوها أن الناس قد وصلوا إلى حال من النضج يكفي تماماً لأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم.
ودون استطراد فإن العالم مليء بنماذج لدول دخلت إلى الديمقراطية من أوسع الأبواب، وفي زمن يسير، دون أن تصعد إليها درجة درجة، فأنجزت نظماً سياسية ناجحة في شتى الصعد، كما سبق الذكر، على رغم أنها قبل ذلك بسنوات قليلة، وربما بشهور، كانت ترزح تحت نير الاستبداد. وتطل هنا برأسها أنظمة عدة في جنوب شرق آسيا، وإفريقيا جنوب الصحراء، إذ قطعت دول المنطقتين أشواطاً ملموسة في السنوات الأخيرة على درب الديمقراطية.
ومما يدحض التذرع بعدم نضج المجتمع لتقبل الديمقراطية -وهي الذريعة التي يبرر من يطرحونها فكرة التدرج في الإصلاح السياسي- أن الاجتهادات العديدة داخل نمط الحكم الديمقراطي قد تتيح، بيسر شديد، تطبيق أحدها في أي مجتمع، دون الارتكان إلى وهم الظروف الخاصة، أو الخصوصية المجتمعية والثقافية، واتخاذها حجر عثرة دون دخول أنظمة حكم عديدة إلى فضاء الديمقراطية الفسيح، الذي هو، دون شك، الدرب الأمثل للخروج من البؤس السياسي والفكري العربي.
الاتحاد