اليسار: أزمة أم تلاشٍ
سلامة كيلة
منذ نهاية السبعينيات والبحث يجري حول «أزمة اليسار». لم يكتمل البحث ولم تنتهِ الأزمة. على العكس بات الوضع أسوأ. هذا يعني بأن البحث في الأزمة لم يكن في العمق، وأنه كان يوصّف أكثر مما يبحث، والتوصيف لا يقود إلى تحديد السياسات التي تفضي إلى تجاوز الأزمة. لقد أشير إلى السياسات الخاطئة، أو بعضها على الأقل، لكن من دون الوصول إلى تحديد الأسباب التي أفضت إليها، وهو الأمر الذي منع التأسيس على سياسات أخرى صحيحة، أو لم توضع هذه السياسات الصحيحة في سياق عملي يفضي إلى نتائج مختلفة.
لهذا بات اليسار القديم والآخر الجديد في الأزمة ذاتها، وبتنا نلمس تهميشه وتفككه وشيخوخته. بمعنى أن الأزمة تحوّلت إلى عجز، وهو الأمر الذي يدفع اليسار، الذي تشكل خلال القرن الماضي، إلى التلاشي. لقد بات تجاوز الأزمة مستحيلاً، وربما يفرض تجاوز البنى تلك. فقد أوضحت الأزمة والبحث فيها بأن المشكلة الأساس ليس في السياسات فقط، بل في «العقل الذي ينتجها».
وإذا كنا نتحدث عن القوى الشيوعية (الحركة الشيوعية واليسار الجديد) فإن ما يشكل أساساً في الأزمة هو طبيعة الوعي بالماركسية أساساً. فإذا كانت الماركسية تمدنا بآليات منهجية تسمح لنا وعي الواقع علمياً فإن الاعتماد الكلي، خصوصاً منذ أواسط ثلاثينيات القرن العشرين، على تلك «الماركسية» التي كانت تتبلور في الاتحاد السوفياتي، كان يقود إلى اتباع سياسة مطابقة لمصالح الدولة السوفياتية وليس للواقع العربي. فقد باتت دراسة «الماركسية» تتم في معاهد سوفياتية عبر «منتوج» سوفياتي. وهنا يجب أن نتلمس إشكالية تلك «الماركسية» التي كانت تلغي أس الماركسية الذي هو الجدل المادي لمصلحة تعميم منطق صوري، يقوم على النص، من خلال تحويل الجدل المادي إلى «فلسفة تأملية»، لكن ساذجة، كانت في الغالب تبدو ثقيلة على الذين يدرسونها، خصوصاً أنها لم تكن ـ لأنها باتت تأملية ـ تربط بفهم الواقع والتاريخ والاشتراكية.
وبشطب الجدل المادي باتت «القوانين» المصوغة هناك هي التي ترسم السياسة، ولأنها مصوغة هناك باتت السياسة هي سياستها. فمنتج الفكر هو الأقدر على إنتاج السياسة. ولهذا كان يجري تغليب الرأي الذي يتبلور في الاتحاد السوفياتي على أي رأي محلي، لأن «مركز العلم» هو هناك وليس هنا. حتى فيما يتعلق بظروفنا وحياتنا. هنا باتت الأحزاب الشيوعية وكأنها حزب واحد، وبات مركزها هو الذي يصوغ السياسة العامة، وليس على هذه الأحزاب سوى الالتزام، أو صدور «الحرمان الكنسي». وكانت في الغالب تلتزم من دون تردد، وتفاخر بأنها تلتزم من دون تردد.
هذا الوضع أخضع السياسة المحلية لهذه الأحزاب لتكتيكات الدولة السوفياتية، ولأن هذه الدولة لم تكن تميل إلى «المغامرة» على الصعيد العالمي، فقد رفضت أن تتقدم أحزابها لاستلام السلطة، وجرت المراهنة على البرجوازيات المحلية، التي كانت في «تناقض» مع البلدان الرأسمالية المستعمِرة. وهو ما دفع إلى دمجها خلف هذه البرجوازية تحت شعار «التحالف»، الذي بات يتخذ منذ سنة 1935 شكل «الجبهات الشعبية»، وفي الأطراف شكل الجبهات الوطنية.
كانت السياسة السوفياتية سياسة دفاعية قبل الحرب الثانية، لهذا مالت إلى التحالف مع البرجوازيات لتوسيع الصراع ضد الرأسمالية، لكنها بعد الحرب الثانية توافقت مع الرأسمالية على «حدود تقسيم العالم»، وكان ذلك يطال الوطن العربي. وهو الأمر الذي عزز سياسة دعم البرجوازية.
في التنظير العملي، تعمم كل ذلك تحت تصور لارتقاء المجتمعات يفرض حتماً المرور بالمرحلة البرجوازية قبل الانتقال إلى الاشتراكية. وبهذا باتت الأحزاب الشيوعية معنية بانتصار البرجوازية وليس بانتصارها هي، وهو الأمر الذي لم يدفعها إلى تأسيس القوى القادرة على استلام السلطة (رغم أنها أصبحت في الخمسينيات قادرة على ذلك)، وحصرت نضالها في مستويين منفصلين، الأول النضال المطلبي (الذي كان يسمى النضال الطبقي)، أي طرح مطالب العمال والفلاحين، والثاني: العمل على قيام النظام الديموقراطي البرجوازي. وكان المستوى الثاني هو الذي يحظى بالأولوية. وفي رؤيتها العامة (في برنامجها العام) تكيفت مع حدود مصالح البرجوازية هذه، لهذا لم تلمس مسألة الأرض، وما طرحته تمثل في تحقيق بعض مطالب الفلاحين، لأن البرجوازية كانت في تواشج مع الإقطاع. ومن ثم تخلت عن طرح المسألة القومية قابلة بدولة البرجوازية التي قامت على أساس التفاهم مع الاستعمار قبل رحيله. وفي فلسطين انجرفت خلف السياسة السوفياتية صراحة بعد أن كانت ترفض التقسيم وقيام الدولة الصهيونية.
ولأن التحولات الطبقية (وهي التحولات التي تحققت حتى في البلدان التي لم يجر فيها التغيير البرجوازي الصغير) كانت كبيرة فقد تقلص وجودها الطبقي رويداً رويداً، وباتت خارج الفعل «النضالي» حتى بمعناه المطلبي، مما سمح بتنامي تناقضاتها الداخلية وتفككها. ولأنها لم تجدد وعيها ظلت عاجزة عن معالجة هذا الوضع، وبالتالي كانت تغرق أكثر كلما حاولت تلمس وضعها. وهو الوضع الذي نتلمسه، ويمكن أن نوصفه عيانياً.
المسألة إذن، كانت في الوعي الذي انزرع من قبل أيديولوجيي دولة كانت تؤسس مصالحها عالمياً، والذي أنتج سياسة لا تقوم على تطوير الصراع الطبقي من أجل التغيير، في عالم كان يحتم على الماركسيين أن يلعبوا دور القوة التي تفرض التغيير من أجل تحقيق كل المهمات الديموقراطية. لأن البرجوازية باتت ملحقة بالرأسمال الإمبريالي، ولم تعد معنية بمشروعها الذي توهم الشيوعيون بأن عليهم دعم تحقيقه عبر دعم البرجوازية هذه.
هل يمكن لهم تجاوز هذا الوضع؟ ربما لا، لكن المحاولة ليست خطأ. وهي تبدأ من تأسيس وعي بالماركسية حقيقي، وهو الأمر الذي يفرض لفظ كل الوعي السابق لأنه لم يكن ماركسياً إلا في الكلمات والشعارات.
منذ السبعينيات والحركة تموت، ولم يكن وعيها يسمح لها سوى السير في المسار الذي يغرقها أكثر في الأزمة. وإذا كانت نهضت «ماركسية أخرى» منذ إذ (أي منذ السبعينيات) فقد قامت على وعي بالماركسية نصي كذلك، لكن هذه المرة بالعودة إلى ماركس وإنجلز ولينين (وربما ماو)، وحيث أصبحت مهمة الماركسي هي تطبيق فكرة لواحد من هؤلاء على الواقع، وعلى فهم الواقع عبر هذه النصوص، التي لم تُخضع للنقاش والتمحيص والنقد، وأخذت كمسلمات مطلقة الصحة. وهنا ضاع فهم الواقع.
إنها ظلت في فضاء «الماركسية السوفياتية» من حيث سيادة المنطق الصوري النصي، ومن حيث العودة ـ بالتالي ـ إلى السياسات ذاتها. وأخيراً المآل الذي أوصل إلى الليبرالية لقطاع كبير منها. فقد بدا أن الخلاف سياسي وليس خلافاً حول معنى الماركسية وماهيتها. إن الفضاء الأيديولوجي الذي عممه منظرو الحزب الشيوعي السوفياتي، والذي كان يعبر بأنه هو الماركسية، هو الذي ظل منهل «ماركسيينا»، حتى أولئك المختلفين مع السياسات السوفياتية والشيوعية المحلية، وظل الاطلاع على الماركسيات الأخرى، معدوماً في كثير من الأحيان. ربما لأن «الماركسية السوفياتية» بدت مبسطة ومتوافقة مع «العقل» الموروث لدينا. حيث أن الاطلاع على هؤلاء كان يفترض مستوى فلسفياً أعلى.
هذا التوصيف للأزمة، وللوضع الراهن، يوصل إلى أن اليسار بوعيه الراهن غير قادر على تحقيق نقلة في وضعه ودوره، فهذا يحتاج إلى نقلة في الوعي بالماركسية. الماركسية التي تؤسس لذات الفرد والطبقة والأمة وبالتالي العالم. أي الماركسية حين تصبح آليات تفكير في الواقع من أجل وعيه ووعي آليات تغييره.
السفير