ما الذي يكفل صحة كلامنا؟
ياسين الحاج صالح
الله هو الكفيل لصحة كلام الإسلاميين، نواته الأساسية على الأقل، المتمثلة في “الكتاب” الموحى الذي “لا يأتيه الباطل”. وأجهزة الأمن، أو القوة المحض، هي الكفيل لصحة ما تقوله السلطات، فإذا كذب أحدٌ قولها، تولت القوة تلك إسكاته أو إكراهه على تصديق القول الرسمي. لذلك حين يسقط نظام يفقد “علمه” فورا كل قيمة لأنه لا رصيد له من الحقيقة غير الخوف من النظام. وكان الاتحاد السوفييتي هو الرصيد المادي الصلب الذي يسبغ الصدق على كلام التنظيمات الشيوعية العربية. تبدد هذا الرصيد أو أفلس البنك الذي كان يختزنه. الكلام الشيوعي اليوم بلا رصيد، لا شيء يضمن صدقه.
هذا حال التيارات الحداثية العربية، التي قد تعرف نفسها بالليبرالية أو العلمانية أو العقلانية أو مجموعها. إنها تقول أشياء لا أساس أو رصيد لها غير “الغرب” أو “الحداثة الغربية”. أو بالأحرى إنه ليس ثمة رائز معرفي مستقل يثبت صدقها. والتيارات تلك لا تبدي اهتماما بالمسألة، لا تتساءل عن شروط صحة ما تقول.
ليس الحال كذلك في الغرب. منذ القرن السابع عشر انشغل الغرب بمسألة المعرفة إلى درجة أن نظرية المعرفة غدت المحور الأرأس في الفلسفة الغربية. وليس عقلانية ديكارت وتجريبية لوك وهيوم وبيركلي إلا استجابتين لسؤال المعرفة، بعد أن اخذ يبدو أن الكفالة المتعالية إما جزئية، تدعم حقائق إيمانية فحسب، أو باطلة كليا. افترض ديكارت نفسه نوعا من الكفالة الإلهية للمعرفة، تتمثل في أن الله لا يمكن أن يتعمد تضليلنا، وافترض وجود أفكار فطرية منها وجود الله ذاته. وإذ شك في كل شيء انتهى إلى أن الذات التي تشك موجودة. لقد أسس بذلك الذات كفاعل معرفي مبادر. أما “التجريبيين” فأعادوا أصل المعرفة إلى خبرة الحواس، فلا شيء في العقل لم يكن من قبل في الحواس. وعمل كانط على توحيد الموقفين حين جعل المقولات الناظمة للإدراك الحسي ذاتية، يسبغها العقل على التجربة. وعمل هيغل على عقلنة العالم بأن جعله، ومنه التاريخ، تفتحات للفكرة المطلقة التي هي صيغة معلمنة لله. فبذلك زجّ الله في التاريخ وفي العالم. وأضاف ماركس شيئا مهما حين جعل العالم المادي مسألة ممارسة اجتماعية، وليس مسألة تأمل أو حتى تجريب بالمعنى الضيق للكلمة. وتقريب المادة والممارسة يجد شرعيته في أن ثورات المعرفة والصناعة اقترنت بجوْب أقطار العالم واستشكاف أرجائه وتشمم روائحه وتذوق طعومه وتحسس مواده وكائناته والاستماع إلى جلبة أصواته ومشاهدة غرائبه التي لا تنفد؛ في المجمل، اختبار العالم حسيا وتربية الحواس على هذا الاختبار بالتدريج. وفي النتيجة تغدو “المادة” مركز اهتمام الأذهان، وتنفتح “أوتوسترادات” عريضة بين ما تلمسه الأيدي وتراه العيون وتتشممه الأنوف الحساسة وتسمعه الآذان المرهفة وتتذوقه ألسنة وتلتهمه بشراهة أفواه نهمة وتضع يدها عليها أيد جشعة.. في أصقاع العالم التي “اكتشفها” الأوربيون، وبين “العقل” المجرد، فتحول مركز الثقل إلى المحسوس والعالم و”المادة”، فيما انخفضت مرتبة عقائد الدين ومجردات الفلسفة المدرسية أو ثوابت الثقافة الموروثة. هذه مغامرة رائعة هائلة الأبعاد ولا نظير لها. فلم يكتشف الأوربيين العالم بورود أقطاره إلا واكتشفوه كعالم من المحسوسات، كعالم يمر عبر الحواس قبل أن يتم تصنيعه وتغليفه في معقولات. أو لنقل إنهم بمغامرة اكتشاف العالم حرروا حواسهم من بلادة المألوف، فحازت أهلية متجددة لم تلبث أن انعكست على مألوفهم ذاته تطالبه أن يسوغ نفسه أمامها.
فليس لأن الأوربيين اشتغلوا بالفلسفة أرسوا أساسا جديدا لمعرفتهم، بل هم اشتغلوا بالفلسفة وأرسوا الأساس الجديد في سياق عملية تاريخية كبرى أفضت إلى تحلل النظام القديم (إقطاعي اجتماعيا واستبدادي سياسيا وتهيمن فيه الكنيسة روحيا وثقافيا..)، وإلى تشكل وتملك عالم وحضارة جديدين، قد يوصفان بـ”الحداثة” أو ينسبان إلى البرجوازية..
ومن أهم وجوه المغامرة هذه تحويل العالم وليس محض تحسسه وتأمله. أعني تحويل ما توفره الطبيعة عبر العمل البشري إلى منتجات تقل شبها بالطبيعة. إنها الثورة الصناعية.
قبل ذلك ومعه كانت النزعة الدنيوية والإنسانوية تسجل تقدمات حاسمة، مستفيدة من الإصلاح الديني الذي أضعف سيطرة الكنيسة السياسية والعقلية والقانونية، ومن الكشوف الجغرافية، ومن بعث الآداب القديمة اليونانية والرومانية.
هذه تطورات مثيرة. دلالتها المشتركة البحث عن أساس للتصديق. بدا أن تطور العلوم الطبيعية واعتمادها على المنهج التجريبي الافتراضي يوفر أساسا حاسما لصدق القضايا التي قد ندلي بها. وحاولت الوضعانية أن تكون فلسفة علمية، تقتصر على الأقوال التي يجري التحقق منها عبر التجربة، فيما تنفي غيرها إلى مجال الميتافيزيقا.
وتمرد نيتشه على “امبريالية” المعرفة باسم الإرادة بوصفها إرادة للقوة، فنحن لم نوجد في هذا العالم من أجل المعرفة، وما نعرفه هو ما يناسبنا للحياة. وكان فرويد مفكرا عقلانيا جدا، لكنه حاول أن يظهر أن اللاعقل، أو اللاشعور، هو البحر فيما الوعي جزيرة فيه. وحدَّ هايدغر من توسعية المعرفة والعقل باسم الكينونة المنسية.
وعرف القرن العشرون تيارات فكرية تنتقد “العقلانية الأداتية” التي “تُشيِّئُ” الإنسان (مدرسة فرانكفورت)، وفكرة التقدم التي بنيت على افتراض التطابق بين التاريخ والعقل كما في فلسفة هيغل، وجرى التحفظ على المركزية العقلانية التي تطابق بين العقل وأوربا أو الغرب، فتؤول إلى مركزية أوربية أو غربية.
بيد أن ذلك كله نقاش على أرضية العقلانية والمنهج العلمي التجريبي. فكل فكرة مطالبة بتسويغ نفسها أمام فكر نقدي شكاك، تمأسس في الجامعات ومؤسسات البحث العلمي والثقافة العليا. لم تمّحِ التقريرات التعسفية، لكنها فقدت السلطة. أما حقائق الدين فأضحت حقائق إيمانية، قد تكون مصانة، لكن فاقدة للسيادة العقلية.
وتشكل الفلسفة والتفكير الناقد الشكاك الذي تعهدته ومؤسسات العلم الرصيد الذي يؤسس لصدق أقوال الغربيين. إنها البديل عن الكفالة الربانية.
هذا مسار فكري تاريخي لم نمر به. لذلك نحيل إثباتا لصحة ما نقول إلى الغرب. الغرب القوي الغني القادر المستنير العليم، الذي له أسماء حسنى كثيرة، هو الرصيد الذي يمنح كلامنا قيمة. بيد أن الاستناد إلى الرصيد أو الأساس الغربي لا يختلف في الجوهر عن الاستناد إلى الرصيد الشيوعي في وقت سابق. وهو يجعل معرفتنا معرفة من الدرجة الثانية، معرفة منفصلة عن أساس صلب يدعمها ويثبتها. تفصلنا عن الغرب حواجز لغوية وثقافية، وذاكرة مغايرة وخبرة تاريخية مختلفة. ما أنجزه لم يغدُ ملكا لنا لمجرد اطلاعنا عليه في الكتب أو استهلاكنا لنتاجات التكنولوجية الغربية، أو حتى معايشة بعضنا المباشرة لمجتمعات الغرب. وفي النتيجة أقوالنا بلغتنا وفي ثقافتنا لا يصدقها الأساس الغربي. ولما كان تغرَبنا الكلي غير متصور، فإنه لا مناص من تأسيس أقوالنا.
كيف؟ هذا ما على الفكر لدينا أن ينشغل به. تعميم الأساس الديني غير ممكن. والحقائق الإيمانية لا تصلح حقائق “علمية”، ولا أساسا لوجود مكين. المخابرات والتعسف ليسا أساسا. الغرب ليس أساسا لنا. هو ليس أساسا لذاته حتى يكون أساسا لغيره. لا يبرهن جعلنا له مرجعا معرفيا على غير استلابنا للسلطة.
لا نتصور أساسا دون نظر نقدي في الأساس الديني، “يُنسبِنه” ويحدد مجاله. وفي التعسف.
وفي الغرب. فلا أساس متصورا لتصديق أقوالنا غير الله أو القوة الجبرية، وإلا فالواقع المعاين أو التجربة المعاشة. ويرتد الغرب كأساس لمعارفنا إما إلى سلطة تقول الحقيقة لأنها قوية وصانعة للوقائع، أو إلى “وحي” يأتينا من “غيب” متعال على الحس. ولا يصلح أي من هذين ولا كليهما أساسا صلبا لمعرفة من الدرجة الأولى.
أقوالنا بخسة لأنها بلا رصيد. وهي متساوية في الأساس لأنها متشاركة في انعدام الأساس. تتطاير منا ومن حولنا التقريرات السياسية والاجتماعية والفكرية دون أن يكون في وسعنا فرز غث من ثمين بينها. إذ لا معيار للفرز. إننا في أزمة.
ودون أساس جديد، ومعيار للتمييز، لا مجال للتغلب على التعسف. فأساس هذا قائم في تساوي الخيارات، أي في أنه لا فرق، وكل شيء ممكن، ما يجعل القوة هي المعيار والحكم. نريد التغلب على حكم القوة، إذن لا مناص لنا من الاشتغال على الأساس، ما تتأسس عليه قوة الحكم. التعسف في السياسة والاعتباط في المعرفة سارا معا في تاريخنا، وربما في كل مكان.
والمسألة تزداد إلحاحا لسبب حديث نسبيا. إن النقد الذي نوجهه لأوضاعنا السياسية والاجتماعية والثقافية… يستند إلى مرجعية الحداثة الغربية التي أرساها هي نفسها عصر التنوير. نشعر كل يوم أن المرجعية هذه تتخلخل في الغرب. الثقة بـ”العقل” تتضاءل، اقتناعنا بالتقدم يضعف، الديمقراطية في أزمة، يقيننا بالإنسانية يتداعى، مفهوم الموضوعية تتدنى شرعيته. والذاتية أيضا. في الغرب تسمى جملة عمليات التخلخل هذه ما بعد الحداثة.
ومغزى هذه العملية أن أسس نقد الدين والطائفية والاستبداد تتهاوى. هذا يطعن في مقاومتنا للاستبداد واللاعقلانية والتعصب الديني والطائفية. ما العمل؟ الدفاع عن عقل التقدم والتنوير والإنسانية والديمقراطية؟ لكن يبدو هذا غير كاف، وفيه من الحنين إلى الماضي أكثر مما فيه من مشروع للمستقبل. وعلى أية حال ثمة دعاة لهذا التوجه، لكنهم دعاة فحسب. وهم كذلك لأن الغرب، وقد جعلوه معيارا معرفيا، لم يعد الغرب نفسه. يكف كل يوم عن مشابهة ذاته، ويقول إن “الحداثة” ليست هو. وقومنا يجدون صعوبة في مجاراته في طوره “ما بعد الحداثي”. فإما أن الغرب ليس معيارا للمعرفة في أي حال، أو أنه معيار في كل حال. إما أن نقبل الغرب، حداثيا أو ما بعد حداثي، سندا لمعارفنا؛ وإلا تمر المعرفة العزيزة بمساءلته ونقده، اعتباره حاجة لا حجة، أو سلطة لا برهانا.
وإلا فالتعسف.
مُسلٍّ أن تتابع مزايدة مثقفين عرب على الغرب السفسطائي المحدث باسم الحداثة.