عن الغزو الثقافي
ميشيل كيلو
ربما كانت كلمة الغزو الثقافي واحدة من أكثر الكلمات العربية إيحاء وانتشاراً، وقد بلغ من استئثارها بالعقول أن عقدت لها مؤتمرات وندوات، وأجريت لتوضيحها مقابلات صحافية ولقاءات تلفزيونية، أدلى خلالها مثقفون عرب كثيرون بدلوهم وقدموا مقترحات ونصائح تحصن الأمة ضد مفاعيلها، كأن الغزو لم يقع بعد، بل هو قادم أو موشك على القدوم، فمن الحكمة وبعد النظر إطلاق صفارات الإنذار لتحذير الشعب العربي منه، وإلا احتل الغزاة عقله وسكنوا روحه، وضاع كل شيء .
والغزو الثقافي جهد يبذله طرف خارجي لممارسة هيمنة ثقافية على العرب، تجعلهم يفكرون بالطريقة التي يراد لهم أن يفكروا من خلالها، بعد حشو عقولهم بمخزون معرفي يتفق مع ثقافة الغازي ويعيد إنتاجها في نفوسهم وواقعهم، كي يفقدوا قدرتهم على إدامة نمط من التفكير والتأمل أنتج هويتهم، التي تعينت تاريخياً بدينهم وثقافتهم . هذا الرأي يتبناه أصحاب نزعة في التفكير يقبلون كل ما لدى الغرب عدا ثقافته، التي يطلقون عليها صفات سلبية ذات طابع أخلاقي/ تعميمي . بالمقابل، يرى أصحاب نزعة أخرى، ينتمي معظمهم إلى أوساط وجهات معادية للغرب والرأسمالية، أن هذه تريد إبقاءنا تحت هيمنتها وسيطرتها، وأن ثقافتها هي إحدى وسائل تحقيق هدفها، فهي ثقافة سيطرة واستعمار، إن نجحت في اختراقنا ضمنت بقاءنا أسرى نظام الاستغلال والاستعباد الرأسمالي، وجعلتنا متأخرين ومتخلفين لا حول لنا ولا طول، فلا بد أن نرفضها، لصالح ثقافة أخرى غربية بدورها هي الثقافة الاشتراكية أو القومية . لا يرفض أنصار هذه النزعة ثقافة الغرب بإطلاق، مثلما يفعل أنصار النزعة الأولى، الإسلاميون في معظمهم، بل يرفضون نمطاً معيناً منها هو الثقافة التي تشجع النزعات الليبرالية/ الفردية، وتريد توطينها في حياتنا وفكرنا، لتغريبنا عن ذاتنا وثلم خصوصيتنا كبشر يريدون العدالة والحرية والمساواة .
ثمة فرع جانبي، لكنه واسع الانتشار جداً لهاتين النزعتين، يحصر مقاومة الغزو الثقافي في مقاومة المشروع الصهيوني وثقافته، متجاهلاً أن الغزو الثقافي المؤثر والفعال هو الغزو الأمريكي، وهو ثقافي بمعنى ضيق، بما أنه لا يغزونا بالأفكار والمنظومات الفكرية والتأملية النظرية والمجردة، بل بما يسمونه الثقافة الشعبية من نمط حياة وعيش، كالموسيقا والأفلام والرقص والغناء وأنماط السلوك والتصرف واللباس والسكن والاستهلاك، وبالنزعة الفردية في العلاقات والتفكير، ويسيطر على طريقة تعاملنا مع هذه الأشياء ويجعلنا نعيش ما يسمونه “طريقة الحياة الأمريكية”، أو جوانب منها، ويطبع رؤيتنا للحياة بطابع استهلاكي/ فردي، يجعل منها حياة استمتاع حسي مفرط ولحظي وتطاحن على المال والمتعة بأي ثمن وسبيل، وليس حياة تأمل وقيم ومثل عليا . إذن، فإن الغزو الثقافي الصهيوني، الذي نخشى عموما وقوعه في المستقبل، بعد التسوية وما يسمونه السلام، لن يجد مكاناً ينفذ منه إلينا، بسبب الاحتلال الثقافي الأمريكي الكامل لحياتنا، التي تتحول أكثر فأكثر إلى حياة استهلاك تهتم بنوع السيارة وفخامة المنزل وحجم الثروة ونمط الثياب وجمال العشيقة أو الزوجة وفخامة الطائرة الخاصة أو اليخت . . الخ، بينما لا يوجد لدى الصهاينة ما يمكن أن يغزونا غير جيشهم، وهو ليس أداة ثقافية أو هيئة فكرية، بل أداة قتل واحتلال وتوسع، أثارت هزائمنا المتعاقبة أمامها نزوعاً متعاظماً لدينا إلى مواجهتها عبر الأصولية المفرطة، ونمت نزعة غير ثقافية، بل ومعادية للثقافة عندنا، تتدثر برداء الهوية، التي تثير لدينا قدراً غير قليل من البلبلة، وتكون مذهبية عند هذا قومية عند ذاك .
روى لي صديق ظل عشرين عاماً في سجن “إسرائيلي” أنهم عذبوه بضعة أيام عندما اعتقلوه في نابلس والبندقية في يده . ثم عذبوه أسابيع عديدة، حين اكتشفوا بالصدفة أنه يقرأ التوراة . قال صديقي: لقد جن جنونهم واتهموني بتدنيس كتابهم المقدس، وأرادوا أن يعرفوا كيف حصلت عليه، وكيف أبحت لنفسي أن ألمسه وأقرأه، وظلوا يضربونني ويهينونني ويتعمدون تعذيبي بوحشية وحقد . فهل هؤلاء الذين يرفضون أن نقرأ كتاباً دينياً يخصهم قادرون على غزونا ثقافياً، وأية ثقافة عندهم كي نخاف غزوهم لنا من خلالها، وهم قوم جلب جيء بهم من أربعة أقطار الأرض، معظمهم أشد منا تخلفاً وتأخراً وقلة عقل؟
لن يغزونا الصهاينة، اليوم أو غداً، بغير السلاح، أما الغزو الأمريكي، فهو واقع منذ عقود كثيرة، وليس فعلاً مستقبلياً فنتحسب له . إنه جزء رئيس من حاضرنا وماضينا، لا سبيل إلى مقاومته بالانغلاق على الذات والتقوقع على النفس والاكتفاء بالرجوع إلى الماضي وهجر العالم وما أنتجه من إنجازات فكرية ومعرفية أسهم أجدادنا في جزء كبير منها، فهي جزء من تراثنا الأصيل وليست غريبة عنا، سنستدرك بمساعدتها ما فاتنا من إنتاج منظومات فكرية/ معرفية تعبر عنا وتنمي خصائصنا، وعلوم تطبيقية تجرد واقعنا بدقة وموضوعية، فتعيننا على تحسينه وتطويره وتغييره، وتمدنا بأدوات ضرورية لمقاومة الغزو، مهما كان نوعه . لكن نجاح مسعانا هذا، الذي فاتنا تحقيقه إلى اليوم، يشترط معرفة ما لدى الآخرين من ثقافات، أينما كان موقعهم من عالمنا، وسواء عاشوا في الماضي أم الحاضر، والانخراط في العالم وليس الانكفاء عنه والخروج منه، أو الاكتفاء باتخاذ موقف عدائي حياله، بحجة الحفاظ على هويتنا، التي تبدو في هذه النظرة هشة، ضعيفة، تفتقر إلى الثقة بالنفس ويهددها التصدع عند أول لقاء مع أية جهة غير إسلامية أو عربية .
لا يحق لنا الحديث عن غزو ثقافي ما دمنا مشاركين بفاعلية وجدية في الحوار مع أنفسنا وغيرنا، وقادرين على طرح الأسئلة على الذات والمختلف، وعلى امتلاك أنماط من التفكير الحر والمفتوح تتركز حول تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، هويتنا وديننا، فلسفتنا ومجتمعنا، مفاهيمنا ومبادئنا، ما لدينا وما لدى غيرنا، ومؤهلين للإفادة من سوانا، مقتدين في سلوكنا بابن رشد، الذي رأى أن ما هو صحيح لدى غيرنا يجب أن نعتبره ملكاً لنا، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع الجهة التي أنتجته . أما إذا افتقرنا إلى أدوات التفكير والمعارف الضرورية لزماننا ولحاجاتنا، وانغلقنا على أنفسنا واتخذنا موقف الخائف المرعوب على هويته ودينه، الرافض لأي احتكاك مع غيره، فإن وضعنا يكون أفضل الأوضاع بالنسبة إلى من يريد غزونا ثقافياً أو عسكرياً أو سياسياً، ونكون بلا حصانة أو مناعة، ثقافية كانت أو غير ثقافية، وندمر أنفسنا وثقافتنا من حيث نعتقد أننا نحميهما ونصونهما .
تتسابق قوى عالمنا منذ قرون الزمن وتتنافس مع بعضها، من لا يعرف كيف يمتلك شروط التقدم ويعزز مواقعه في هذا التنافس، يسقط، سواء غزاه الآخرون أو أبقوه على هامش التاريخ وخارجه، مثلما حدث لنا في فترات انحطاطنا، مع أن أحداً لم يقم بغزونا، ليس خوفاً من قوتنا، بل لأننا كنا جثة هامدة . هذه هي القضية التي نواجهها . وإذا كان العالم يغزونا، فلأنه يعتقد بقدرته على التأثير فينا واحتلال عقولنا، فهو يغزونا ليضعفنا ويسيطر أو يهيمن علينا، فلا يمكن أن يكون لنا من رد فاعل على الغزو غير المزيد من الانخراط المدروس في العالم، وتعزيز مواقعنا المادية والروحية، الفكرية والعملية، فيه، ومنافسة بلدانه وأممه في شتى نواحي التقدم وجوانبه . بهذا، يمتنع الآخرون عن غزونا، ويتفاعلون معنا، لخيرهم وخيرنا، ويقلعون عن اعتبارنا فريسة سهلة يغريهم ضعفها بالتهامها، بل ونغزوهم نحن، إن هم فكروا في غزونا، ونثبت لهم أننا لسنا أولئك المذعورين المنطوين على أنفسهم، الذين لا يرون سبيلاً إلى مقاومة الغزو غير الخروج من عصرهم، والمزيد من إضعاف أنفسهم ومن تقديم الفرص لنجاح سائر أشكال غزوهم .
الحليج