إشكالية التأريخ الأزلية بين مطرقة الدين وسندان السياسة
تتمحور اهتماماتي في القراءة حول الأدب بشكل مجمل وتخصيصي
بحيث تكون المادة الأدبية هي الغاية والمراد من أي كتاب أمسك به لأقرأه
في معرض الكتاب الأخير الذي أقيم في دمشق كنت حاضراً كالعادة ، إذ يعتبر المعرض فرصة للاطلاع على السوية الثقافية التي وصل إليها بلد ما ، ودائماً ما كنت أشعر بالإحباط بعد كل زيارة في الماضي ، إذ تأخذ كتب الدين والسياسة وكتب الأطفال المصورة وكتب ” تعلم الطبخ والنفخ ” الحيز الأكبر بنسبة 80 % من المعروضات ، ولا يبقى للجانب الأدبي إلا رفوفاً قاصرة ملخصة بروايات عالمية قرأنا أغلبها جميعاً ..
في المعرض الأخير ، لفت نظري كتاب ” رسالة الغفران ” لأبي العلاء المعري ، ولم أكن قد قرأته سابقاً ، أحببت أن أقرأ هذا الكتاب فمن غير المنطقي أن أغفل كتاباً بهذه الشهرة دون أن أطلع عليه وأقرأه ، فعنوانه يأتي في سياق الجدال الأدبي والمحافل الثقافية وأنا لا علمَ لي به سوى قشور بسيطة “ فيجب عليّ قراءته كي أظهر بمظهر المثقف إن دار حديث حوله “ .
اشتريته وبدأت القراءة فوراً وللحقيقة : حدثتني نفسي قبل القراءة أن من لم يقرأ كتباً كهذه هو بمثابة الأميّ ، وهذا كان حافزاً للقراءة بنهم ، قرأت الكتاب واستمتعت به فهو عبارة عن رسالة وُجّهت من أحد أصحاب البلاغة في ذلك الزمن للمعري ، فقال بالرد عليها بما يتناسب والطرح المقدم في الرسالة الأولى ، وتتلخص أفكار الكتاب بسرد تاريخي لحقبة أفلت مروراً بالشعراء الكبار كامرئ القيس والأعشى وعنترة وابن كلثوم ، يترافق هذا السرد ببعض الآراء الخاصة بالكاتب ” المعري ” حول قضايا نحوية وعروضية وأدبية ..
فكرة الكتاب شبه خيالية حيث يسرد المعري رحلة متخيلة إلى الجنة والنار ، يصادف فيها الشعراء الكبار منهم في الجنة ومنهم في النار فيسأل كل شخص فيهم عما صنع وكيف وصل الأمر إلى ما وصل إليه معه ، ومن خلال نقاشه مع هؤلاء الشعراء يبيّن رأيه في بعض الأمور النحوية والعروضية التي أشكلت وكانت مثار جدل لاحقاً بين النحويين والعروضيين .
خلال قراءة هذا الكتاب نتوقف عند بعض الخفايا التي تولد بين السطور إما عن قصد وسابق تصميم من قبل المؤلف وإما مصادفةً ، أو لا تتعدى هذه الخفايا كونها وليدات أفكار القارئ ، حيث يرى القارئ ما يحب أن يرى ولعل البرهان الأكبر لهذا الطرح هو أن أصحاب الطرق الصوفية الدينية يحبون المعري ويحبذون ذكره ويترضون عنه ويعتبرونه واحداً من أشهر أئمة الزهد والتصوف ، وأيضاً في الجانب الآخر يمجّد المعري الملحدون الشيوعيون ويعتبرون كتاباته سابقة لعصرها في سياق الشيوعية والحركة اللادينية ويستشهدون بأقوال له في هذا السياق ” وغالباً ما تكون هذه الأقوال هي نفسها التي يستشهد بها المتصوفة في زعمهم ” ، فالقصد من وراء ذلك هو أن الكاتب نفسه ومن خلال إرثه الأدبي استطاع أن يخلق توليفة أدبية فكرية فلسفية يفهمها كل قارئ حسب ما يريد وحسب ما يخدم أفكاره ومعتقداته ومنطلقاته الفكرية .
عودةً لتلك الخفايا التي وردت في الكتاب ، لاحظتُ ميلاً سياسياً للمعري الذي عاصر الخليفة العباسي القائم بأمر الله ، وكأن المعري يبطّن جمله وأفكاره وراء حجاب من الأغراض النحوية والأدبية ويُنتج مجموعة مصطلحات تخدم المسير الادبي وفي نفس الوقت لا تخلو من البعد السياسي المحظور آنذاك فيعتمد بهذا على إيصال الفكرة بطريقة لا تُغضب صاحب الأمر ولا تثير حفيظة من يهتم بالشأن السياسي ولا تفتح العين على رهين المحبسين .
وفي سياق القراءة التاريخية وقفتُ عند كثير من الأسئلة التي تجد الطريق مباشرة إلى مخيلة القارئ وتُفرضُ عليه بحيث هل يستمر في قراءته أم يتوقف عند نقطة معينة مفصلية قد تُعارض مخزونه وإرثه الثقافي وتتنافى مع ما كان يعرف من أحداث ، فعند السرد التاريخي لا بد للكاتب من أن يدس رأيه في تأريخه بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر _ كما في مثالنا عن المعري _ وهذا الرأي لا يمكن أن يُطرح في الكتابة التاريخية فأنتَ ككاتب توثق الأحداث كما جرت لا كما رأيتَها وإلا ستقع حتماً في إشكالية التأريخ المتلازمة مع كتابته ، إشكالية دينية سياسية .
هذه الإشكالية تعرج بنا إلى البحث في واحد من أكثر الكتب التأريخية شهرة ، كتاب البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي ، هو كتاب تأريخي تغلب عليه السمة الدينية حيث يبدأ التأريخ من بداية الخليقة معتمداً على ما ورد في القرآن الكريم وفي أحاديث السنة النبوية مروراً بالعصور والحضارات المتعاقبة وصولاً إلى مرحلة السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين ثم الأمويين فالعباسيين وصولاً إلى المرحلة التي يعيش فيها ويستمر بوصف ما سيجري من أحداث اعتماداً ايضاً على ما ورد في الكتب السماوية .
ففي هذا الكتاب الكبير نوعاً ما يلاحظ القارئ أن الكاتب قد وقع في هذه الإشكالية بحيث عليه أن يتجنب ذكر ما يسيء لمن هو في سدة القرار آنذاك وأيضاً يجب أن يراعي النظرة السياسية للأحداث والوقائع الدينية التي جرت وتجري ، وقد يقول البعض أن المؤرخين في تلك الحقبة لم تكن تأخذهم في الله لومة لائم ولم يرضخوا للضغوط السياسية التي كانت تُمارَس عادة على مثل هذه النوعية من التأريخ ، لكن هذا الطرح ليس وارداً هنا ، فالحقائق تختلف تبعاً لمنظور الكاتب وتوجهه ومذهبه حتى لا يمكننا من خلال القراءة أن نعتبر أن هذا توثيق يعتمد عليه كمرجع تاريخي .
وترى الكاتب ابن كثير يسير في مؤلفه على سور يفصل بين فريقين ، فريق يملك القرار وبيده الأمر والنهي يجب أن يداريه ولا يظهر محاسن أعدائه وإن كانت صحيحة ، وفريق آخر له من المكانة ما له وله من الفضل ما له يحتار في أن يكتب الحقيقة أم يحابي الفريق الأول ، فابتكر طريقة لا بأس بها حين يروي كل وجهات النظر حول أمر ما _ التي يرضى عنها الحاكم والتي لا يرضى عنها _ ثم في النهاية يقوّي بعض الروايات ويضعف بعضها الآخر بجمل كـ : في إسناد هذه الرواية نظر .. أو : هذا أثر غريب عن فلان … إلخ من الجمل التي تسد الذرائع .
يسلط المؤرخون الضوء على حقبة أفلت ، ويستفيدون من كونهم قد عاصروا مجريات الأمور في تلك الحقبة ، ويصل التاريخ إلينا كمادة متجانسة لا يُقبل أن نوافق على جزء منها ونرفض الآخر ، ولا نعلم غن كان هذا التأريخ منصفاً أو لا .
السؤال الذي يجب أن يُطرح :
هل علينا أن نتعامل مع هذه الكتب ككتب مقدسة لا يجب النقاش حول صحتها ، أم أننا من الممكن أن نطعن في مصداقية ما جاء بها تبعاً لمجريات الأمور وما نعلم يقيناً وما وصلنا عبر الكتب السماوية والتي تتعارض في بعض المواطن مع ما يأتي به كتاب التاريخ الديني السياسي هذا ؟؟
هذه دعوة لإعادة البحث في التاريخ ونبش ما تم ختمه بالشمع الأحمر .. لمعرفة الحقائق الدينية السياسية .
وإلا فكل ما يسعنا فعله عند قراءة هذا التاريخ للأسف هو قول : آمين .
إشكالية التأريخ الأزلية بين مطرقة الدين وسندان السياسة