جيل نيدو .. والكتابة
سعاد جروس
كلما تذكرت كلمات أغنية إعلان حليب “نيدو” الشهير: (مع نيدو كبروا الأولاد الصغار .تغذوا وصاروا كبار). انتابني شعور بالأسف على هؤلاء الصغار الذين صاروا كباراً، لأنني انتمي لهؤلاء الصغار، أي لذلك الجيل الذي تربى على حليب “نيدو”، وعندما كبر انطلقت الحملات الصحية المنددة بالحليب المجفف والمطالبة بالعودة إلى حليب الأم الطبيعي الأكثر فائدة وأماناً للأم والطفل، فمن ناحية يعزز صلة الرحم، ومن الناحية الأخرى يرفع مستوى الذكاء، والأهم يقوي المناعة.. متأخراً، اكتشف جيلنا الذي يحتل اليوم موقعه في عالم الإبداع أنه تربى مثل الصيصان، على تناول علف مرّكز، يعطي نتائج مذهلة في سوق الدواجن الممتدة من المحيط إلى الخليج.
فماذا نكتب نحن أبناء هذا الجيل الذي أمضى ثلاثة عقود من عمره في هنكار مغلق، لُقن فيه علوم مناهج موحدة، على طريقة تزقيط البط؟ وما المذهل في النتائج التي أدت به إلى نيل شهادة تتيح له اللحاق بركب البطالة المقنعة في الوظائف الحكومية، فيما كانت رفاهيته الوحيدة لا تزيد على برامج ومواد إعلامية بألوان ثابتة في التلفزيون والإذاعة والصحف الرسمية؛ وحدها لا شركاء لها؟!
مع الانفتاح الإعلامي العربي الفضائي في منتصف التسعينيات، فقد جيلنا توازنه، واختل إيقاع يومه المضبوط على إيقاع البرنامج العام للتلفزيون الوطني: يكتب واجباته المدرسية وقت البرامج التعليمية، ويستريح وقت برامج الأطفال، يتناول عشاءه وقت نشرة الأخبار الرئيسية في الثامنة والنصف، يستحم الخميس قبل البرنامج العلمي من الألف إلى الياء، وإذا اجتهد يُسمح له بمشاهد تمثيلية السهرة، إن كانت محلية ومعقمة من المشاهد العاطفية، أما إذا عرض فيلم عربي فالنوم باكراً والحرمان من الاستمتاع بتأكيد محفوظاته من الأغاني والمشاهد الكوميدية التي تكرر وتعاد يومياً في برنامج غدا نلتقي. … إلخ.
طوال أكثر من ثلاثين عاماً تعرضت تلافيف دماغ هذا الجيل لعمليات قولبة وتسطيح. وكان من الطبيعي أن يجد نفسه على مشارف الألفية الثالثة مجردا أعزلا من أدوات التفكير والاختيار، بينما أبواب الانترنيت مشرعة لتدفق المعلومات والآراء من كل حدب وصوب، في زمن شهد عودة مظفرة للاستعمار بجميع أشكاله القديمة والجديدة، وكان عليه أن يجيب على أسئلة صعبة ومحرمة، عن الفرق بين الاحتلال الداخلي بمعنى “الدكتاتورية” والديموقراطية التي يحملها الاحتلال الأجنبي!! فجأة بات مطلوباً منه موقف واضح: إما استقلال وسيادة ودكتاتورية معاً، وإما احتلال وديمقراطية وفوضى… الخلطة الأولى كانت تلفيقية وبالتالي مرفوضة، فحصل الالتفات صوب الديمقرطية المشبوهة، غير أن تجربة العراق كانت مدمرة وفي منتهى الاجرام والارهاب، إذ أعطت الانموذج العملي لذلك القادم من الغرب حاملاً معه أجنداته الخفية.
جيلنا الفاقد لحرية الاطلاع على الآراء والألوان والمشارب الأخرى المختلفة عنه، كان فاقداً للبوصلة قبل فقدانه للحرية، ولا نبالغ بالقول إنه لم يعرف ما هي “الحرية” فهو لم يجربها أو يتذوق طمعها، فقد تربى على عدم الحاجة إليها ولا للعقل ما دام المتاح المريح هو الفكر والتوجه واللون الكاكي الواحد، كأي دجاجة أمضت عمرها القصير في هنغار تتهيأ ليوم الذبح دون أن تدري، لكن الاجتياح الإعلامي الفضائي بالتآزر مع ثورة الاتصالات الرقمية، غيَّر المعادلة، وفرض علينا خيارين لا ثالث لهما، إما الانكفاء أو الانخراط في الحركة التجارية العالمية للتواصل وتبادل المعلومات والأفكار، ولم يكن الوقت مساعداً لهضم ما كان علينا مواجهته. بينما الجيل اللاحق والأصغر بدأ يأخذ طريقه السريع إلى الشهرة والنجومية والمال عبر حمَّى برامج المسابقات والتوك شو، ضمن واقع يتحكم به رأسمال القطب الواحد وسياساته، كان من معالمه المريبة الانفتاح على اقتصاد السوق والغرب بعد ثلاثة عقود من تسيد النسخ الاشتراكية المعرَّبة والمحرَّفة، التي تربت في كنفها أجيال الستينات والسبعينات، الأمر الذي فرض علينا حرق المراحل والتخبط في الفوضى بغض النظر عن الهضم والتأمل والتجريب والتثقف، وكل ما يحتاج لمزيد من الوقت لم يعد موفوراً في ظل تسارع حركة التغيير المجتمعي والسياسي في العالم، فإما أن نباشر بالإنتاج الإبداعي والكتابة وإثبات الذات، أو نطرد خارج الساحة، وكانت الانترنيت والمدونات رحمة ساعدت على عملية الإنتاج السريع وبناء تراكم كان في غالبيته ركام من مخلفات ثلاثة عقود من الثقافة الموحدة، ركام يكشف حجم الخراب الذي خلفته الأنظمة الشمولية.
الحصيلة، ما نراه اليوم على امتداد المحتوى الرقمي العربي وفي قوائم المنشورات الحديثة أو ما يتعارف عليه بمصطلح الكتابة الجديدة، الساعية للتبرؤ من شبهة ذلك الخراب، دون امتلاكها للأدوات التي تخولها ذلك، لأنها بالأساس أدوات غير متيسرة لجيل سدت في وجهه جميع مسارب العمل السياسي والفكر الحر، لتبقى السياسة تابوهاً محرماً، أما الدين فكان بحكم الأمر الواقع خاضعاً للتدين الشعبي، وواحداً من المسارب الخطرة لخرق تابو السياسة، لكنهما معا كانا منظومة مغلقة من الصعب اختراقها بالكتابة، وهكذا لم يبق سوى تابو الجنس، فأعمل فيه جيلنا تحطيماً بروح تثأر من تاريخ الكبت السياسي والاجتماعي والإقصاء، ودخل من بوابة الجنس التي رفعت السلطات السياسية يدها عنها لغاية في نفس يعقوب، وأخذ يمرر من خلالها نظريات إعادة الاعتبار للذات المهمشة ولمشاكلها الخاصة والحميمة، في كتابات غالبيتها وصفية إن لم نقل سطحية في رصدها لأعراض أمراض مزمنة، لم تصل لغاية الآن، ورغم التراكم، إلى مرحلة تفكيكها وفهمها وتحجيمها، بل العكس تماماً أخذت الكتابة عن الجنس طابع الموضة الرائجة وبالغت بها بحيث باتت هي في حد ذاتها مشكلة، ولا غرابة في القول، إن غالبية الكتابات التي نقرأها لا تحتاج إلى نقد أدبي بقدر ما تحتاج إلى تحليل نفسي للصدمة التي تعرض لها جيل كامل تربى على التقنين في كل شيء وأقصي عن الحياة العامة، ووضع وجهاً لوجه أمام فوضى الانفتاح.
الحاجة لم تكن إلى النقد الأدبي لأن ما يكتب لا يرتكز إلى أسس ثقافية وفكرية متينة، وإنما إلى معاناة ومكابدة شخصية في كنف مجتمعات تداري أمراضها بالتمسك الكاذب بموروثها الأخلاقي، وأنظمة نخرها الفساد تصر على مقايضة الحريات بالأمن والاستقرار، وهذا ما شكل دافعاً إضافياً للكتابة والإبداع، وفي الوقت ذاته مناخاً لإجهاضه وبعثرته قبل أن يشكل تياراً أو حالة نهضوية، ومن المؤسف أنه لم ينضح عنه لغاية الآن سوى ملامح مشوشة لمشروع منفلش تبحث فيه القوى الطامحة للسيطرة عن نقطة ارتكاز لتعزيز تسللها إلى المنطقة..من خلال منظمات وجمعيات وجهات تعنى بالثقافة مستغلة حاجة الأجيال الجديدة إلى نوافذ عبور وتعبير بل فرص للتجريب.
على أي حال، لم تعد الكتابة سوى مجرد فعل بقاء وحياة، وصناعة رجاء على أمل القيامة، وهذا ما يفعله الكُتاب في المشهد الراهن. أصبح الكاتب يكتب ليقول أنه موجود وحسب، كما هو بخرابه وتشوهاته وحماقاته. وإذا كان موجوداً على هذه الشاكلة، فلأنه دُجن طوال عقود ليذوب في المجاميع كجزء من كل غير موجود. فهل ما يكتب اليوم في غالبيته هراء؟ نعم ولا، وسواء كان معبِّراًً عن حالة حقيقة أو محض هذيان. ففي ظل هذا الصخب العارم والضوضاء المستفحلة، من الصعب الحكم على ما نكتب أو كيف ولماذا نكتب، ما ندركه أنه لا بد من الاستمرار في الكتابة من أجل استعادة المفتقد من الأدوات الأولية للكتابة والتي هي حرية الاطلاع والتفكير والتعبير .. والأهم أننا على قيد الوجود ومن حق جيلنا كغيره من الأجيال المساهمة في هذا الذي يُصنع سواء كان المستقبل، أو شيئاً ما على علاقة بالعيش، أو بالحضارة الإنسانية. وإذا بدا متخبطاً، فليس ذنبه إنما ذنب القوى التي جردته من عقله وكتمت أنفاسه، وتركته ليواجه أقداره أعزل، وامتلكت حق محاسبته على ضعفه وتطرفه وحتى أمراضه النفسية.
جيل “نيدو” المحروم من حليب الأم الطبيعي، يمارس الكتابة كبديل عن ضائع، ربما لاستعادة ما حرم منه في الحياة، أو تعويض عن أشياء تمس الماضي أكثر من الحاضر؛ الماضي أيضاً بحاجة إلى ترميم، أو التطلع نحو المستقبل، غير أن المستقبل لن يأتي، قبل أن تسعفنا القدرة على تقديم رؤية عميقة متكاملة للذات والعالم.
عن موقع الكتابة الجديدة