ترجمة الإمبراطورية
صبحي حديدي
في مؤتمر ‘الترجمة وتحديات العصر’، الذي احتضنته القاهرة مؤخراً بتنظيم المجلس القومي للترجمة، طُرحت قضايا عديدة تخصّ طبيعة هذا النشاط الثقافي والمعرفي العريق، حمّال الأوجه، متعدد المدارس والمناهج، متباين التأويلات والتنظيرات. وكنتُ في عداد الذين ساجلوا بأنّ فعل الترجمة أشدّ تعقيداً وتشابكاً من أن تختصره تلك التعريفات التقليدية التي أشاعتها الفلسفة الغربية، في عصر الأنوار بصفة خاصة، والتي اكتفت بإثارة مسائل تقنية محضة. وهذا سجال يضع موضع مساءلة عميقة تلك النظرة المثالية الشائعة التي ترى في الترجمة، أو تأمل منها أن تكون، حواراً متكافئاً بين النصوص واللغات والثقافات؛ أو تلك النظرة المثالية التي تعتبر أنّ الترجمة هي فنّ التفاوض حول معنى مشترك، بين طرفين متباعدَيْن أو متناظرَيْن أو متناقضَيْن.
النموذج الكلاسيكي الذي يرد إلى الذهن أوّلاً هو ترجمة إدوارد لين لحكايات ‘ألف ليلة وليلة’، والتي صدرت مسلسلة بين أعوام 1830 و1840، حيث اعتاد وضع حواشٍ وتعليقات وشروحات تهدف إلى تبيان الفوارق الثقافية والحضارية بين الغرب والعرب، في مسائل شتى. السياسة، في المستوى المبطّن، كانت دغدغة حسّ الفانتازيا لدى القارىء الغربي، وإشباع الفضول الشعبوي حول عادات وتقاليد الشرق، لا سيما الجنس والنساء والعبادات. كذلك كان لين يلعب دور الإثنولوجي تارة، والأنثروبولوجي طوراً، ولا يتورّع عن الجزم بأنّ العربي ـ على نقيض ابن الحضارة الغربية ـ عاجز عن التمييز بين العقل والخيال، وبين العقلاني والخيالي.
النموذج الثاني هو ترجمة إدوارد فتزجيرالد لرباعيات عمر الخيام، التي صدرت سنة 1859 وتحوّلت إلى واحدة من أشهر ترجمات القرن التاسع عشر، وأكثرها شعبية. ومع ذلك فإنّ فتزجيرالد اتهم الفرس بانعدام الموهبة، وأنّ أشعارهم لم تدخل مملكة الفنّ إلا بعد ترجمتها إلى اللغة الإنكليزية. ومما له دلالة، هنا، أنّ ترجمات عديدة إلى اللغة الهندية تمّ إنجازها اعتماداً على ترجمة فتزجيرالد، بالرغم من أنّ اللغة الفارسية ظلّت لغة البلاط والنخبة في الهند، طيلة عقود. وهذه، في حدّ ذاتها، مفارقة ذات مغزى كبير في تبيان شرط التبعية الاستعماري، حين تصبح اللغة الإنكليزية هي وسيط الهند إلى ثقافة جارة من جهة، وإلى واحدة من أعرق لغات الهند من جهة ثانية.
أمثلة أخرى، معاصرة، يمكن أن يلتمسها المرء في التهافت على ترجمة رواية المرأة السعودية، بالرغم من هبوط السوية الفنية في معظم نماذجها، وذلك من منطلق إشباع النهم الأوروبي العامّ إلى كتابات صادرة عن مسلمات، تتناول موضوعات المثلية الجنسية وأسرار ‘الحريم’، وتشكّل مادّة تلصّص على خفايا الحياة اليومية في المجتمعات المسلمة. في المقابل، هنالك حال من عدم الاكتراث، في الولايات المتحدة خصوصاً، بآداب أفغانستان والعراق، رغم أنّ عدداً كبيراً من البلدان الأوروبية تشارك في احتلال هذين البلدين. وكانت الشاعرة الأمريكية أدريان ريش قد توقفت عند هذا الأمر، في مراجعتها لكتاب ‘الشعر العراقي اليوم’، الذي أعدّه سعد السماوي ومحمد توفيق علي، وصدر سنة 2003. الترجمة فعل بالغ الخطورة، تقول ريش، ولكنّ الأمل في أن تلعب الترجمة دور الجسر بين ثقافات الشعوب إنما تقتله خطط السياسة، بعد أن تتبدّد أغراضه النبيلة على وقع مدافع الاحتلال.
كلّ هذه الأمثلة تشير إلى أنّ الترجمة فعل سياسي بامتياز، يستهدف تأكيد تفوّق الذات (المترجِم) على الآخر (المترجَم)، وليس مجرّد التواصل معه، أو تأسيس علاقة تبادلية بين لغتَيْن تعبّر كلّ منهما عن ثقافة خاصة مستقلة. وتاريخ ممارسة الترجمة انطوى دائماً على حال من انعدام التكافؤ بين الشعوب واللغات، ليس في المستوى الاجتماعي ـ الثقافي فحسب، بل على مستوى علاقات القوّة، والإخضاع، والاستعمار. وعبر تنويع سياسات تناقل النصوص، على اختلاف وظائفها وحقولها المعرفية، كان الطرف الأقوى في سيرورة التناقل يضمر، ويديم، سياسة متماثلة متنقّلة تتبع أجندة ملموسة مركزية هي خدمة الهيمنة الإمبراطورية.
وقد يرى البعض أنّ هذه الخلاصات متطرفة، أو أنها تذهب إلى قراءة قصوى للأدوار التي لعبتها وتلعبها الترجمة في تقديم خدمات ثقافية لوظائف الهيمنة الإمبريالية، وأنّ الترجمة هي أيضاً عملية تبادل حواري وسيرورة ثنائية تتضمن الأخذ والعطاء. ولا ريب أنّ فعل الترجمة ينطوي على استثناءات كهذه، فهو ليس ممارسة متماثلة مطلقة واحدة، لكنّ السجلّ التاريخي يشير إلى أنّ الترجمة خلال الأطوار الاستعمارية كانت أحد التعبيرات الصريحة عن قوّة المستعمِر الثقافية كما يمارسها في علاقته بالمستعمَر. وقد تولى مهامّها أعضاء البعثات التبشيرية، وعلماء الأنثروبولوجيا، والمستشرقون، بصفة عامة؛ وهؤلاء اختاروا غالباً تلك النصوص المحلية التي تستجيب أكثر لصورة المستعمَر كما يحلو للمستعمِر أن يراها، ويستمتع بها.
ومن هنا يأتي سعي الأسئلة الجديدة، حول الترجمة في أحقاب ما بعد الاستعمار، إلى استجواب الثقافة الأوروبية في موقعها بين عالمين، وتدقيق الوسائل التي أتاحت لأوروبا فرض خطابها من خلال إخضاع ثلاثة أرباع البشر الذين يقطنون العالم الراهن.
خاص – صفحات سورية –