في بعض ما التبس على أدونيس
صلاح بوسريف
قرأتُ حوار أدونيس، كما أقرأ حوارات باقي الشُّعراء. تَهُمُّني كثيراً هذه الحوارات، فهي أولاً نوع من الوِشَايَة التي يُقْدِمُ عليها الشَّاعر، سواء ببعض أسرار حياته، أو ببعض أسرار كتابته، أو ما يمكن أن يكون مصادرَ تأثير في كتابة هذا الشَّاعر، أو في حياته. وهي ثانياً، نوع من المعرفة بالشِّعر، فما لا يقوله الشاعر، أو يكتبه نظرياً، فهو يقوله في حواراته، و لو بطريقة عفوية. هذا ما كنتُ كشفتُ عنه في بعض حوارات درويش، في ندوة أُقيمت حوله منذ سنواتٍ في الرباط. فالحوار هو أرضٌ لِلِّقَاءِ بالشَّاعر، هي غير ما يكتبُه، كون الحوار يكون شفاهياً، ولا تحكمه ضوابط الكتابة والمراجعة النقدية، أو إعادة القراءة التي نقوم بها عادةً، وفي هذا كثير من الفرق. في الحوار تَحْدُثُ مفاجآتٌ، ربما لم يكن الشَّاعر يتوقَّع حُدوثَها، فالتفكير في مثل هذه الوضعية، يكون مُوَجَّهاً، لأنَّ ثمة طرفاً آخر يتدخَّل في تغيير مسار الكلام، أو توجيهه، وفق استراتيجية المُحَاوِر، وذكائه، و معرفته أيضاً، ببعض أسرار الشَّاعر.
هذا ما حدث بالضبط، في هذا الحوار الذي أداره عبده وازن بذكاء، وباستراتيجية مُحَدَّدَةٍ، أعطت ما آلَ إليه الحوار من أحكام وآراء.
كما أنَّ أهمية الحوار تأتي من كونه كان مع شاعر له أهميتُه الخاصة في المشهد الشعري المعاصر، وكون ما يُصَرِّحُ به، خصوصاً في حُكْمِه على تجارب وكتابات شُعَراء آخرين، صادرٌ عن معرفة بهذه التجارب، خصوصاً، أنها في مُجْمَلِها، هي من التجارب أو الكتابات المُجَايِلة لأدونيس، أو القريبة منه زمنياً. فأدونيس من الشُّعراء الذين لم يكتفوا بكتابة الشِّعر فقط، وهو من المُشْتَغِلِين به نَظَرياً، وهذا يعني امتلاكَهُ لِتَصَوُّرِه الخاص، في ما يجري شعرياً، أي أنَّ تجربتَه هي مشروع شعري، ونظري، وليست مُجرَّد كتابةٍ، تصدُرُ عن حساسية شعريةٍ، لا تستندُ للمعرفة النظرية، التي هي اختبار لتجارب وكتاباتٍ تبدأ، في مثل وضع أدونيس ، من ماضي الشِّعر، أو من بعيدِ المعرفة الإنسانية، وهو ما لا يتوفر لكثيرين من الشعراء المُكْتَفِين بالشعر، كتابةً.
لم يبدُ لي الحوار قاسياً، أو إقصاءً للآخرين، فهو في ضوء ما أشرتُ إليه، نوع من القراءة للشعر العربي، أو حصيلةً bilan من منظور شاعرٍ، وليس ناقداً، كما نَبَّه أدونيس إلى ذلك في الحوار نفسه. فما قاله عن البياتي وعن حجازي، وأمل دُنقُل، ونازك الملائكة، مثلاً، كان حقيقةً نَصِّيَةً، وعلينا، في حالة الاختلاف مع أدونيس أن نعود لقراءة كتابات هؤلاء الشعراء، كاملةً، و ليس بنوع من الابتسار، أو قراءة نصوص مُحَدَّدةٍ باعتبارها كُلاًّ، أو بتأثير الواقع التاريخي أو الإعلامي لبعض هذه الأسماء، أو لِمَا تعرفُه من تكريس، في المدارس والجامعات العربية.
في حَالَتَيْ درويش والسياب، الأمر يختلف، فالسياب كانت له تجربة خاصة، وكانت تصدُرُ، في رؤيتها عن أفق شِعريٍّ، هو زواجٌ بين لغةٍ جاءت من ماضي الشعر العربي، ولُغَةٍ كانت تُبَادرُ لاختراق هذا الماضي، بالنظر إلى بعض تجارب الشعر الإنكليزي، رغم أنَّ السياب لم يستطع أن يتخلص من أسر الماضي، ومن جماليات تعبيره، وهذا يعود، ربما لطبيعة، البنية الشفاهية المُسْتَحْكِمَة في شعره، وهي في مرجعيتها تعود إلى المقروء الشعري القديم. لكن هذا لا يعني أن تجربة السياب تتوقف عند نصوصٍ مُحدَّدةٍ، فهي تجربة واحدة، تَسْتَنْفِذُ طاقَتَها، بالكُلِّ، وليس بهذا الجزء، وإبداعيتُها، قياساً بما يجري اليوم من كتابات شعريةٍ، لم تعد بنفس الأهمية التي كانت لها من قبل، فالسياقات الشعرية، ومفهوم القيمة تغيَّرا، وهو ما انعكس على القراءة نفسها. وهذا ما لم ينتبه إليه أدونيس في كلامه عن السياب.
نفس الأمر يمكن قولُه بالنسبة لدرويش. كتبتُ أكثر من مرة، في هذا الموضوع، وكنتُ أقـول إنَّ تجـربة درويش اكتسبت عُمقاً خاصاً، بدءاً من أحد عشر كوكباً، والنصوص الأخيرة لدرويش، التي نُشِرَت بطريقة غير لائقة في ديوانه الأخير بعد وفاته، فيها ما يؤكِّد انعطافةً في تجربته، لكن بحكم القَدَر، لم تكتمل. فحُكْم أدونيس كان نوعاً من التعميم، ولم يكن صادراً عن جُرْأةٍ شعرية حقيقية، فالذات كانت حاضرةً هنا أكثر من غيرها.
لكن في تَصَوُّرِي، ينبغي اعتبار الحوار، فـي قراءته لهؤلاء الشعراء، تحديداً، ويمكن أن أضيف لهـم، صلاح عبد الصبور ومحمد الماغوط، وغيرهما من الشعراء الذين دَرَجْنَا على تسميتهم بالرواد، بما في ذلك بعض ما كتبه أدونيس نفسه،نوعاً من إزالة الغطاء على تلك القراءات النقدية، والدراسات الأكاديمية التي احْتَمَت بهؤلاء لبناء تصوُّرها عن الشعر، وهو تصور، لم يعد اليوم قابلاً للاشتغال في أفق ما يصدر من كتاباتٍ، لم يعُد هذا النقد، أو الجامعة، بما فيها من تَخَلُّفٍ عما يجري في الشِعر اليوم، قادِرَيْنِ على صياغة رؤية واضحة حول هذا الذي يَحْدُثُ، كون المعايير التي كانوا يتمسكون بها انْتَهَت، أو أصبحت تاريخاً، أعني ماضياً، في المعرفة بالشعر. يمكن قراءة الكتاب الأخير لجابر عصفور الصادر عن المركز الثقافي العربي، وما يكتبه عن الشِّعر بشكل خاص، على أنه كتابٌ يأتي من ماضي هذه التجارب، ولا صلة له براهن الشعر العربي، أو هو نوع من الحنين لهذا الماضي، ولمعاييره المتلاشية. بهذا المعنى فهي كتابةُ مُتَلاشِيَاتٍ.
ثمة مبالغاتٍ في الحوار، فيها نوع من تمجيد الذات، والاسْتِفْرَاد بالريادة، و هذا ما لم أَسْتَحِبّه، أو ما أزعجني في كلام أدونيس. من حق الشاعر أن يَسْعَد بمنجزاته، لكن ليس من حقه أن يُكَرِّسَ نفسه وَصِيّاً على ما يجري في أراضي الشعر المختلفة، وخصوصاً على أجيال، لم تَعُد مقتنعةً بتجربته، هو الآخر، مهما كانت القيمة التي بَلَغَها، أو يصدُر عنها. وهذه من الأمور التي تحدُثُ في الحوارات، كونها غير خاضعة لرقابة الوعي، الذي غالباً ما يتدخَّل أثناء المراجعة.
في ما يتعلَّق بالشعر المغاربي، أو بالثقافة المغاربية، فما قاله أدونيس عن الشعر المكتوب بالفرنسية قياساً بالشعر المكتوب بالعربية، غير صحيح، وهو بالأسف من قبيل التعميم، وما تحظى به الكتابات الفرنسية من اهتمام، في النشر والتوزيع و التداوُل. لم يكن أدونيس في حُكْمِه يصدر عن النصوص العربية، لأنه اكتفى بما يعرفه من كتابات محدودة، ربما لا تتجاوز مرحلة السبعينيات، وبعض النصوص التي تصله بالمراسَلَة، ربما. فما اقْتَرَحَه من أسماء بالفرنسية، يفضحُ هذا الحُكْم، فهي في أغلبها تاريخية. أسأل أدونيس، أين ما يُكْتَب اليوم من تجارب بالفرنسية؟ هي غير ما ذَكَرْتَهُ، وما أتى بعد المرحلة التي حَصَرْتَها، في هذه الأسماء دون غيرها. هل معنى هذا أنَّ الشعر المغاربي المكتوب بالفرنسية، وكذلك الرواية، تتوقف على مَنْ ذكرتَهُم، أو من اكتَفَيْتَ بقراءتهم، بالأحرى؟
صحيح أن كتابات الشبان، أو ما جاء بعد السبعينيات، في المغرب بشكل خاص، أهم مما كان، وأكثر جُرْأةً في ابتداع لُغَتِه، وأشكال تعبيره، رغم أنَّ مفهوم قلة ‘ الهجس بالذات’، باعتباره مزيةً، كما جاء في الحوار، فيه كثير من الالتباس، كون الذات هي مدار المعرفة الإنسانية، ومن المشكلات التي تشغلُ ليس الشعر فقط، بل الفكر، وكل التعبيرات الفنية والجمالية.
أعتقدُ أنَّ قراءةَ الشعر اليوم، وفي ظل ما يجري من انقلاباتٍ في الأفكار، وفي النظر إلى اللغةِ، وإلى مفاهيم، كانت إلى وقت قريبٍ من قبل المُسَلَّمَات.
لم تَعُد مُتَاحَةً بهذا النوع من التعميم، أو التعتيم، الذي قد يَحْدُثُ، حين لا نستند إلى وَعْيِ النص في ذاته، أو إلى نسبية الحُكْم. فالشِّعر اليوم، حَدَثَتْ فيه تَشَعُّبات كثيرة، و أصبح أراضيَ، وليس أرضاً واحدةً. وهذه مِنْ لحظات الوَهَن الموجودة في الحوار، رغم أنَّ أدونيس يحرص على متابعة ما يجري في هذا الشعر، لكنه، في ما يبدو لي، لم يَعُد بنفس الأهمية التي كان عليها من قبل.
أشياء كثيرةٌ جرت في الواقع الشعري العربي، و ظهرت جرائد ومجلات و مواقع، ودور نشر خاصة بالشِّعر، أتاحت للنصوص أن تصلَ إلى الجميع، وأتاحت معرفَةً جديدةً بهذه النصوص، وبالآفاق الجمالية الجديدة التي شَرَعَت في اقترافها. فما تتطلبه القراءة اليوم، هو الانتباه إلى المسافة الحادثة في هذه التجارب بين الشفاهي والمكتوب، والصفحة كدال هامٍّ فيها، بخلاف ما نجده عند أدونيس الذي، رغم ما قام به في الكتاب، من سَعْيٍ للاشتغال على الصفحة، فالشفاهي، الذي يحكُمُ تجربة أدونيس، هو نفسُه الذي كان مُهَيْمِناً في الكتاب، وهو ما كنتُ وقفتُ عنده بتفصيل في كتابي ‘ نداء الشِّعر’. في هذا الماضي الشِّعري، يلتقي أدونيس مع السياب، ومع دُنقُل، وأيضاً مع درويش، وهو ما لم يَعُد قائماً بنفس الصورة في كتابات ما بعد السبعينيات، في العالم العربي.
يعود هذا إلى اختلاف طُرُق المعرفة، وإلى الانفتاح على اللغات، التي كانت الترجمة تنوب عنها في المعرفة بالشعر الأوروبي والأمريكي. المُوَاجَهَة الشعرية مع الآخر، ومعرفتـُهُ، لم تَعُد تَحْدُثُ بالوساطة، في أغلب الأحيان، وهذا من الأمور التي ساعدتْ على انقلاب المفهومات والمعايير، وأشكال الكتابة، وطُرُق التعامُل مع اللغة.
وأخيراً أريدُ أن أُنَبّهَ إلى خطورة رأي يأتينا، نحن المغاربة، من المشرق العربي دائماً، كون المغرب بارعٌ في النقد والفكر، يضيف أدونيس التشكيل، ما يعني نفي الشعرية عن المغاربة، وهو رأيٌ فيه جَهْلٌ كبير بالشعر المغربي، وعدم معرفة حقيقية بما عندنا من كتابات. فلعلَّ الذين أصدروا هذا الحُكْم، اكْتَفَوْا بما كانوا يعرفونه من شِعْرٍ وَصَلَهُم من أجيال سابقة، ولم يَسْعَوْا لبذل نفس الجُهد الذي نبذُلُه نحن في معرفة أجيالهم الجديدة، وفي معرفة ما يكتبونه. وأدونيس صَدَر عن نفس الرأي، حين اكتفى بزمن مضى، وبشعراء، ما تزال كتاباتُهُم، هي مصدر معرفته بالشعر المغربي، وما صَدَرَ عنه من أحكامٍ تَخُصُّ هذا الشعر، بشكل خاصّ.
القدس العربي