حــدّث أدونيــس: الحداثــة لــم تبــدأ بعــد
عباس بيضون
أحب ان اعتقد ان أدونيس في حديثه الطويل الى عبده وازن في جريدة الحياة أراد فقط ان يجلو ويكشف ويحسم أموراً ظلت مطوية او بقيت بين بين. أحب ان اعتقد ان الرجل الذي تسبقه المعارك، الى حيث يمضي، لم يكن هذه المرة في سبيله الى معركة. لم يقصد الاستفزاز فما قال أكثر من ان يكون طعمة للاستفزاز. معارك المستفَزين دونكيشوتيه وما قاله أدونيس اليوم أكثر من ان يكون طواحين هواء. انه كلام يصيب ويقلق وهذا فوق نطاق اللعبة. ربما لذا لم نسمع حساً او جواباً بعد، قد يحصل ذلك بعد وقت لكن محاكمات أدونيس في حديثه الطويل، كانت مفاجئة بحيث لم يكونوا جاهزين لها. يمكننا لذلك ان نتناولها قبل ان تشتعل النار وقبل ان نعلق بين نارين. أحب ان اعتقد ان كلام أدونيس الأخير داعية الحرية. أراد الشاعر الآن ان يتكلم على رسله ولا يداري حساسيات ومواضعات اجتماعية، ان تكون حراً خير من ان تكون لائقاً ولا يطلب من الشاعر ان يكون ديبلوماسيا بل ان يكون شاعراً، إذ لا يخدم الثقافة في شيء ان نعرضها لعلاقات المجتمع ومواصفاته.
ثم ان أدونيس بالذات هو من ينبغي ان نطالبه بالحرية، الرجل الذي غطى بحضوره شاعراً ومنظراً للشعر ومفكّراً على حقبة كاملة في الثقافة العربية ليس أي احد. انه لأصحابه وخصومه معا منذ الآن شخص تاريخي وكلامه لذلك وثيقة وحدث. من كان في مكانته وتجربته وسّنه أيضا مطالب بأن يقول أكثر للتاريخ والمستقبل الثقافة العربية، فكلامه سيكشف أكثر من أي كلام آخر علاقات هذه الثقافة وواقعها. المطلوب من أدونيس ليس الحرص بل عكسه، ما يصرح به الآن عن نفسه وعن سواه سيكون بهذا المعنى ثميناً، ستكون صراحته مغفورة أيا ذهبت، عكسها هو الذي يستحق اللوم.
تكلم أدونيس عن جيله الشعري واحداً فواحداً تقريباً. ليس محمود درويش من هذا الجيل لكن كلامه عنه هو بدون شك عقدة الحديث، لا يزال غياب درويش مدوياً ولا يزال أدونيس القطب الموازي له، وبين الاثنين علاقة ملبسة هي ما يستجد عادة بين الأقطاب، صداقة فخصومه فمهادنة. لكن العلاقة الشخصية ليست ما يهمنا، شعر الشاعرين، وبالتالي قراءتهما للشعر، متباعدان. لم يكن أدونيس يحب شعر درويش ولا درويش يحب شعر أدونيس. دعك من العلاقة الشخصية ففي شعر الشاعرين ورؤيتهما للشعر ما يرشدنا أكثر الى سوء التفاهم الشعري. هذا يعني ذلك ان المستوى الشخصي ليس للوحيد الذي نفهم عليه رأي أدونيس في شعر درويش، إذ لا بد من ان يكون القيل والقال هو غرضنا الوحيد لنفهم الأمور كذلك. المستوى الشعري كاف ومقنع ليكون لأدونيس رأي سلبي في شعر درويش ولدرويش رأي مماثل في شعر أدونيس. لم يقل درويش رأيا صريحاً في شعر أدونيس وتأخر أدونيس حتى قال رأيه، ليس هذا التأخر في صالح أدونيس وخاصة انه طال حتى غياب درويش، مع ذلك فإن هذا لا يتعلق بالرأي نفسه. شعر أدونيس هو الحكم الاول في قراءة أدونيس لدرويش، شعر أدونيس بما يضمره من قراءة للشعر وفهم له. حين يقول أدونيس ان شعر درويش شعر جمع ومصالحة وانه لم ينفرد في اللغة ولا في الرؤيا، فإن أدونيس يرى في شعره هو نموذجه في الانفراد والخروج والخلخلة، بحسب لغة أدونيس النقدية، حين كان درويش يجد شعر أدونيس مجرداً ومصنوعاً فإن علينا ان نفهم ما يعنيه بذلك من شعره، بين درويش وأدونيس علاقات شخصية بدون شك لكن هذه العلاقات ليست مرجعاً نقدياً حين يتعلق الأمر بقراءة كل منهما للآخر. أحب أنا ان أدرج هاتين القراءتين في سجال آخر لا يخص الشاعرين حول الشعر ورؤيته. أحب ان أرى فيهما جانباً من سجال لا يقتصر عليهما بل يضيف إليهما قراءات وأسماء بل وأجيالاً أخرى. بين أيدينا الآن رأي مكتوب لأدونيس في درويش قد يكون مدخلاً لتجديد السجال حول استراتيجيات شعرية كما يسميها صبحي حديدي، لن يكون أدونيس ودرويش وحدهما فيه. لكن خروج السجال من اللياقات والعباءة الشخصية والحصانات من أي نوع شرط لا بد منه لخدمة هكذا سجال.
ليس لي رأي أدونيس في شعر محمود درويش، لكن شعر درويش، وخاصة في غيابه، يحيا بالقراءة لا بالإجماع. طالما كان هذا الإجماع حجراً على قراءة درويش وتضييقا لها. طالما وجد درويش في هذا الإجماع تواطؤا معيقا. أيّاً كانت ملابسات رأي أدونيس فإنني لا ارفض دعوة لتجديد قراءة درويش. افهم أيضا هكذا رأي أدونيس في البياتي والماغوط وأبي شقرا وحجازي وأمل دنقل. أفهمه على انه رأي لا موقف، أريده هكذا لكي لا يفلت السجال ويغرق في القيل والقال ولكي يبقى محل لنقاش فعلي. رأي لا موقف ولا يرد بالتالي الى الخيانة والوفاء فالشاعر الذي لم يتردد في الكلام عن غرامياته خارج الزوجية، لا يمكننا ان نضع أراءه الشعرية في القفص. لكنتُ اتمنى مع ذلك ان يلزم أدونيس، خطته وان تبقى كلمته في بقية الشعراء هي هي وبنفس المعيار. لكن أدونيس حين يقول في سميح القاسم «في طليعة شعراء جيله». أيننا عند ذلك من الكلام على شعر الجمع والتسوية والجماهيرية، قولة أدونيس في القاسم مطاطة، لكننا لا نأمن من الشعور بأن فيها هروباً ومداراة.
من الناحية نفسها اشعر كعبده وازن بأن أدونيس يجتهد في الدفاع عن يوسف الخال ويخرّج له خاصيات. نسب له ريادة في التقنية الشعرية (قصيدة التدوير) والموضوع (المسيحية والنثر اليومي) فيما انه (أدونيس) في محاكمة الشعراء الشبان ينكر ان يكون للتقنية والموضوع شأن في تقييم الشعر.
لا نجد رأياً صريحاً بل لا نجد رأيا على الإطلاق في كلام أدونيس على انسي الحاج. ثمة مظهر إيجاب في القول انه يقرأ كل ما يكتبه، لكنه مظهر فحسب إذ ان أدونيس لا يتناول، في شيء، اثر أنسي الشعري. كان انسي بشارة، يقول أدونيس عن بدايات انسي، لكنه لا يفضي برأي في اثر انسي الحاج المكتمل تقريبا. لدى سعدي لا يختلف الأمر، كلام عن بدايات سعدي ثم «للعجب» استحسان لتأثر سعدي بريتسوس، ليس في هذا رأي أيضا. في حالي سعدي وانسي ثمة مداورة او مواربة على الأقل. أما صلاح عبد الصبور فلم يبق من «دفاع» أدونيس عنه إلا انه خرج عن القصيدة الشوقية، ليس في هذا الكلام وجه مديح واضح. السياب وحده يحظى باستحسان صريح لكنه محصور في 10 قصائد. ليس العدد قليلاً لكنها العشر قصائد الوحيدة التي يستحسنها أدونيس بوضوح من كل شعر جيله. أما حقيقة الأمر وجملته في النهاية فهي أن أدونيس لا يحس بحاجة «الى قراءة أي شاعر من شعراء جيلي». الحقيقة هي ان أدونيس في حساب أخير يخرج نسه من جيله بل هو لا يرى لجيل الريادة هذا أكثر من قيمة تاريخية وظرفية. أين تكون حركة الحداثة الشعرية، إذا، بل أين تكون مجلة شعر عندها، بل ان يكون يوسف الخال والسياب عندئذ. بل أين تكون قراءة «كل ما يكتب انسي».
أما الأجيال التالية فلا تلقى اعتباراً مختلفاً. على المستوى النقدي يراها تختزل كل الحداثة الشعرية في قصيدة النثر التي ليست شيئا بذاتها. أما الدعوة الى نقد الفصاحة فإن النتاج الذي «يصدر عن هذه الدعوة» يجعل منها ـ استناداً الى ما قرأته ـ يقول أدونيس دعوة ثقافية سياسية أكثر منها شعرية. الدعوتان لا تملكان في حد ذاتهما شرط الحداثة، قد تكونان مع ذلك نكوصا الى السائد والتقليد، اما الثلاثة الذين يفردهم أدونيس «رمضان وحداد وأنا» ويشرفني بالطبع ان يسميني شاعر كأدونيس، فهم الاستثناء الذي يثبت القاعدة. بهم او بدونهم يغدو الحكم شاملاً وعاماً، خاصة وان ميزة الثلاثة، جرياً على ما وصف به أدونيس عبد المنعم رمضان، انهم خرجوا عن قصيدة شوقي.
إذا تابعنا هذا المنطق نفهم ان ما نسميه بالحداثة الشعرية لم يتجاوز بعد القصيدة الشوقية ولا يزال تصارع عندها. أما ما يرمي به أدونيس مخالفيه فكنت اتمنى لو انه لم يقله. «تخرصات. جهل بالشعر، إلغاء بدون قيمة أخلاقية وإنسانية» أيا كان الأمر فإن في وسع أدونيس ان يفترض مخالفا مشروعا وحقيقيا. مخالفا له منطقه وموقفه وكلمته، أن يسمي، لو وجد، مخالفا من هذا النوع. أما ان لا نجد سوى تفسير «عدائي» وبسيكولوجي وشخصي للخلاف فهذا ما يزكي الذين يبادرون أدونيس بالعداء والاتهام الشخصي. ثم ان رجلاً كأدونيس له معاركه وصداماته ينبغي له، على الأقل، أخلاقيا، ان يفترض هذا المخالف المشروع، بل ان يحرض على إيجاده.
لست في معرض مناقشة أدونيس لكننا نفهم منه ان الحداثة الشعرية والثقافية والأدبية لم توجد بعد، شروطها الاجتماعية والحضارية غير متوفرة كما يردد أدونيس غير مرة في حديثه، هذا كلام إشكالي ونفّاذ، لكن أين الأثر لأدونيسي نفسه من هذه الإشكالية. هل يشكل وحده قفزة على غياب الشرط الحضاري والاجتماعي والسياسي. الا يحتاج الأمر عندئذ الى تركيب معادلة جديدة.
يفرد أدونيس نفسه تماماً، لا هو في الحداثة الشعرية ولا هو في الثقافة العربية. يربكه قليلاً ان يلاحظ عبده وازن «إجماعاً» ثقافياً عربياً عليه، ينكر هذا الإجماع لكنه بالتأكيد ليس مبعداً ولا منبوذاً. حين يلاحظ عبده وفرة الكتب العربية النقدية عن أدونيس وانشغال الباحثين به يجود بواحدة من الثناءات النادرة على الثقافة العربية (انظر إليه بوصفه وعيا عميقاً يعنى بالشعر الذي يطرح اسئلة ويثير قضايا ترتبط بالوجود والمصير). ملاحظتا عبده وازن صحيحتان، ليس أدونيس لوتريامون او النفري اللذين انتظرا من يكتشفهما. إنه شاعراً، ومنظراً ومفكّراً، الأكثر تأثراً وهو تقريباً بطريرك القصيدة الحديثة، كما كان يقال عن بروتون، وأمامها. غطى شعره على حقبة كاملة لم يكن فيها إلا مقلد له بين الشعراء، كذلك كان فكره وتنظيره اللذين لا يزالان أساسيين وفاعلين للغاية. ليس أدونيس بكلمة، هامشياً او ثانوياً. انه في مركز الثقافة العربية الراهنة والشعر العربي المعاصر. أي انه مسؤول كبير داخل هذه الثقافة ومؤسس كبير وفاعل كبير، لن يستطيع، بهذه الصفة، ان يعتفي من كل مسؤولية وان يتكلم من بعيد. لن يستطيع ان يضع نفسه كليا خارج أي وصف او تقييم لهذا الثقافة ولشعرها، باختصار اسئلة أدونيس عميقة ونفّاذة بحيث تستحق أيضاً ان يطرحها على نفسه.
السفير الثقافي