ثورة تونس

قوى الخوف

سعد محيو
“تونس تعيش اليوم في خوف . العائلات يمكن أن يُعتدى عليها وتتعرض إلى الذبح في غرف نومها . المواطنون قد يُقتلون في الشارع كما لو أنها الثورة البلشفية أو الأمريكية” .
هكذا تحدّث العقيد معمر القذافي، في سياق إبداء “ألمه” لسقوط الرئيس زين العابدين بن علي وتنديده بالثورة الشعبية التونسية . وهو كلام أبعد ما يكون عن زلات اللسان أو العواطف المنفلتة من عقالها . إنه بالأحرى عين العقل .
أي عقل؟ ذلك الذي يسيطر منذ نصف قرن ونيّف على الحكومات السلطوية العربية، التي انقلبت بين ليلة وضحاها من أنظمة قومية ثورية تريد تحرير الأمة العربية وتوحيدها لتقوم برسائلها الخالدة، إلى أنظمة حوّلت بلدانها إلى سجن كبير للأمة نفسها ولمواطنيها معاً .
العقيد القذافي نموذج هذه الأنظمة التي كان الجيش عمودها الفقري وأجهزة الأمن جهازها العصبي، والتي أقامت سلطتها الأتوقراطية والاستبدادية على عمادين لا ثالث لهما: الخوف والدعم الغربي المُطلق لها .
العماد الأول، تحدثنا عنه أمس في هذه الزاوية . أما العماد الثاني فعبّر عنه أيما تعبير القذافي في تحذيره العائلات التونسية من الذبح في غرف النوم والسحل في الشوارع، على رغم معرفته الكاملة بالطبع بأن من قد يرتكب هذه الفظائع ليس سوى أجهزة مخابرات ابن علي .
الخوف والتخويف هما الاستراتيجية الكبرى التي طبقتها الأنظمة السلطوية لإرغام مواطنيها وشعوبها على الانصياع إلى سلطتها المطلقة . وهي كانت، ولاتزال، تضعهم بين خيارين: إما الاستقرار والسلام اللذان تضمنهما هي، أو الفوضى وسفك الدماء اللذان تخترعهما هي أيضاً .
هذه كانت المعادلة التي فُرِضت على المواطن العربي طيلة ردح طويل من الزمن، وبنجاح . وهذه بالتحديد هي المعادلة التي حطّمها الجيل الجديد في تونس والتي يستعد الشبان في البلدان الأخرى لتحطيمها، عبر مواجهة الخوف إلى درجة إحراق الذات .
هذا هو التفسير الحقيقي لظاهرة الحرق التي بدأت مع محمد البوعزيزي وتتمدد الآن إلى بقية السرب العربي . فالجيل الجديد يُسقط الخوف عبر النظر إلى الموت في عينيه مباشرة . وهو حين يفعل، يؤسّس لهوية عربية جديدة قوامها الكرامة والشجاعة واحترام الذات .
كتبت “الغارديان” (16 كانون الثاني/يناير): “استقرار أنظمة العديد من الأنظمة العربية يعتمد على مزيج من قوة الدولة ولامبالاة الشعب، لكن هذه اللامبالاة تغيّرت إلى حد كبير في تونس . والآن، ما يُقلق القادة العرب الآخرين على وجه الخصوص هو سقوط الخوف لدى الجمهور الذي بات مستعداً لمواجهة الرصاص الحي لشرطة قمع الشغب . فالأنظمة السلطوية نادراً ما تبقى طويلاً على قيد الحياة حين يتمزق وهمُ مناعتها” .
لقد كان معروفاً من أمد طويل أن الدول السلطوية العربية ليست قوية، كما توحي هي وكما تُقنع مواطنيها، بل هي كما يقول الباحث نزيه الأيوبي “دول شرسة وواهنة في آن، لأنها تعتمد ليس على المشروعية والمقبولية الشعبية، بل على التخويف والتعذيب” . وهذان الأخيران يتوقفان عن العمل حين يتجرأ المواطنون على النزول إلى الشوارع .
العقيد القذافي نطق باسم جميع هذه “الدول الشرسة”، حين تحدّث بلغة الذبح في غرف النوم . بيد أن هذا كان في الواقع حديث الخائف لا المُخوف .
الخائف ممَ؟ من انقلاب “موازين قوى الخوف” في كل المنطقة العربية .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى