صفحات ثقافية

عندما يصبح المثقف بوقاً للصهيونية والأنظمة الاستبدادية!

null
بول شاوول
عندما يُتهم كاتب أو فنّان أو فيلسوف أو سياسي غربي بمعاداة السامية، فيعني أن اللعنة حَلّت عليه. وعلى أفكاره. وكتاباته. وأعماله. وصولاً الى حياة الشخصية والدنيوية.
يُشطب احياناً من قائمة “الأحياء” أو “الموجودين”. انها الصهيونية العالمية، وعقدة الذنب الغربية من خلال التاريخ المسيحي واليهودي. فعلى كل من تسول نفسه مثلاً “انتقاد” مجزرة اسرائيلية بحق الفلسطينيين أن يحتمل وزر “انحيازه” الى “الارهابيين”! ولو كانوا من الضحايا. وعلى كل من تسوّل له نفسه انتقاد الاستراتيجية الاستيطانية عليه أن يسائل نفسه أولاً: ماذا ينتظره من عُتاة اللوبي الصهيوني، وأي طامة سوداء ستصيبه، وأي منقلب سينقلب.
فهناك اذاً مقدسات ترتبط بالشعب “المقدس” شعب الله المختار، وعلى كل الشعوب في العالم هنا، وربما في العوالم الأخرى، الكوكبية والفضائية والباطنية، أن تعتبر نفسها وبارادة “الإله” القدير العادل ان مهمتها خدمة ذلك الشعب المختار في استعمار “ميتافيزيقي” ديني توراتي لا معارضة لنواهيه ولا لحقائقه المكتملة. ونتذكر هنا كثيرين ممن حلت عليهم تهمة معاداة السامية من نيتشه الى سيلين الى غارودي وصولاً الى الجنرال ديغول والرئيس بوش الأب عندما هدد اسرائيل بعقوبات اقتصادية.. ووصولاً حتى الى الرئيس أوباما.. الذي أُلبس العمامة الفلسطينية.. ولم يسلم من هذه التهمة الجاهزة. فعلى كل مثقف أو كاتب أو أيديولوجي أو فيلسوف.. أن يعمل حسابه: هناك خطوط حمر لا يمكن تجاوزها على الكرة الأرضية كافة: انتقاد الدولة الصهيونية التي لا يمكن فصلها عن يهوديتها. فالتعرض لشارون هو معاداة للسامية. وانتقاد الارهابي بيغن أو شامير أو نتنياهو.. وحتى ليبرمان أو أشكينازي.. مجلبة للعار الانساني والسياسي.. وتصنيف مجرم في خانة الارهاب!
وفي هذا الإطار المحكم والمنظم والموّجه تندرج كتابات فلاسفة ومثقفين وشعراء، هم الى ادعائهم “اليسار” والعلمانية، والتزام قضايا الشعوب ووقوفهم الى جانب ضحايا الظلم والاستبداد، لا يترددون في الانحياز الى السياسة الصهيونية، والى منطق “شعب الله المختار” والى ثنائية الأحكام: اسرائيل هي الخير المطلق وفلسطين هي الشر المطلق. واذا كان ثمة تغيير ما طرأ على الذهنية الشعبية والنخبوية الغربية بعد حرب 1967، عندما اكتشف هؤلاء مدى عدوانية اسرائيل وجبروتها عبر احتلالها أجزاء من العالم العربي وفلسطين، وعندما باتت تظهر أشكال من التمييز بين اليهودية واسرائيل، وبين الممارسات السياسية وخرافة “شعب الله المختار” (الخرافة من هدايا التوراة الينا من دون ان ننسى الهوية الكبرى بترسيم حدود اسرائيل الكبرى في سفر التكوين الله أدام سفره إلينا والى السماء والأرض والمؤمنين آمين!)، فان هذا التغيير لم يُحدث آثاراً بالغة في وعي أخطار هذه الدولة الارهابية العدوانية. فكثير من الكتاب “العباقرة” منهم و”العتاولة”. وذوي الكاريزما والحضور والتألق وحتى الأكثر مبيعاً” أو شهرة.. بقوا وللأسف في تلك الخانات الألفية، إما ليهوديتهم الصهيونية، وإما لاستغلالهم قوة اللوبيات الصهيونية وانتهازيتهم وإما لتخوفهم من نزول “لعنات التاريخ والجغرافيا عليهم اذا ما جاهروا بانتقادهم لاسرائيل! وحتى في اسرائيل فقد تراجع “اليسار” الذي عبر مراراً عن عدم رضاه عن ممارسات حكوماته الاسرائيلية، تراجع بقوة في صحبة حزب “العمل” أمام تقدم اليمين المتطرف ولم يسلم هذا اليسار الاسرائيلي نفسه من تهم “معاداة السامية” تأملوا! وكلنا يذكر الحملة التي شُنّت على رابين قبيل اغتياله، تلك الحملة التي شنها ودوزنها نتنياهو آنئذ!
وهل يمكن استغراب اتهام بعض الساسة الاسرائيليين العرب أنفسهم، وهم ساميون (وأولاد أعمام) بمعاداة السامية! غريب! هذا الاعلام الغوبلزي عند أحفاد النازية والفاشية من بني صهيون! فهذا الكيان، (أو دولة المسروقات الأبدية)، البربري، السدومي العدمي الرمادي بامتياز، لا يتورع عن ارتكاب أي شيء لتحقيق “التنبؤات التوراتية الجليلة” ولا جغرافيتها المزعومة، أو هياكلها الخيالية، أو آثارها المفبركة! وها هو اليوم يمعن وبرغم كل شيء، وبوقاحة صارخة، في استكمال تهويد الضفة والقدس والأجزاء العربية منها.
فكل ما في القدس “من أورشليمة”! وكل ما في الضفة من مياهه المقدسة. تماماً كما فعل في الجولان عندما هوّدها ومرّ التهويد مرور الكرام عند أهل العروبة والمكارم والمروءاات والشرف! ويجيء كل ذلك في ظل تقسيم ما تبقى من فلسطين فلسطينين: فلسطين الضفة لإهل “السلطة” وتقسيم القطاع لأهل “حماس”! وفي ظل محاولة تقسيم العراق وكانتنته وضرب وحدته التاريخية والوطنية، وفي ظل استقرار هش في لبنان، وتهديدات يومية من اسرائيل… وغيرها! (رائع!). اذاً، اسرائيل نتنياهو وليبرمان وأشكينازي، شغالة في سرقة الأراضي والمنازل وتهويدها بدون أن يردعها شيء، لا “زعل” أوباما منها، ولا “تململ” أوروبا.. ولا “انّات” بعض العرب الخافتة، ولا حتى التهديد بانتقاضة ثالثة. يعني أن الفلسطينيين مستفردون. وحدهم. تماماً كما كانوا في حرب اسرائيل الأخيرة على غزة! وحدهم، مقابل “جعجعات” من هنا، وزجليات من هناك، وانتهازية خبيثة من هنالك!
يبقى أوباما! زعلان! أوباما في مواجهة نتنياهو! وهناك من يقول أنها المواجهة الأكثر جدية بين الولايات المتحدة “ووحشها” اسرائيل، منذ أزمة الرئيس بوش الأب!
الاعلام العالمي يركز على هذه المواجهة. أوباما الديموقراطي (الديموقراطيون هم حلفاء اسرائيل التقليديون لا سيما الرئيس كلينتون الطيب الذكر) وهنا بالذات نكتشف دخول بعض المثقفين الغربيين على الخط. ليلعبوا دوراً “اعلامياً” يُعزز استراتيجية اسرائيل الاستيطانية ويبرّر جرائمها ويُقلل (أو يضخم) من حجم المشكلة بين أوباما ونتنياهو!
من هذه الأقلام “الشعشاعة” المتألقة برنار هنري ليفي (صنيعة الاعلام والشاشات والسياحة الفكرية) الذي يدرجونه مع فينكلروت وغلوكسمان.. في خانة “الفلاسفة الجدد” في فرنسا.. والذين ساهموا بضرب الفكر اليساري والاحتجاجي والنقدي وخدمة تغلغل “العولمة” وتسهيل امركة السياسة الفرنسية وسواها.
وبرنار هنري ليي، عزّ عليه كصهيوني محترف (قاد حملة اسقاط فاروق حسني من ضمن اللوبي اليهودي في معركة اليونسكو) ان يظهر “خلاف” جدي بين أوباما وشعب الله “المزوار” فرأيناه على القنوات الفرنسية يتشوق ويكذب وقرأناه في زاويته الأسبوعية في مجلة “لوبوان” يحاول بخبث المأجورين، و”بعفة” الصحافيين “القُهَّار” ان يطمس أسباب الأزمة ويقفز كالقرد فوق ممارسات اسرائيل الإجرامية ليبيض “صفحة اسرائيل” السوداء ويُحوّل القضية الى تاريخية، وشخصية، ممالئاً من جهة أوباما وغامزاً من قناته من جهة أخرى.
يقول برنار هنري ليي “أوباما صديق اسرائيل” ويضيف في مقالته الأخيرة في عدد “لوبوان” الأخير، أوباما الرئيس الديموقراطي الوحيد الذي تجرأ على الجهر بأنه استقى من الصهيونية فكرته عن العدالة الاجتماعية”. يعني، بحسب ليي أن الصهيونية فكرة اجتماعية عادلة وإن قائمة على ظلم الشعوب. ويشبه أفكار أوباما، الطالع من رحم الاضطهاد العرقي للسود بالصهيونية الطالعة من القتل والاستباحة وإن بشعارات الاشتراكية والديموقراطية! فيا لهذه الديموقراطية، ديموقراطية اللصوص في تقاسم المسروقات والأسلاب! وقال ليي بعقله الفلسفي الذي يفترض انه يعلو على الخرافات (فيلسوف وخرافي!) ان أوباما كان (ودائماً!) الأكثر حماسة في المجتمع الأسود الأميركي في تكرار قول إن العودة الى أرض الميعاد (التي هي الصهيونية) تجد أستجابتها في التجربة الأفريقية الأميركية(!) أي تاريخ أوباما الخاص في “الاقتلاع” و”الهجرة”.
رائع هذا الربط بين سرقة اليهود الوطن الفلسطيني وتهجير أهله، وارتكاب المجازر وبين الواقع الأفريقي الأسود في اميركا!
رائع! هذا التركيب الهجين الغريب بين شعوب سوداء “سيقت” كالعبيد من أفريقيا وبين “الشعب الاسرائيلي” الذي فعل بالفلسطينيين ما فعله الأميركيون البيض بالسود من تمييز عنصري واستعباد! فيا لهذه المفارقة العبقرية من عبقري الشاشات والميديا!
ويكمل هذا التافه مقالته في مديح أوباما الذي لم ينقص إلاّ أن يطوبه “يهودياً” من أم يهودية وأب يهودي.. وأصل يهودي! فيقول “أن أوباما لا مكين (المرشح السابق للرئاسة الأميركية) هو الذي صرح علانية برأيه في مسألة القدس في 4 حزيران 2008 وفي عزّ حملته الانتخابية ان القدس يجب ان تبقى العاصمة الموحدة غير المقسمة للدولة اليهودية”. ويعني ذلك ان هذا الفيلسوف المجرم (وكل من يتواطأ مع الإجرام مجرم) لا يعترف لا بحق الفلسطينيين في أرضهم في الضفة والقدس، ولا في منازلهم ولا في حيواتهم (سبق أن صرح هذا المعتوه للابتزاز الاعلامي بأنه مع قيام دولتين: فلسطينية ويهودية. لكن أين؟) نفى حتى وجود أرضٍ فلسطينية وشعب فلسطيني من تجريدات فلسفية أو بلاغيات خيالية. فكأنه يحرض وبعد هذه المرافعة الدفاعية عن نتنياهو واستراتيجيته التهويدية على اقتلاع هؤلاء الناس من مصائرهم وتواريخهم باعتبار انه وهو العلماني يؤمن بأن هذه الأرض الفلسطينية هي أرض (يا عين!) توراتية أي صهيونية. فلا رادع. ولا خجل. ويختم مقالته قائلاً واستناداً الى كل ذلك فأنا لا أؤمن بأن بهذه “الحكاية” أي 1600 منزل جديد، كافية لتغيير شعور أوباما تجاه اسرائيل”.. أفّ يا لهذه الوحشية! إذاً لا يكفي بناء 1600 منزل يهودي على أراضٍ هي من أملاك الفلسطينيين ان توجد أي أزمة بل ولا تستدعي الذكر. فماذا تساوي سرقة أراض وتهويدها اذا ما قيست بسرقة وطن هو فلسطين. لا شيء! بالنسبة الى هذا الذي يدعي التعاطف مع الشعوب المقهورة. (وقد ذهب الى سراييغو وتضامن مع أهلها!) لكنه في المقابل يتضامن كلياً مع المعتدي الصهيوني، بلا نقد ولا مراجعة. هكذا: فيلسوف جديد يقف الى جانب الجلادين، ويغطي وقوفه هذا برحلات “سياحية” (فلسفته الضحلة المضحكة اقرب الى السياحة اللفظية والانشائية!) وفي الوقت ذاته “يبشر” بالأمركة! والدليل اصداره كتاباً عن أميركا.. وصفته الصحافة الفرنسية بأنه “سخيف” وأقل من “سياحي”! ولهذا يتحدث عن أوباما وكأنه أي ليي واحد من الشعب الأميركي: اذاً صهيوني الانتماء، فرنسي الهوية، أميركي الانجذاب. براو!
فهذا الذي رأى أن هدم المنازل والاستيلاء على أراضي الغير، وبناء المستوطنات وطرد الناس من بيوتهم وقتل الأطفال وغزو البلدان المجاورة وتهويد المناطق المحتلة بالقوة واستخدام الأسلحة الممنوعة في غزة والضفة ولبنان.. وقصف السكان المدنيين، ليست أسباباً كافية ولا موجبة لقيام أزمة بين أوباما واسرائيل أو بين العرب واسرائيل فهذا يدل على أن هذا “المتفلسف بلا فلسفة” وحش، لا يختلف عن جنرالات الدولة العبرية، ولا عن سفاحيها. هذا الذي لا يرف له جفن أمام وحشية ما ترتكبه اسرائيل في فلسطين، ماذا يمكن تصنيفه بغير ما تصنف النازية والفاشية في عز جبروتهما! اما كان أجدر بهذا الفيلسوف النعنوع بأن يكون في عصر الرايخ.. أو موسوليني.. لكان بزَّ غوبلز في بربريته وكذبه. فللصهاينة أيضاً غوبلزهم أمثال فينكروفت (فيلسوف جديداً ايضاً يا عين وأكثر تطرفاً بصهيونيته من نعنوعنا برنار.. ليي)… نقول هذا ونستثني نسبياً أقلاماً يهودية عارضت وانتقدت اسرائيل وحكوماتها كجان دانييل في مجلة “لونويل اوبسراتور” وجاك اتالي في “اكسبرس” وعدد من كتاب “لوموند وديبلوماتيك”… و”ليبراسيون”.
انه الضمير الثقافي نعود اليه مجدداً، ما أن انخرط المثقف في لعبة “الالتزام” منذ مسألة “داريفوس” ومقالة إميل زولا الشهيرة “انا اتهم” التي كانت مفتتحاً لعصر انتماء المثقف الى قضايا الحرية والديموقراطية والمسائل الاجتماعية.. وهذا ما عرفناه على امتداد القرن العشرين. مع ريمون آرون وسارتر وكامو وسيمون دي بووار.. من دون ان ننزه بعض هؤلاء من خيانة جوهر انتماءاتهم والانحياز الى الجلادين سواء الى ستالين وهتلر.. وإما الى الصهيونية!
انه الضمير الثقافي المشوِش، المزدوج، الذي تجاوز الكتاب والفلاسفة الى أهل السينما والتلفزيون والمسرح. انه التناقض المميت. أولاًَ نرى عندنا في العالم العربي، مثقفين “ملتزمين” وانسانيين و”ديموقراطيين”.. ومع قضايا الحرية والشعوب ينحازون الى الاستبداد، والأنظمة المستبدة والحكام المجرمين والمخابرات والمحتلين والجزارين؟ إما لممالأة أهل السلطة.. استدراراً لمكسب مادي أو لمنصب أو لامتياز.. أو خوفاً وجبناً وتوخياً للسلامة!
وهل أعظم من رفع الصوت في زمن الخطر! إذاً تواطؤ الضمير الثقافي له حكايات تشبه حكايات الحيات والعقارب.. لكن يبقى هناك حفنة.. دائماً حفنة.. لا تزدهر إلاً في الخطر.. وتقرر برغم ذلك المواجهة واضعة قلوبها على أكفها!
وهل أجمل من القلوب على الأكف بدلاً من أن تختبئ في الأوكار!
وفي الغرب ايضاً حفنة تواجه البربرية الصهيونية، برغم الارهاب المادي والاعلامي والسياسي الذي يمارس عليهم سواء في أميركا أو في فرنسا أو اسبانيا أو ايطاليا.. فتحية لهذه الحفنة.
وألف لعنة على الذين خانوا جوهر وجودهم وأسباب كتاباتهم! أقصد برنار هنري ليي.. وأمثاله من هناك.. وصولاً الى عندنا!
وعندنا الكثير ولو ادعوا العكس!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى