إشكالية العلمانية والحرية
د.خالد الحروب
من أبرز صيغ الاجتماع السياسي التي أثبتت نجاحاً في الغرب صيغة التعددية الثقافية التي من خلالها يتم توفير مناخ تتعايش فيه الجاليات الإثنية والدينية، وتعبر عن ثقافات وأديان مختلفة داخل المجتمع الواحد. والتعددية الثقافية لا تكفل حرية التعبير تلك فقط بل تدعم أيضاً التعبيرات الثقافية المتنوعة وتعززها وتحتفي بها. وأكثر وأهم تمثلات هذه الصيغ تتجسد في الصيغة البريطانية، وهي صيغة تختلف عن النموذج الفرنسي المعروف بإصراره على دمج تلك الجاليات في الثقافة السائدة ومطالبتها بالإقرار بالتوافقات الأساسية العريضة لتلك الثفافة. ولذا فإن النموذج البريطاني بتعدديته الثقافية وتنوع درجاته هو الأكثر اشتهاراً وتطبيقاً في أوروبا والولايات المتحدة. وجذره الفكري الأساسي يعود إلى الأساس العلماني الذي قامت عليه المجتمعات الغربية، الذي ينظر للدين والثقافة والتقاليد باعتبارها من الخصوصيات الفردية التي يجب أن يتمتع الفرد بحرية ممارساتها في الحيز الخاص. ولا تقدم لنا التجربة العلمانية في تعاملها مع الدين نموذجاً واحداً مكتمل المعالم وناجز الممارسة وقابلاً للنسخ بغض النظر عن ظروف تشكله. فثمة نماذج متعددة ومقاربات تختلف في درجة تسامحها أو توترها من الدين خاصة عندما يقوى عوده في المجتمع ويتجاوز نطاق تأثيراته المجال الخاص ليبدأ بفرض هيمنته على الفضاء العام.
أما خصوم العلمانية من المتدينين فيرونها تهديداً للدين وقيداً على انتشاره من الخاص إلى العام. وعمليّاً وتاريخيّاً قدمت العلمانية الحل الأكثر نجاعة لمسألة موقع الأديان والاعتقادات في المجتمع ووفرت لها حرية وفضاء تعايش جماعي لم تتمتع به الأديان في أي وقت من الأوقات. أي أن دول العلمانية أتاحت حرية الأديان، ولم تقيدها، فالعلمانية كسرت احتكار دين معين، وشجعت تعددية الأديان، لكن ذلك كله في نطاق الفضاء الخاص. ومن ناحية تاريخية، وسواء في الشرق أو الغرب، كان الدين المسيطر، أي دين الدولة أو الإمبراطورية، يحظى بكامل الحرية فيما تتراجع كل الأديان والعقائد الأخرى ويُنظر إليها على أنها هرطقة وغير مُعترف بها. بل إن التجربة التاريخية تشير إلى أنه في معظم، إن لم يكن كل، حالات الدول والإمبرطوريات التي تبنت ديناً رسميّاً كانت هناك سيطرة لمذهب معين في ذلك الدين على حساب بقية المذاهب. وفي أقصى حالات التسامح مع بقية الأديان والمذاهب فإننا لم نرَ أية حالة يقترب فيها وضع الدين الرسمي مع بقية الأديان من ناحية حرية الممارسة وشرعيتها. بل إن فكرة التسامح نفسها في هذا السياق تنطلق من افتراض أولي بوجود ما هو أساسي وما هو هامشي، وأن الأساسي يتفضل بالتسامح على الهامشي، وهذا في حد ذاته يفرض تراتبية صارمة وأفضلية شبه عنصرية. وعلى خلاف فكرة التسامح هذه فإن العلمانية تقدم فكرة التعايش بين الأديان التي تفترض مواقع متساوية لها وتنزع أية تراتبيات أو أفضليات، ولا يكون هناك “دين رسمي” للدولة أو المجتمع حتى لو وجدت الرموز والطقوس التي تحوم حول النظام السياسي (وحتى لو كانت ملكة بريطانيا مثلا هي من ناحية رسمية ولفظية رئيسة الكنيسة الأنجليكانية).
لكن التناقض الذي تنطوي عليه العلمانية، والديمقراطية الليبرالية معها، يكمن في أن إعلاءها لقيمة الحرية، فرديّاً وجماعيّاً، يشكل كعب أخيلها ومقتلها الأكثر انكشافاً. ففضاء الحرية المُتسع الذي تتيحه (وليس المكتمل وإن كان الأفضل مقارنة بغيره) تنمو فيه كل الظواهر والاتجاهات بما فيها تلك التي تعادي جوهر العلمانية والليبرالية وتُطالب بشطبهما. ويشتغل في قلبها كما نرى الآن في أكثر من حالة غربية ديالكتيك الشيء ونقيضه، حيث يتسابق سُعار اليمين المسيحي مع سعار اليمين الإسلاموي في إعلان الحرب على الشكل العلماني الليبرالي الذي أتاح للطرفين حرية العمل والحشد. وربما يمكن القول إن مكمن فرادة المشروع العلماني الليبرالي من ناحية تاريخ الفكر العالمي هو أنه المشروع شبه الوحيد، إن لم يكن الوحيد، الذي يوفر لأعدائه حرية إعلان وممارسة الحرب ضده وضمن سياقات قانونية يقرها هو ذاته ويدافع عنها. والشيء المثير، والذي يدعو للرثاء دوماً، هو المفارقة التي تجمع خشونة وقسوة الأيديولوجيات الدينية مع قدرتها الهائلة على الحشد والتعبئة، مقابل الحيرة والتردد والهشاشة في الجانب العلماني الليبرالي. فالعلمانية وابنتها الديمقراطية الليبرالية، وفي تعاملهما مع الدين وتعبيراته وتطرفاته، لا تملكان الحمولة الأيديولوجية القادرة على إيقاف زحف الدين. وهناك بطبيعة الحال حالات علمانية مؤدلجة وذات طبيعة استئصالية تبنتها دول بوليسية، ولكن هذه الحالات تخرج عن سياق النقاش هنا الذي يركز على النموذج العلماني المُعبر عنه بالديمقراطية الليبرالية التي يتمتع فيها خصومها بالحرية الكاملة.
وعلى ذلك تتطور إشكالية بالغة التعقيد والصعوبة تتمثل في أن العلمانية بصيغتها الليبرالية تلك وبانتصارها الدائم للحرية تصبح وكأنها غير آبهة بأن يمتد حبل أعدائها ويطول إلى أن يلتف حول عنقها ويشنقها فعلا. وما نراه في أوروبا الغربية من سُعار ديني متزايد ناتج عن الخوف المتبادل بين متشددي الإسلام والمسيحية بدأ يأخذ طريقه ليحتل قلب الفضاء الذي كانت الممارسة العلمانية الليبرالية تحتله. وتعبيرات ذلك السعار تتمثل في النجاحات المتزايدة التي تحققها أحزاب اليمين المتطرف، من فرنسا إلى هولندا وصولا إلى بلغاريا وغيرها. وتتمثل أيضاً في النجاحات المتزايدة التي تحققها حركات الإسلام السياسي في السيطرة على الجاليات المسلمة وخطابها وتعبيراتها. فاليمين المسيحي المتطرف يرى في العلمانية الليبرالية ذلك النظام المُتساهل والاسترخائي الذي سمح للمسلمين في أوروبا بحرية العمل والتنظيم وتعامل بلامبالاة تجاه اتساع نطاق تأثير الجماعات المتطرفة. واليمين الإسلاموي المتطرف يرى في العلمانية الليبرالية (والغرب كله) عدواً أزليّاً لا طريقة للتعامل معه سوى إعلان كفره والحرب ضده. وكل الأطراف التي تحارب العلمانية الليبرالية لا تطرح بديلا عنها سوى التطرف الديني أو الأثنوي أو الارتداد إلى كل أنواع العصبيات التي لا تقدم أية صيغة حقيقية للتعايش بين المجموعات البشرية تقوم على المساواة. وأقصى ما يمكن أن يتم تقديمه هنا أو هناك هو “المَن” على أصحاب الأديان الأخرى بمساحة ما، وهي مساحة حدودها غامضة، تضيق وتتسع بحسب القوة المسيطرة، وإن كانت في العادة تواصل ضيقها ويقل اتساعها باستمرار.
الاتحاد