الطائفية والذكورة باعتبارهما شكلا من أشكال العنصرية في المشرق العربي
وائل السواح
لا تخلو معظم بلدان المشرق العربي من ظواهر عنصرية بالمعني الحرفي للكلمة، فالنظرة الدونية إلى الشعوب الأخرى وبعض الأفراد الملونين متوافرة بكثرة عند شرائح واسعة من القطاعات الشعبية والنخبوية في بلادنا. على أن هذه المقالة سوف تنظر إلى العنصرية من منظار أوسع. فالعنصرية، كما نراها، رؤية قائمة على التمييز بين الأفراد والجماعات لعلة ما. ومن هنا فإن هذه المقالة تدعي أن الطائفية والذكورة هما أحد أشكال هذا التمييز بين البشر: أفرادا وجماعات. وسواء أأطلق على هذا النوع من التمييز تعبير “العنصرية” أم لا، لأسباب تعريفية وقانونوية ولغوية، فإنني أعتقد جازما أنه أحد التعبيرات التي تظهر العنصرية نفسها بها، وأن نتائجهما في النهاية واحدة.
وسأبدأ بالحديث عن حالة محددة. “س” سيدة سورية تعيش في حالة زوجية تامة مع رجل سوري ولديهما طفل في العاشرة من عمره. هي إذن أسرة مكتملة، باستثناء أنها ليست كذلك، لأنها ليست مسجلة في الدوائر الحكومية السورية. والسبب أن السيدة مسلمة والرجل مسيحي. والاثنان لا يريدان أن يخضعا لابتزاز قانون الأحوال الشخصية بإجبار الرجل على تغيير دينه لكي يسمح له بالزواج. هذه الحالة ليست فريدة في سورية ولبنان والأردن والعراق ومصر. وهي تقوم في جوهرها على رفض للاختلاط بين مقومات الشعب الواحد: الطوائف في هذا المثال. والأدهى أن هذا الرفض، المقنون بقانون للأحوال الشخصية مرت عليه عقود وقرون، لا يستند بالضرورة على الدين الإسلامي. إذ أن قضية الزواج المختلط ليست محسومة عند جميع رجال الدين المسلمين. ونحن على الأقل نعرف شيخا جليلا واحدا دفع بأن زواج المسلمة بكتابي ليس حراما، أعني الدكتور عبد الله العلايلي الذي أمضى حياته يحاول أن يردم الهوة بين عناصر ومكونات المجتمع الحر المتكافئ والإسلام. وهو يقول في فصل له من كتاب “أين الخطأ” بعنوان: “أطوطميون أنتم أم فقهاء؟” إن مجتمعاتنا عادت الى “المرحلة الطوطمية” في النشوء الاجتماعي”. وشرح ذلك بقوله: “إن الباحثين في فرع علم الاجتماع الديني قطعوا بمبدأ أن لكل قبيلة “طوطماً” مؤلّهاً يستتبعه ما يسمى “التابو” أي حرمة المس. فأباحوا للمسلمة الزواج الداخلي الذي يضع له مصطلح “الانزواج: Endogamie” من حامل مثل طوطمها، وحرّموا عليها الزواج الخارجي الذي أضع له “الاستزواج Exogamie”. وهو يدفع لاستيضاح الأمر من خلال النص القرآني، وليس من خلال ما درج الفقهاء المتأخرون على قوله وتكراره. يقول: درج الفقهاء، بشكل إجماع، على القول بعدم حلية الزواج بين كتابي ومسلمة. والإجماع وإن يكن حجة عند من يقول به منهم. فهو في هذه المسألة بالذات، من نوع الإجماع المتأخر الذي لا ينهض حجة إلا إذا استند الى دليل قطعي. ولذا ـ يُتابع ـ لم يأخذ أبو حنيفة بإجماع التابعين بقولته الشهيرة: “هم رجال ونحن رجال”. (1)
ومرجعية الشيخ في إباحة زواج المسلمة من كتابيّ هي الآية 5 من سورة المائدة. ونصها: “اليوم أحل لكم الطيّبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم، وطعامكم حلّ لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم”. رأي الشيخ في تفسير الآية أن حلية الطعام بتبادل تستتبع حلية الزوجية بتبادل، بدليل واو العطف. فلا فصل بين المنطوق به (الطعام) والمسكوت عنه “الزواج”. فأما الاحتجاج بأن الاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر، فليس بوارد مع العاطف، وفق العلايلي حيث أن “قياس المسكوت عنه، من النكاح، على المنطوق به، من الأكل أولى. وهذه كلية قرّرها ابن رشد في بداية المجتهد، في غير هذا المطلب، ولكن يُمكن تطبيقها عليه”.
على أن معظم رجال الدين لا يأبهون لهذا التفكير، منطلقين من منطلق عنصري بالدرجة الأولى، فالمسلم أرفع وأنقى وأسمى من غير المسلم. وبالتالي فهم، وإن أجازوا زواج المسلم من غير المسلمة، فقد أصروا على تحريم العكس خشية من أن ينسب الأطفال إلى دين آخر. وفي حالة نادرة في المحاكم السورية، فرض على الأولاد دين الأم المسلمة وليس دين الأب المسيحي، بقرار من المحكمة السورية، بحجة أن الإسلام هو “أشرف الدينين.” إن لم تك هذه عنصرية فما العنصرية إذن؟
لقد عارض رجال الدين والسياسيون الشعبويون كل محاولة لتعديل قانون الأحوال الشخصية أو تشريع قانون للزواج المدني يكون اختيارا. وكانت آخر هذه المحاولات في لبنان، عندما طرح الرئيس اللبناني الأسبق المرحوم الياس الهرواي مشروع قانون الزواج المدني الاختياري. وفي حين دافع بعض المفكرين والمثقفين عن المشروع باعتباره مدخلا لا بد منه للتوازن النفسي والثقافي بين أفراده، ولاندماج وطني بين مواطنيه يحقق مبدأ المساواة في حقوق الإنسان والمواطن، وقف رجال الدين والسياسيين الببنانيين وقفة واحدة ضد هذا المشروع.
بيد أن الموضوع لا يقف عند حد الزواج المختلط بين الطوائف. إذ أن كافة القوانين الأساسية في الدول العربي (باستثناء لبنان) تحمل تناقضا له تأثير تدميري في بنية المجتمعات. فبينما تقر كل الدساتير بأن مواطني الدولة متساوون في الحقوق والواجبات، فإن فقرة رئيسية في القانون الأساسي لا بد وأن تؤكد على أن دين الدولة الإسلام. ففي مصر، ينص الدستور المصري (المادة 2) على أن “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية هي اللغة الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”. أما دستور الأردن لسنة 1952 فينص في المادة الثانية أيضاً بأن “الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية”. وتنص أولى مواد الدستور التونسي لسنة 1959 على أن “تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”. كذلك هو الحال مع القوانين الأساسية للعراق والجزائر والكويت وعمان وقطر واليمن، ناهيك بالطبع عن ليبيا والمملكة العربية السعودية. وربما اختلف الأمر قليلا مع الدستور السوري، الذي تنص مادته الثالثة فقط على أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام،” وأن “الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع.”
وبالنسبة لفلسطين، نجد التطور نحو الخلف بيّنا ما بين المرحلة الثورية التي أنتجت الميثاق الوطني لعام 1968، الذي خلا من تحديد دين الدولة، وكذا بالنسبة إلى إعلان الاستقلال لعام 1988 وبين مرحلة الركود الفكري وسيادة الفكر الحمساوي، حيث ينص القانون الأساسي الذي تبناه المجلس التشريعي في 2-10-1997 في قراءته الثالثة على أن “الإسلام هو الدين الرسمي في فلسطين.”
أما التناقض فيتأتّى من أن هذه الدساتير نفسها تفترض الشعب صاحب السيادة ومصدر التشريع. ففي المادة الثالثة، وهي تلي المادة التي تحدد دين الدولة في مصر، نقرأ أن ” السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها ويصون الوحدة الوطنية على الوجه المبين في الدستور.” أما في الدستور السوري، فتأتي مادة تسبق المادة الثالة، تنص على أن “السيادة للشعب ويمارسها على الوجه المبين في الدستور.” والسؤال، كيف يمكن اعتبار السيادة للشعب، إذا كان الشعب مقيدا بمصدر وحيد أو مصدر رئيسي للتشريع؟
إن النص على دين الدولة، سواء أكان الإسلام أم المسيحية أم اليهودية، هو شكل من أشكال العنصرية، لأنه يميز بين مواطن وآخر. وإذا كانت العنصرية تقوم على أساس اللون أو العرق، فإن التمييز على أساس الدين أو المذهب أو الطائفة لا يقل عن ذلك أهمية. ولا يقلل من فداحة هذا الأمر اللغة المتسامحة التي يستخدمها البعض للدلالة على تسامحهم، من ذلك تعبير “التعايش” بين مختلف الطوائف في بلد واحد. فالتعايش مصطلح يدل على الفعل الإرادي القائم على الجهد كالتبادل والتقاتل والتفاعل، ليس على تحقيق ما هو واقع كتعبير العيش أو الفعل أو القتل، إلخ. أما التعبير الذي يستفزني أكثر من غيره، فهو تعبير “اخواننا المسيحيون” الذي غالبا ما يستخدمه الإسلاميون في المشرق العربي. فهذا التعبير يفترض ضمنا تقسيم المجتمع إلى قسمين “نحن” و”اخواننا الآخرين.” وذلك لا بد وأن يفرض، مهما كانت اللغة ناعمة، تفاوتا في المكانة والحقوق والواجبات، ويؤدي حتما إلى التمييز.
كما لا يقلل من فداحة ذلك النصُّ على أن للديانات التوحيدية احترامها. إن معنى “الاحترام” ملتبس ههنا وهو حتى حتى في أفضل معانيه لا يكفي مضمونه في بلد ينوي مُعاملة مواطنيه بمساواة، دون تمييز بسبب الدين أو الجنس. أضف إلى ذلك أن “الاحترام” هنا يخص الديانات التوحيدية الأخرى، وحصرا المسيحية واليهودية، فما بال الديانات الأخرى التي يدين بها أكثر من نصف سكان المعمورة؟ وما بال الرجال والنساء الذين لا يتبنون دينا بعينه؟ وهل احترام الأديان الأخرى يعني حرية الانتقال من دين إلى آخر أو حرية الإلحاد مثلا؟ نحن نعرف أن رجال الدين الإسلامي إذ يسمحون بتحول المسيحي إلى الإسلام مثلا، لا يقبلون مجرد التفكير في تحول المسلم إلى المسيحية ناهيك عن تخليه عن الدين أساسا.
(1) عبد الله العلايلي، أين الخطأ، بيروت 1978، ص 114
وأيضا راجع مقالة وجيه كوثراني المهمة “الشيخ الفقيه المجتهد يتساءل أطوطميون أنتم أم فقهاء؟” في المستقبل، 12/4/2006
موقع ألف للكتابة الجديدة