شهادة أتان لمحمد الحاج صالح رواية تهدر مشاهد وتكمم أخرى
احمد عمر
هل في هذه الرواية ( دار الآداب ـ 2008) حكاية تستحق أن تروى أو أسرار جديرة بالإفشاء أو شهادة صدق لم يشهدها أحد؟ تقول كلمة الغلاف أن أبطالها طفل (وهو صبي كما يبدو) أخرس ـ أهبل «علامة الترقيم من الناشر» وأتان هي صديقته وصوفي قليل الكلام..) وأظن أن كلمة الغلاف هي لكاتب الرواية نفسه بسبب تشابه الأسلوب الذي يتسم بالتوشية اللفظية والجملة التامة والإفراط في الشرح، والشرح تعويض عن اختلاجات النمو السردي ووعورته. لكن ليس من حكاية مكتملة، وبالتالي ليس من حبكة، وليس من تشويق طبعا. الرواية لا تشترط النمو بحكاية «فصيحة» أو حبكة، فهي تغيب جزئيا عن رواية مثل رواية صمويل شمعون «عراقي في باريس» بالمعنى النقدي، من دون أن تقلل من جماليتها بسبب عفوية السرد وصدقه وحلاوة التعليقات وثراء المغامرات وعمق التحليل.
تبدو أولى مشاكل هذه الرواية من عنوانها، باختيار مؤلفها اسم أنثى الحمار القاموسي المعجمي لرواية ترتقي مرتقى السخرية الصعب وتتغيا العزف على أوتار الاقانيم الثلاثة: السياسة والدين والجنس. فاسم الأتان لا يثير «السخرية» المفترضة، ولم أجد سببا استراتيجيا يجعل من بطلة الرواية الأولى أتانا وليس حمارا! وإذا كانت ربة الخدر الغيداء «السيدة» الأتان في إحدى فصول الرواية تتعرض لاغتصاب من مفرزة الأمن السادية فالحمار يمكن أن يتعرض للاغتصاب نفسه ويكون أنكى وأكثر إيلاما وابلغ سخرية؟ كما أني لم أجد ضرورة لعنونة الرواية بالشهادة، والتي تفترض أن الراوية ستكون الأتان «هانم» وعلى لسانها الأعجم الفصيح، لكن الراوي، الغائب الحاضر، يقوم بالنيابة عنها ويزيد بالتالي من الضرائب الروائية المكلفة على عاتق السرد الذي تنوء عجلاته تحت «الحمل اللغوي الزائد».
و لا نوافق على ما جاء في كلمة الغلاف «لا تقول الرواية بل توحي» وهي حقا تحاول رسم بعض مشاهدها بالإيماء لكن بكثير من الثرثرة واللغو. فالرواية بزعمنا تشكو من عدم التوازن بين التلميح والتفضيح.
الرواية تتذكر مشاهد من أمس سوريا السياسي في الرقة السورية عشية أحداث الثمانينيات السورية الدامية في محاولة للهجاء الانتقامي. و«تتفاصح» كثيرا في لغتها فتغيب التلقائية دون أن تعوضه بجمال التصوير أو البلاغة السردية، اللغة قلما تتحول إلى كلام. وأعتقد أن الكاتب محمد الحاج صالح الذي كتب قصة «حين تركنا روح الحمامة في الحسين هناك» التي كان يمكن لها أن تكون بذرة رواية يخفق في تعشيق سرد روايته ـ التي يمكن أن تكون قصة ممدة إلى رواية ـ بألفاظ فصيحة وجزلة وهو ما يوصف بالإنشاء بالمعنى المرذول. في الصفحة الأولى يقول معلم المدرسة كبطل من المسرحيات الإغريقية «يا رب السموات ماذا فعلت»؟ وينادي في سياق آخر «أيا ثعلب» وكأن صاحبه امرؤ القيس وأنه مضطر إلى هذه الألفاظ لضرورات الوزن والتفعيلة! السرد في الرواية بطيء، جاف، ويختلق نفسه اختلاقا، وكأنه ينحتها من حجر صلد، ويفتقر إلى السلاسة ويعاني من التقطع، ويجهد في البحث عن مفردات بعينها. وكان الناقد والروائي السوري نبيل سليمان في قراءة لـ «إحداق الجنادب»، قد أشار إلى كثرة جمل بعينها عند الكاتب مثل: كما لو، وبروح الكذا.. التي يربط بها بين جمل السرد المتناكفة. أما الإيماء المزعوم (في كلمة الغلاف) فأعزوه إلى الفقر في رسم المشاهد فقد أعدت عدة مرات بعض المشاهد لفهمها وليس للاستمتاع بها.
لا ادري ما ضرورة أن يزين الكاتب سرده بصور مجانية مثل: (وتبرعم سؤال) أو (مدت الأتان ذيل نهيقها..) إلا أن الصور «البديعية» تغدو متعبة أكثر: (خطم الأتان يعلك الهواء بسرعة)!!.. الراوية متهمة بتهمتين: الأولى أنها تهدر مشاهد طريفة والثانية أنها تكمم مشاهد أخرى تكميما. شخصيا لست ضد الثأر بالكتابة من مرحلة أو طغمة والذي كثيرا ما يعيب به النقاد على الكتاب ويرونه مثلبة أو عارا، الثأر غريزة بشرية أصيلة؟ لكن الثأر الجيد هو «الذي يقدم على طبق بارد» كما يقول المثل الانكليزي. أي الذي تصاحبه معرفة أو جمال. الثأر الجيد هو العادل.
إن دعوة الحمار (ملك الحكايات القديمة والجديدة) أغبى الحيوانات واحكمها أو أكسلها ـ أو أذكاها أن شئتم ـ بحسب رغبة الكاتب، وصبي معاق لبطولة رواية تفترض النجاح الفوري لكن الكاتب خان بطليه أو قصر بواجب الضيافة الروائية. يمكن اختصار بعض مشاهد الرواية (المعروفة شعبيا وسرديا والتي يعيد الكاتب ترتيبها دراميا بواسطة الأتان) بلا إحساس بالذنب أو تبكيت ضمير في أهم ثلاثة مشاهد: مشهد مشاركة الأتان في المسيرة والتي تتبول فيه على اللافتة الوطنية (حيث عنصر الإقناع غائب)، معيدا سرد البيت العربي الشهير نثرا:
أرب يبول الثعلبان برأسه.. لمن ادخرت الصارم المصقولا؟؟
ومشهد اغتصاب الأتان من «فحول» مفرزة الأمن ومشهد قتلهم «البطولي» و«الفدائي» و«الباسل» للأتان «عميلة الامبريالية» في اللوحة الأخيرة الخاتمة..
ذكرتني الرواية بروايات جميلة مثل رواية أنا وحماري للشاعر الاسباني خمينيث ورواية التبر لإبراهيم الكوني التي ترسم أجمل علاقة بين جمل وإنسان، ورواية «الحمار الميت» الثأرية الثائرة لجحا القرن العشرين عزيز نسين التي لا «تشهد» على تركيا فحسب وإنما على كل مفارقات العالم الثالث ومآسيه، ويمكن أن تقرأ في أي مكان من العالم، والتي تستفتح بالجملة التالية (الرسائل التي كتبها الحمار الميت، الذي لا يخاف الذئب، من الدار الآخرة إلى صديقته ذبابة الحمار في الحياة) هل «اشرح» وأقول أن الحمار في الرواية هي مواطن من العالم الثالث؟ كان نيسين ينهي كل رسالة بالجملة الطريفة التالية: اقبل إبرتك السامة. المخلص: الحمار الميت. التوظيف السياسي القاسي «للاتان» قتله بيد المؤلف قبل دورية الامن.