اسرلة حياة العرب!
ميشيل كيلو
لم يعد ينقصنا شيء إلا أن تأخذ الدول العربية في تعاملها بعضها مع بعض ومع مواطنيها بطرق إسرائيل في التعامل مع الفلسطينيين والعرب.
لنعترف، بادئ ذي بدء، أن تأثير إسرائيل على الحياة العربية لم يعد يقتصر على إجراء اتصالات من تحت الطاولة تقدم خلالها ‘توصيات’ تتصل غالبا بأحوال عربية ودولية من طبيعة غير منظورة بالنسبة إلى المواطن العربي، يُراد لها أن تبقى سرية وخافية عليه. ولنعترف أن تأثير إسرائيل لم يعد يقتصر على وضع دول عربية مجاورة له تحت ضغوط مستمرة وتهديدات متلاحقة، تفرض سقوفا منخفضة جدا على تطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعلى قدراتها العسكرية وعلاقاتها مع غيرها من دول عربية وأجنبية. وإذا ما ألقينا اليوم نظرة على ما حولنا، وجدنا كيف يخضع المجال العربي أكثر فأكثر لممارسات إسرائيلية الطابع والوظيفة، تنتشر في كل مكان منه، حتى ليمكن الحديث عن ‘أسرلة’ الوطن العربي، وخاصة علاقات السلطة بمواطنيها، الذين تحول معظمهم إلى ‘فهود سود’، وعلاقاتها مع جوارها، التي تجعلها في حالة تحفز ضدهم وشك فيهم، تدفعها إلى أضعاف جيرانها الأقربين وتنغيص عيش ‘إخوانها’ الأبعدين!
بدل أن يعتبر المواطن عمق الدولة والنظام، غلبت على نظرة السلطة العربية إليه نزعة تجعل منه عدوا لهما، لا بأس في استخدام أدوات قانونية وغير قانونية، دستورية وغير دستورية، كحالة الطوارئ والأحكام الاستثنائية، التي تضمن خضوعه دون قيد أو شرط لما تريد، وإقصائه بصورة كاملة عن المجال العام، وتضييق مجاله الشخصي والخاص إلى الحد الذي يجعله سجين حياته اليومية، المليئة بما لا يليق بالإنسان، كالتخلي عن كرامته وهو يبحث عن رزقه، والاقتناع بأنه كائن قاصر عقليا وسلوكيا عليه شكر حكومة بلاده لأنها تقوم نيابة عنه بما كان سيفعله لو كان راشدا.
هذا النمط من التعامل تكمن وراءه نظرة ترى في العربي كائنا غير ناضج للمواطنة وليس أهلا لها، عليها أن تحدد له قواعد العيش بوصفه خارجا محتملا أو فعليا على القانون، وأن تؤهله لحياة تكفل رضوخه ‘المنضبط’ للسلطة. بهذه النظرة، أخضعت إسرائيل عربها لتدابير رقابية لحظية وصارمة، استمرت لأربع وعشرين ساعة طيلة عقود، كان العربي يحتاج خلالها إلى موافقات أمنية معقدة إذا أراد الانتقال من مكان إلى آخر، أو البحث عن عمل، أو الدراسة، أو الزواج، أو السفر داخل وخارج فلسطين، أو إنجاب أطفال أو دفن ميت، بينما كانت أجهزة الأمن تقيم مقرات ومراكز لها في كل قرية وبلدة ومدينة، وتنفذ مداهمات وملاحقات مضنية ضد كل من تشتبه في سلامة موقفه من ‘الدولة’، حتى ليصح القول إن كل بيت فلسطيني تحول إلى سجن، وإن فلسطين كلها انقلبت إلى معتقل تم تقييد الحركة فيه، سجن داخله عقل وقلب الفلسطيني، كي لا يفكر بحرية أو يحب وطنه، أو يفعل أي شيء يعبر عنه، لأن أي شيء يفعله في حاضنة الحرية والوطن سيكون حتما ضد الاحتلال والدولة الصهيونية.
هل كنت أصف إسرائيل أم بعض بلداننا العربية، التي تأسرلت وأخذت تعامل مواطنيها معاملة الأعداء، وتفرض عليهم قيودا تطاول كل جانب من جوانب حياتهم، بما في ذلك عند نقلهم إلى مثواهم الأخير، أو زواجهم أو عملهم أو دراستهم أو سفرهم أو تغيير مكان إقامتهم، أو قيامهم بفتح محل حلاقة أو بيع أجبان وألبان، أو حتى التفرج على التلفاز؟ إن الأصل في معاملة المواطن العربي هو النظرة الإسرائيلية إلى الفلسطيني باعتباره عدوا محتملا أو حقيقيا، يجب بقاؤه تحت العين كي لا يقوض الأمن والسلامة العامة. إذا كانت إسرائيل على حق في اعتبار الفلسطيني عدوا لها، فبأي مبرر ترى السلطة العربية في مواطنها عدوا : هل هي، مثلا، قوة احتلال كإسرائيل، من واجبها قمعه بكل ما ملكت يداها؟ أم أن علاقاتها معه يجب أن تكون محكومة بالعنف والتعسف، لاستحالة أية علاقة سلمية وإنسانية بينها وبينه؟ أم أن النخب العربية، التي تتبنى وتمارس هذه السياسات، تعتبر نفسها غريبة عنه، فلا مفر من أن تخضعه بالطرق والأساليب التي تخضع قوة أجنبية بواسطتها أعداء أجانب تحتل أوطانهم؟
خلال الأعوام الأخيرة، درجت دول عربية عديدة على أسرلة علاقاتها مع جيرانها العرب. من المعلوم أن إسرائيل طورت نظريات أمنية تعطيها حق إقامة مناطق أمنية وعازلة على حدودها مع البلدان العربية المجاورة، تقع داخل أراضي هذه البلدان. كما درجت منذ تأسيسها على تحديد حجم ونوعية القوات والأسلحة التي تسمح للعرب بنشرها في المناطق القريبة من حدود فلسطين المحتلة، وكذلك نوعية المشاريع الإنمائية فيها. هكذا، أقامت منطقة عازلة داخل لبنان بين عامي 1978 و2000. وهي تقيم اليوم مناطق أمنية عازلة في الضفة والقطاع، تسيطر عليها بالنار، وتنشر قوات متحركة داخلها، فضلا عن مناطق عازلة ‘قانونية’ على حدودها الأخرى، أقامتها اتفاقيات فصل القوات التي تلت حرب عام 1973. المصيبة أن هذا النهج صار مألوفا ومتبعا في العلاقات بين الدول العربية، حيث تسود المناطق الأمنية والعازلة حدودها، التي هي بؤر توتر وصراع وانغلاق على الذات وإقصاء للآخر، بدل أن تكون جسور تواصل وانفتاح وتجارة وعمل وحرية. كم بلد عربي يقيم اليوم مناطق عازلة بينه وبين جيرانه من العرب؟ أليس أمرا مريعا أن تنتقل الدول العربية من الحدود المفتوحة نسبيا إلى الحدود المغلقة كليا، المحروسة بالدبابات والمدافع، التي يحظر على المواطن العربي دخولها والعيش فيها، على الجانب الآخر من حدود الدولة التي تفرضها من طرف واحد، وتعطي قواتها حق قتل كل من يدخل إليها أو يعيش ويعمل فيها، أو يقترب منها؟ كان أهل وادي النيل يعتبرون أنفسهم حتى أمد قريب مواطنين في بلد واحد، فجعلتهم أزمة منطقة صغيرة ومتنازع عليها يسمونها ‘حلايب’ غرباء وأعداء، فأقامت حكومتا مصر والسودان بينهم خنادق وأسوارا، مادية ومعنوية، لا يحق لهم الاقتراب منها، لأن تنازعهما عليها يمكن أن يلغي في أي وقت حق مواطنيهما في الاقتراب منها أو العيش والعمل داخلها. هناك أيضا منطقة عازلة بين الجزائر والمغرب، وبين المغرب وموريتانيا، وبين العراق وسورية، وأخيرا السعودية واليمن، يبلغ عرضها عشرة كيلومترات داخل الأراضي اليمنية، هي منطقة قتل يجب أن تخلو من السكان، فإن كان فيها بعضهم، وجب تهجيرهم، وإلا اعتبروا أعداء وقتلوا.
كنا نترنم إلى الأمس القريب بنشيد يقول: ‘بلاد العرب اوطاني من الشام لبغدان’، فصار ممنوعا علينا الحلم بزيارة بعض بلاد العرب، والاقتراب من حدود بعضها الآخر، والتعاطف مع أي بلد عربي غير بلدنا، الذي كان البارحة ملعونا ومدانا بوصفه ‘دولة قطرية’، وغدا اليوم جنة الله على الأرض الوطنية والقومية، مفروض علينا محبته إلى الحد الذي يجعلنا نحتفل بمصائب وكوارث غيره من بلدان العرب، ونشعر بالسعادة والانتشاء لأنه غارق إما في حروب داخلية، أو أزمات مهلكة، أو توترات مستعصية مع ‘إخوانه’، أو في كوارث سياسية أشد هولا من الكوارث الطبيعية… لم تعد بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن… وصرنا إلى حال يقال فيه: اللهم وفق قطري ولا توفق غيره. وخذ، يا أرحم الراحمين، بيده إلى ما فيه خيره، وخذ غيره من العرب أخذ عزيز مقتدر!
تدمر الأسرلة الدولة في البلدان العربية، لأنها تقلبها إلى دولة غير وطنية. وتدمر الأمة في المجال المسمى عربيا، لأنها تضيف إلى تفتتها روح عداء مستحكمة بين أبنائها تزداد تفاقما مع الأيام، علما بأنها خارج السيطرة في حالتها الراهنة. وليس من المبالغة القول: إن دولنا ذاهبة إلى انهيار أكيد، وأمتنا إلى هلاك حتمي، إذا ما استمرت حكوماتنا في تقليد إسرائيل والتعلم منها وتطبيق سياساتها تجاه الفلسطينيين على مواطنيها.
ذات يوم، زار مناضل فلسطيني من عرب 1948 إحدى الدول العربية. بعد أيام، سأله صديق مقرب من مواطنيها: كيف وجدت أحوالنا؟ رد المناضل بحسرة وحزن: إسرائيلية!
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي