صفحات سورية

وذبلت أوراق ربيع دمشق وتفككت أغصانه

null
محمد فاروق الإمام
يوم أمس ليلاً طرق باب بيتي صديقي وجاري (أبو راكان) يستأذنني إذا كان بالإمكان استقباله عن غير موعد، فرحبت به وجلسنا معاً نتجاذب أطراف الحديث ومجدداً ذهب بنا الحديث حول ملف الاعتقالات غير المبررة في سورية والتي تطال أصحاب الرأي والمثقفين والمدونين، وفوجئت به يقول لي: سمعنا بأن الرئيس بشار الأسد في خطابه يوم تنصيبه رئيساً للجمهورية نوه فيه عن الديمقراطية والفكر الديمقراطي وعن نيته في تغيير سياسة والده وفتح صفحة جديدة تجاه المعارضة الوطنية السورية، وبالفعل كنا نسمع عن نشاطات بعض الشخصيات السورية في حقل المجتمع المدني وحقوق الإنسان والحراك السياسي، حتى قيل أن سورية انطلق فيها ما سمي بربيع دمشق، وقد سمح بشار الأسد بفتح المنتديات الوطنية للحوار الوطني وكان يشارك فيها عدد من أعضاء حزب البعث الحاكم، وكانت تجري الحوارات بروح تتقبل الرأي الآخر وتستمع إليه، وفجأة لم نعد نسمع لهذا الربيع أي نشاط أو صدى، فهل لا يزال هذا الربيع مزهر في دمشق أم ذبلت وروده وأزهاره وتفككت أغصانه وقلعت أشجاره؟!
أخذت نفساً طويلاً مصحوباً بعدد من الآهات، بعد أن أطرقت ملياً في الأرض، ثم رفعت رأسي وقلت لجاري: نعم لقد حل ربيعاً في دمشق بعد شتاء سرمدي طويل في 17/7/2000 التي أعقبت وصول الرئيس بشار الأسد إلى السلطة، والخطاب الذي ألقاه بعد التنصيب، وانتهى الربيع في 17/2/2001 تقريباً حينما قامت أجهزة الأمن بتجميد نشاط المنتديات الفكرية والثقافية والسياسية. وعلى قصر الفترة (6 أشهر تقريباً) إلا أنها شهدت مناقشات سياسية واجتماعية ساخنة من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كان لها صدى ما زال يتردد في النقاشات السياسية والثقافية والفكرية السورية حتى اليوم.
كان ربيع دمشق فرصة رأى فيها الكثيرون طريقاً نحو التغيير الديمقراطي المتدرج في سورية بالتوافق ما بين السلطة والمجتمع، مما قد يجنب البلاد الكثير من العثرات. خصوصاً بوجود معارضة سورية، وطنية، تؤمن بالتغيير السلمي والتدريجي، وظهور موقف من قبل الإخوان المسلمين يتلاقى مع مواقف المعارضة الأخرى.
وترافق ربيع دمشق مع خطاب القسم الذي ألقاء الرئيس السوري الجديد أمام مجلس الشعب في 17/7/2000، وقال فيه: (إن الفكر الديمقراطي يستند إلى أساس قبول الرأي، وهو طريق ذو اتجاهين)، مشيراً إلى أنه (لا يجوز تطبيق ديمقراطية الآخرين على أنفسنا)، بل يجب (أن تكون لنا تجربتنا الديمقراطية الخاصة بنا المنبثقة من تاريخنا وثقافتنا وشخصيتنا الحضارية).
وفي حفل تأبين الرئيس الراحل حافظ الأسد عبر البطريرك (إغناطيوس الرابع هزيم) عن أمله في الرئيس الجديد بقوله: (في ظننا إنك تريد أن يعرف المواطنون أنك تريد أن تكون الإنسان مع الناس، لا المتعالي والمترفع، أو كما يريد البعض، المتأله)، وبدا في تلك العبارات نوع من النقد المبطن أو التحذير. بعد أيام وفي مقالة نشرت في جريدة (النهار) اللبنانية تحدث المعارض الشيوعي رياض الترك أن (من غير الممكن أن تظل سورية مملكة الصمت)، وطالب بالعدل قائلاً: (أول العدل رد المظالم إلى أهلها).
بعد نحو شهر من ذلك نشرت رسالة مفتوحة من المثقف السوري الراحل أنطون مقدسي إلى الرئيس السوري بشار الأسد عبر جريدة (الحياة) اللندنية، طالبه فيها بنقل البلاد من حالة الرعية إلى حالة المواطنة، وفي منتصف أيلول أطلق النائب السوري رياض سيف في منزله بدمشق منتدى أسماه (منتدى الحوار الديمقراطي).
في نهاية أيلول من العام نفسه وبعد مرور شهرين تقريباً على خطاب القسم صدر بيان سمي (بيان الـ99)، وقع عليه 99 مثقفاً سورياً طالبوا برفع حالة الطوارئ وإطلاق الحريات العامة والإفراج عن المعتقلين السياسيين. وأصدر مثقفون لبنانيون بيانا تضامن مع موقعي (بيان الـ99). وفي مطلع عام 2001 صدر بيان آخر من مجموعة من المحامين السوريين طالب بمراجعة دستورية شاملة وبإلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية وإطلاق الحريات العامة.
تزايدت ظاهرة المنتديات السياسية والفكرية في مختلف المدن السورية، بمشاركة من مختلف الأطياف بما فيها شخصيات من حزب البعث، وعلى الرغم من رفض السلطات إعطاء (منتدى جمال الأتاسي) الذي يديره تيار عربي ناصري معارض ترخيصاً بنشاطاته إلا أنه تابع اجتماعاته وأعلن أنه منتدى مستقل عن الأحزاب، وقام بتعيين المحامي حبيب عيسى ناطقاً باسمه. في اليوم التالي أصدر الرئيس السوري عفواً عن مئات المعتقلين من جميع التيارات الإسلامية واليسارية.
وبعكس التيار الذي تبناه الرئيس بشار الأسد صرح وزير الإعلام عدنان عمران مع نهاية شهر كانون الثاني من عام 2001 بأن (دعاة المجتمع المدني استعمار جديد). ووقع في اليوم التالي اعتداء على نبيل سليمان في مدينة اللاذقية وعبر عدد من المثقفين السوريين عن تضامنهم معه، وطالبوا السلطات بالكشف عن الفاعلين.
في 18 شباط ، وبعد مرور نحو ستة أشهر على خطاب القسم، شن نائب الرئيس السوري آنذاك عبد الحليم خدام، والذي انشق فيما بعد عن الحزب الحاكم وبشار الأسد وغادر إلى المنفى لاحقاً، هجوما على المثقفين قائلاً: (لن نسمح بتحويل سورية إلى جزائر أو يوغوسلافيا أخرى). وشجعت تصريحات الخدام بقية قيادات حزب البعث الحاكم, وأعضاء ما عرف بالجبهة الوطنية التقدمية المصطنعة حملة مضادة للمنتديات.
من جهتها أعلنت السلطات تعليق أنشطة المنتديات ووضعت شروطاً لعقدها تتمثل في أخذ الإذن قبل 15 يوماً من الموعد مرفقة بقائمة تضم أسماء الحضور ونسخة من المحاضرة التي ستلقى، وهو ما يمثل مطالب تعجيزية بدى للبعض أنها تهدف لوقف النشاطات بدل تنظيمها. فمن بين 70 منتدى كان موجوداً قبل فرض تلك القيود، سمح لاثنين فقط بالاستمرار هما (منتدى سهير الريس) النائبة البعثية في اللاذقية، ومنتدى (جمال الأتاسي) في دمشق.
مع نهاية شباط عام 2001 خرج الرئيس بشار الأسد عن صمته ووجه انتقاداً للبيانات السياسية الصادرة عن بعض الشخصيات المثقفة المستقلة، وقال بأنه لم يقرأها بل سمع عنها وأضاف: (شخص يخاطبك من خارج بلدك فمن الطبيعي أن لا تهتم به. النقطة الثانية، سُميت بيانات مثقفين، هل هم مثقفون فعلاً أم ماذا؟).
الإخوان المسلمون من جهتهم أصدروا وثيقة تبنت معظم أطروحات بيانات المثقفين ودعت إلى العمل السلمي تحت سقف التعددية السياسية، وسميت وثيقتهم (ميثاق الشرف الوطني) وطرحت للنقاش على المعارضة وعلى السلطة.
في منتصف شهر آذار وأثناء حضوره مناورات للقوات المسلحة أعاد الرئيس بشار الأسد عقارب الساعة إلى أيام عهد أبيه، فقد صرح قائلاً: (في سورية أسس لا يمكن المساس بها، قوامها مصالح الشعب وأهدافه الوطنية والقومية والوحدة الوطنية، ونهج القائد الخالد الأسد والقوات المسلحة).
في منتصف شهر نيسان 2001 صدرت الوثيقة الثانية للجان إحياء المجتمع المدني تحت عنوان (توافقات وطنية عامة)، ومن بعدها ظهر بيان لـ185 مثقفاً ومُبعداً يتضامنون مع البيانات الصادرة داخل الوطن، ومطالبين بإطلاق الحريات العامة، والسماح بعودة المبعدين. بعد أيام كشف مصطفى طلاس وزير الدفاع السابق اللثام عن حقيقة أهداف الحركة التصحيحية التي شارك فيها والتي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد في 16تشرين الثاني عام 1970 أن هدفها الأول والأخير هو السلطة والإمساك بها، فقد رد على الحراك المدني ونداءات رجالات ربيع دمشق بقوله: (إننا أصحاب حق ولن نقبل بأن ينتزع أحد منا السلطة لأنها تنبع من فوهة بندقية ونحن أصحابها. لقد قمنا بحركات عسكرية متعددة، ودفعنا دماءنا من أجل السلطة).
في 23 من شهر أيار 2001 فتح النائب رياض سيف ملف الهاتف الخليوي وقال في مجلس الشعب بأن صفقة الخليوي ضيعت على خزينة الدولة قرابة 346 مليار ليرة سورية، وهو ما يعادل 7 مليارات دولار تقريباً، وقدم دراسة مفصلة تحت عنوان (صفقة عقود الخليوي).
ورافق ذلك إعلان عدد من الناشطين السوريين تأسيس جمعية لحقوق الإنسان وانتخبوا المحامي هيثم المالح رئيساً لها.
في آب عام 2001 ألقت أجهزة الأمن القبض على النائب مأمون الحمصي بعد إعلانه إضراباً عن الطعام في مكتبه مطالباً برفع حالة الطوارئ وإطلاق الحريات العامة، ويأتي الاعتقال بعد أن رفعت عنه الحصانة الدبلوماسية بإذن من رئيس مجلس الشعب عبد القادر قدورة، ثم حكمت عليه محكمة الجنايات بالسجن لمدة خمس سنوات. في مطلع أيلول تم اعتقال كل من رياض الترك (وحكم عليه بالسجن سنتين ونصف/أمن الدولة) والنائب رياض سيف (حكم عليه خمس سنوات/محكمة الجنايات) ثم الخبير الاقتصادي عارف دليلة وهو محاضر في جامعة دمشق فصل عام 1998 نظرا لانتقاداته المستمرة للحكومة (حكم عشر سنوات /أمن الدولة) على خلفية نشاطاته في لجان إحياء المجتمع المدني ومحامي رياض الترك السيد حبيب عيسى (حكم خمس سنوات/ أمن الدولة) وفواز تللو وآخرون.
وتبين للجميع فيما بعد أن الرئيس بشار الأسد كان ينوي بالفعل التغيير التدريجي، ولكنه لم يكن قادرا على المضي في هذا الأمر، فقد اصطدم بأعمدة النظام الذي أقامه والده سواء منها الحزبية أو العسكرية أو حيتان الفساد التي تسيطر على 80% من اقتصاد البلاد وتمتلك 90% من ثروة البلاد.
وطويت صفحة ربيع دمشق بالشمع الأحمر وأصبح هذا الربيع من الماضي، ولم يعد له أي ذكر في أروقة وصالونات المجتمعات السورية، لأن ذكراه باتت سبة تجر صاحبها إلى المساءلة والمحاكمة وصدور الأحكام الجائرة التي قد تتعدى العشر سنوات.
هذه هي قصة ربيع دمشق يا أبا راكان فما رأيك هل تريد المزيد وفي جعبتي الكثير والكثير؟!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى