صفحات ثقافية

متحف العولمة الواحد

null
صبحي حديدي
في موقعه الشخصي على شبكة الإنترنت، يخبرنا الدكتور زاهي حواس، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار المصرية، بكلّ جديد في ميدان الكشوفات الأثرية التي لا تكفّ مصر عن إهدائها إلى التراث الكوني الإنساني، بعد أن تدوّنها في السجلات العريقة التي يحفل بها تاريخ بلد فريد ظلّ، على الدوام، مصنع الأبدية ومتحف الأبد.
قبل أيام اكتُشف قبر فرعوني في تلّ المسخوطة، محافظة الإسماعيلية، يعود إلى حقبة 1315ـ1201 ق. م. نُقشت على جدرانه، بالحفر الغائر، رسومات دينية وجنائزية، بينها مشهد محاكمة الموتى الشهير، وهو الفصل 125 من ‘كتاب الموتى’ الفرعوني. كذلك صوّرت النقوشُ النائحات، والبقرة ـ الإلهة حاتحور، وأبناء حورس الأربعة، وصفات صاحب القبر الذي اتضح أنه القيّم على السجلات الملكية. وقبل يوم من هذا الاكتشاف، أسفرت الحفريات في بلدة الباويطي، منطقة الواحات البحرية، عن جبانة رومانية ـ إغريقية تضمّ 14 قبراً، تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وتبرهن على وجود مومياءات وفيرة تنتمي إلى ذلك العصر.
هذه كشوفات تاريخية ـ آثارية بالطبع، ولكنّ تثمينها وطنياً (في مصر أوّلاً بالطبع، ثمّ في أيّ مهد لأية حضارة متوسطية ثانياً) أمر حيوي واجب يتجاوز الأركيولوجيا إلى الثقافة، ثمّ إلى السياسة كذلك، لكي لا نضيف: السياسة بامتياز! وثمة مثال فريد بالغ المغزى، جرى في فرنسا سنة 1997، حين حرص الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك على أن يقوم شخصياً بتدشين الجناح المصري في متحف اللوفر، بعد إعادة تصميمه وتوسيعه وكشف النقاب عن وجود قطع نفيسة جديدة أضيفت إلى المخزون النفيس القديم.
لكنّ التجديد لم يكن دون مناسبة، بل الأحرى القول إنه تمّ في توقيت قد يصحّ اعتباره أمّ المناسبات في العلاقات التاريخية بين البلدين: الاحتفالات الفرنسية ـ المصرية (المشتركة، كما قيل آنذاك!) بالذكرى المئوية الثانية لوصول أساطيل نابليون بونابرت إلى الشواطىء المصرية. وإذا كانت الأوساط الثقافية الرسمية في البلدين قد اختارت لتلك الاحتفالات تسمية مهذّبة مبتكرة هي ‘آفاق مشتركة’، فإن تبييض الكتاب المصري من مجلدات الاستعمار الفرنسي انطوى بالضرورة على درجة ما من الشجار، بمفعول رجعي في الواقع، حول أمرين: ملكية الأوابد: هل هي ملك البلد الأصلي وحقّ متاحفه الوطنية، أم ملك الإنسانية جمعاء وحقّ مشروع لمتاحف العالم؛ ثمّ أسرار الأوابد: مَن يحتكرها، ولماذا؟
والحال أنه ما من شجارات معاصرة في ميدان الأركيولوجيا أشدّ ضراوة من تلك التي تدور حول حضارات وادي النيل، وبلاد الرافدين، والساحل السوري، وفلسطين الكنعانية. وليس في وسع المرء أن يعثر بسهولة على أيّ نوع من الإجماع المتقدّم حول هذه المئوية أو تلك من عمر الإنسانية في تلك الأحقاب، فكيف بأعمار حضارات بأسرها. ولا يمرّ شهر دون أن يصدر كتاب جديد يأخذ هيئة المفاجأة المدوية، لأنه ببساطة يُضعف، وأحياناً ينسف، ثوابت تاريخية راسخة كالجبال الرواسي، لسبب جوهريّ أوّل هو أنه لا بدّ أن يتقاطع مع أكاذيب (قبل حقائق) أرشيف ‘تاريخي’ ذي طابع مقدّس، هو التوراة.
وثمة، في المقابل، خيار آخر أشدّ إثارة للعجب من نشوب الشجارات بمفعول رجعي، هو تعليق كلّ وأيّ شجار، أو تجميده، أو تأجيل النظر فيه إلى أجل غير مسمّى. المثال الأبرز هو ما جرى، أو بالأحرى ما لم يجرِ حتى اليوم، بصدد مدينة إيبلا التاريخية السورية، الواقعة في تل مرديخ جنوب مدينة حلب. ففي عام 1974 تمّ العثور على أول النماذج من 1400 مخطوط على هيئة رُقَم فخارية، مكتوبة بلغة مسمارية قريبة من السومرية القديمة، تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وتبرهن على وجود حضارة سورية قديمة كانت تنافس مصر وسومر وبابل. الألواح ظلّت دون ترجمة شاملة (أي دون قراءة، عملياً)، بذريعة أنّ أبجدية اللغة الإيبلائية معقدة وغير معروفة لدى الباحثين، أمّا حقيقة الأمر فهي أنّ قراءتها قد تنسف الكثير من التاريخ العبراني كما ترويه التوراة، خصوصاً في سورية، ومن الخير أن تبقى طيّ المجهول.
وفي هذه السياقات يعتبر المجلس الأعلى للآثار في مصر أنّ شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 هو ‘فصل جديد’ في تاريخ منطقة وادي الملوك الأثرية، لأنه شهد ابتداء عمل أوّل فريق حفريات مؤلّف من المصريين بالكامل، أثمر سلسلة من الاكتشافات المثيرة والنوعية، بينها هرم ملكة السلالة السادسة في سقارة. كذلك ينخرط حواس في حملة مفتوحة لاسترداد عدد من الآثار المصرية التي تقتنيها متاحف عالمية بطريقة غير مشروعة، بين أبرزها رأس نفرتيتي، وحجر رشيد، وتمثال الملك رمسيس الثاني، وتمثال القبّة السماوية، وسواها.
وفي هذا الصدد، احتضنت القاهرة مؤخراً مؤتمراً هو الأوّل من نوعه، حول استرداد تلك الكنوز، وبدا منطقياً أن لا تبلغ التوصيات أيّ مستوى ملموس في وضع الدول، أو حتى منظمة اليونسكو، أمام مسؤولياتها. ذلك لأنّ الأمر يتجاوز نهب كنوز الشعوب، إلى مصادرة بعض تاريخها، بذرائع بدأت استعمارية صرفة، ثمّ صارت سياسية ـ ثقافية، وهي اليوم تتكئ على اشتراطات العولمة، وانقلاب الكون إلى قرية واحدة، لا تتسع إلا لمتحف صغير واحد!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى