صفحات ثقافية

اطلال البئر الثانية

null
الياس خوري
المقال الذي نشره ماجد السامرائي في ‘الحياة’ (15 نيسان-ابريل) الجاري، عن تدمير منزل جبرا ابراهيم جبرا في بغداد، يعيدنا الى الأطلال واحزانها. فالبئر الثانية التي بناها الروائي الفلسطيني، بعد خراب بئره الأولى في بيت لحم والقدس، صارت خراباً.
ابن العائلة الفقيرة الذي روى طفولته البائسة في بيت لحم والقدس، ثم روى نكبته ونكبة شعبه في روايتين كبريين: ‘السفينة’ و’البحث عن وليد مسعود’، ذهب الى بغداد، وبنى فيها لنفسه جذوراً، لنكتشف بعد ستة عشر عاما على وفاته، ان الجذور تقتلع، والبيت ينهدم على ما فيه، والذاكرة لا تتذكر.
العملية الانتحارية التي استهدفت منذ ايام قليلة مبنى القنصلية المصرية في بغداد، تركت بصماتها على بيت جبرا في حي المنصور. فالانتحاري الذي استخدم مرآب منزل جبرا طريقا الى هدفه، هدم البيت بما فيه على من فيه، فصارت اللوحات والمخطوطات والرسائل غباراً، ولم يبق من ذلك البيت الجميل، الذي كان بيتا للثقافة العربية والعراقية الحديثة سوى الخراب.
زرت هذا البيت مرة واحدة، كان ذلك عام 1973، كنت شاباً اسعده ان يحظى بصداقة كاتب كبير اسمه جبرا ابراهيم جبرا ورعايته. التقيت بجبرا في العام الذي سبق زيارتي اليتيمة الى بغداد في مصيف سوق الغرب. كان جبرا يأتي في كل صيف ليقضي اجازته مع زوجته في ‘فندق كامل الكبير’، هربا من حر بغداد. جلسنا على شرفة غرفته المطلة على غابة الصنوبر، حيث اجريت معه حوارا طويلا نشرته في مجلة ‘شؤون فلسطينية’. يومها اكتشفت ان الرجل لم يكن فقط مثقفا كبيرا ترك بصمته على النتاج الأدبي العربي، بل كان فلسطينيا، تأخذه الذاكرة الى الحنين، ويروي فلسطينه بعينيه ويديه وليس بكلماته فقط.
عندما التقيت به عام 1990، بعد معارك الحرب الأهلية الطاحنة على محور سوق الغرب، سألني بصوت مليء بالأسى عن فندقه، وعندما لم اجب، قال انه يعرف، فالخراب الذي حلّ بفلسطين هو عنوان الخراب الذي سوف يحلّ بكل ارض عربية.
قبيل وفاته عام 1994، التقيت به في احد فنادق عمان. كانت بغداد تحت الحصار الوحشي الامريكي، وكان الرجل حزينا ونحيلا. سألته مَ به، وما كان يجدر بي ان اسأل، فنظر الى البعيد ولم يقل شيئاً. ثم التفت اليّ وقال ان لميعة زوجته توفيت، وانه منذ وفاتها لم يعد يجد طعما للحياة.
سألته عن الحصار، فغمغم وروى لي ان ابنيه سوف يهاجران، وانه شجعهما على ذلك، لأن الوضع لم يعد يطاق. سألني اذا كنت اذكر بيته في حي المنصور، وقال ان هذا كل ما تبقى له، وان حيطانه ولوحاته ومقتنياته سوف تبقى شاهدا.
في ذلك البيت الجميل، الذي يعبق برائحة دخان الغليون، التقيت جبرا الحقيقي، وتعرفت الى عبدالرحمن منيف، وذقت طعم كبة الرز العراقية، وشاهدت كيف تختلط روائح الأمكنة، ويصير الزيتون الفلسطيني امتدادا لنخيل بلاد الرافدين.
في هذا المكان اسس جبرا وطنه الثاني الذي صنعه بالحب والكلمات. وفي حديقة حي المنصور اسس عمارته الثقافية، وكان حشدا من المثقفين في مثقف واحد، كان شاعرا ومترجما وناقدا ورساما، كان انكليزيا كي يترجم شكسبير، وعراقيا كي يحتضن مدرسة بغداد للفن الحديث وفلسطينيا كي يحدثنا عن الشعراء الفرسان، وبيروتيا كي يساهم في صناعة تجربة مجلة ‘شعر’، ويصنع مع زملائه ورفاقه الق البدايات وجماليات الحداثة الفنية والشعرية.
الفتى الذي عاش طفولة معدمة في بيت لحم، صار ذلك المثقف الارستقراطي الذي يحلو له ان يمضغ الغليون وهو يتكلم الانكليزية بلهجة اهلها. ثم فجأة يعود الطفل الفلسطيني الهش من حيث لا ندري ويحتل المساحة كلها. من مزيج هذين صنع جبرا رواياته. كل تجاربه الفنية والشعرية والنقدية كانت تمهيدا كي يصل الى الشخصيتين اللتين اتخذهما قناعا كي يروي حكاية فلسطينه التي انزرعت في العراق: وديع عساف في ‘السفينة’ ووليد مسعود في ‘البحث عن وليد مسعود’.
هذا الامتزاج الفلسطيني العراقي لا نرى له شبيها في التجربة الأدبية الفلسطينية المعاصرة. لم يكتب جبرا الحنين فقط، بل وضع الحنين في سياق عراقي قادر على ان يكون احد مرايا بغداد الأدبية القليلة. بحيث صار الفلسطيني جزءا من السؤال العراقي، لأنه وضع العراق في فلسطين.
كنت اريد ان اسأله عن اسمه دائما، لكنني لم افعل، فتكرار جبرا ووضع ابراهيم في الوسط تذكرنا بالطريقة التي كتب بها جبران اسمه. ثم اكتشفت ان جيل بدايات الشعر الحديث بأسره كان واقعاً تحت التأثير السحري للصورة التي رسمها جبران عن الأديب. خليل حاوي كتب اطروحته عنه، توفيق صايغ نشر رسائله، ادونيس جعله يخرج من احدى ضفتي نهر الغضب اللبناني، انسي الحاج يتخذ من انحناءة رأس جبران نموذجا لانحناء الشاعر والى آخره…
اما جبرا السرياني المذهب، الذي كان يصلي طفلا بلغة المسيح، وهي اللغة نفسها التي استخدمها جبران في الطقس الماروني، فلقد اختصر طريقه الى كاتب ‘النبي’ عبر تركيب اسمه.
الذين دمروا بيت جبرا حيث كانت تعيش شقيقة زوجة ابنه وولدها وهما قضيا في الحادث، هل كانوا يعرفون انهم يدمرون جزءا من ذاكرة العراق، وجزءا من ذاكرة فلسطين التي انكتبت بالمداد العراقي.
نبكي على الاطلال ام نبكي على هذا الزمن، لا ادري.
لكن ما اعرفه ان تدمير بيت جبرا ابراهيم جبرا، يراكم في قلوبنا الأسى، ويرسم صورتنا اطلالا في زمن ‘النهايات’.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى