“المصلحون” تفاجئ الجميع وتحصد جائزة “بوليتزر” للعمل التخييلي
باكورة عازف الدرامز السابق بول هاردينغ عن دارٍ لا تبغي الربح
رواية الاميركي بول هاردينغ، “المصلحون”، الحائزة للتو بضرب من مباغتة، امتياز “بوليتزر” 2010 للعمل التخييلي، ليست شتويّة تماما، على رغم الغلاف الملبّد بياضا. فهنا الصقيع المتسلّل الى المفاصل لا ينفي نفسا آخر اشد دفئا يهجع في صفحاتها. صحيحٌ ان الفحوى مفاجأة ادبية من الصنف الرفيع بلا ريب، إلاّ ان الحيثيات الإجرائية الملازمة لمنح الجائزة ايضا تقع في خانة اللامتوقع. ذلك ان صاحب الباكورة الظافرة بالجائزة المهيبة، ابن الثانية والأربعين، اتى الى الآداب من عزف الدرامز في فريق للروك بإسم “كولد واتر فلات”. ناهيك بأن الحكاية الموزّعة في زهاء مئتي صفحة اؤتمنت على نبرة غنائية وصدرت عن دار نشر “بيلفيو ليتراري بريس” تبلغ خمسة اعوام فحسب، وبالكاد سمع بها احدهم قبل اليوم. اما الأكثر اذهالا، فإن المؤسسة النشرية لا تبغي الربح، وملحقة بكلية الطب في جامعة نيويورك، ومقرها مستشفى بيلفيو في المدينة الاميركية! في حين ان اسم “بيلفيو” على شيء من نسب ادبي لا يمكن غض الطرف عنه، ذلك ان المركز الطبي تولّى على مر السنوات علاج مريضين بهوية اوجين اونيل ونورمان مايلر، بين اخرين، فيما دخله الكاتب الجنوب الاميركي واكر يبرسي طبيبا متمرنا قبل ان يصاب بالسل خلال تشريح احدى الجثث، ويضطر الى اختزال اقامته بين جدرانه.
باعت رواية “المصلحون” مئة وخمسين الف نسخة منذ كان لها ان تطأ رفوف المكتبات في كانون الثاني من العام المنصرم، وذاك انجاز في عرف الدور المحدودة الانتشار، وان كان شبه هباء في منظور المعايير التجارية. بيد ان المجيء الى مكافأة “بوليتزر” الأميركية مواربةً، عبر طرق فرعية غير معبّدة، يكرر تجربة ظلت يتيمة من طريق “اتحاد المتخلّفين” لجون كينيدي تول في مطلع الثمانينات من القرن المنصرم، وائتلافا مرّ سهوا هو الآخر مع دار “لويزيانا يونيفرستي بريس” الصغيرة، الى حين اعلان الفوز المدوّي.
والحال ان رواية هاردينغ المسنودة الى قصة جده الحقيقية، وبمنأى عن انتمائها الجينيالوجي الى دار او سواها، تليق بأن تستبقي وعي القارئ، لما لها من جذر النموذج الروائي المفبرك بعناية وإرث روحاني نادر وتشويق نفساني وميتافيزيقي اكيد. تقترح “المصلحون” الصادرة بالانكليزية مطارح نجوبها في حين ان ثمة مساحة لدقّة او اثنتين في ساعة العمر فحسب بعد، ولا يسعنا عمليّا قصد اي مكان.
في الصورة الاولى يتمدد جورج واشنطن كروسبي المسنّ وعميد منطقة نيو اينغلاند على فراش الموت بعدما اتى القصور الكلوي على عافيته، فيما تحاول اسرته الطافقة الى جواره أن تؤاخيه وتضاعف المحاولات لجعله يشعر بالراحة. بينما تبهت الحياة، يبدأ يهلوس بوضوح متزايد. يروح ذهنه يلتفّ الى الداخل خصوصا، فيتذكّر والده الغريب والبائع المتجوّل هاورد الاتي من الريف والمصاب بالصرع. لا تلبث حياة جورج ان تنجدل مع حياة والده وحياة جده ايضا، وإن عرضا، فيحضر الجد والقس، فيما تتراجع مؤهّلاته الذهنية الى حد اخبار القساوس في ارساليته ان الشيطان قد لا يكون بالسوء الشائع. ندرك ان هاورد لم تؤنسه فكرة سرد والده لولده، وقد يعول على هذا التكتم الموروث بين ثلاثة اجيال، لبلوغ حس جورج الغريب لكينونته الجسدية. يكتب هاردينغ: “كانت اليدان والاسنان والجرأة والافكار شؤونا ملائمة للوضع الانساني الى حد معين، وفيما كان وضع والدي الانساني آيلا الى التراجع، واكبه نكوث في تلك التفاصيل. تراجعت لتصير غبشاً غير مألوف حيث قد توظّف لمهمة اخرى، كأن تمسي نجوما او بكلات احزمة او غبارا قمريا. ربما كانت في الأصل كذلك، وربما اتى تلاشي والدي بنتيجة ادراكه لهذه الحقيقة”.
تحمل الذكريات التي اودعت الناس ايقاعا ذاتيا، وهي في عالم هاردينغ تشكّل جزءا من ترتيب فوضوي للأشياء، وانما منطقي. امتهن جورج تصليح الساعات واهتم بها على نحو مفرط لتملأ هذه القطع الزمنية منزله وتصير مصدر قلق مريح لذهنه المترحل والمشتّت. تتخذ هذه العلاقة ابعادا مضافة في خضم وصف هاردينغ لانقطاع الاب والجد عن قوالبهما الجسدية، ذلك ان الجسد في “المصلحون” ليس ما يهم، لأنه غير دائم.
في الرواية، السرد والأسلوب وزاوية النظر تجنح الى التزحزح على نحو مستمر، في حين تتقاطع القصص لتتفرع من دون كلل، قبل ان تلتقي مرة نهائية في صفحات الكتاب الاخيرة. لا تصل تلك الاطلالات في اجتماعها الى مستوى الحبكة التامة، غير انها هيكل اشبه بمشجب يعلّق عليه هاردينغ كلماته البديعة، ووصفه الفريد وجمله ذات الكثافة الغضّة التي تمطّ احيانا على مساحة صفحات. السرد في الرواية، يرنّم التوبات والصدمات والبرودة والحركة المقطوفة في لحظة جمود. يتحوّل موقف صعب مثلاً، فورة تمحص وانخطاف، غير ان ذلك لا يحرمه سطوته المرعبة، كما في مشهد موجع، حيث تصارع شقيقة جورج، بيتسي، لإدخال اسفنجة مبللة الى فمه المطبق. تعجّ الرواية بتلك الوقفات الوجيزة والخاطفة من التجلي وتأمل النفس، حيث تشديد على الرعب وتبجيل الحياة وتذكير بتحرّك عقارب الساعة النافذ في توقيت كل شخص. لا يتحفظ هاردينغ عن السؤال “ما الذي يعنيه ان يكون المرء ممتلئا بالبرق؟ ما الذي يعنيه ان يتشظّى الانسان من الجوف بسبب البرق؟”
يعيد بول هاردينغ ابتكار طفولة مرتعها نيو اينغلاند انطلاقا من المناظر الطبيعية، ويفعل ذلك كأعجوبة الاعاجيب، من باب ذهن كائن آخر ليس هو. ينجح في تلك الاستعادة من خلال جورج واشنطن كروسبي الذي يعدّ، وهو طريح الفراش، الأيام الثمانية التي لا تزال في حوزته. من ركنه، تصل كروسبي “شبه الشبح المصنوع من اللاشيء تقريبا”، مشاهدات عن حياته عبر النوافذ والشقوق في السقف، مشاهدات مؤطّرة وانما غير مقبوض عليها. تجتازه الصور الفوتوغرافية والمخاوف الماضية، بينما تجعل الساعات والأواني حكايته تتضخم، وحكاية اسلافه كذلك. يسخّر بول هاردينغ الأدوات الايقاعية ليكتب في تخييل يلخّص هيكلة معيش استلزم اجيالا لينبذ وبدأ ينهار “تبعتها زرقة السماء بعدذاك… ثم سقطت النجمات، ترنّ من حوله كزينة سموية حرة”.
الافكار وبنيتها، من بين مشاغل هاردينغ، ولا سيما في تلك اللحظات الخاصة بهاورد المصاب بالصرع. عندما يتذكّره جورج، يتذكره فريسة نوبات مدّته بنكهة نسكيّة وجعلته شخصّية روحانية في قريته. بيد ان هاردينغ راغب في معرفة ما يصيب هاورد حرفيا واستعاريا عندما تصادر النوبات دماغه. على هذا المنوال، تغدو لغته الجميلة تصويرية عندما يختلس النظر الى ما تحويه جمجمة هاورد ليكتب: “خشخش دماغ هاورد المبثّر فانتشر الزرق خلف عينيه وجلس متهاويا يثرثر بتراخ مغلّفا بغشاء، محاطا بنظام من وميض خاص”.
اما افتتان جورج بالدواليب المسنّنة في بطن الساعات، وبأقفالها، فيجد صنوه في اداء دماغ هاورد المتقطع وفي عنايته التفصيلية بالعربة حيث ينقل السلع التي يبيعها. يعامل هاورد الأغراض كالتعويذات، ومن شأن صدى قرقعتها ان يجلب الراحة الى الذهن المضطرب احيانا ايضا.
غير ان افكار جورج لا تجعل الرواية تتمحور على الموت، وانما تصير انصاتا لما تقوم عليه الحياة. الأرجح ان الموضوع وتشعباته ليسا المسؤولين عن جعل الرواية تنجح في تقديم نفسها، وانما الجمل التي تتفشى فيها، ذلك ان كلاً منها يطنّ كالساعة المترجحة في خواء المنزل. هناك عمق غير مكرور في رصد جورج وتأملاته الختامية. ذلك انها تبدو حكيمة، وخلاصة تمحيص دقيق، ولا يخفف من وطأتها ان يكون صاحبها على شفا الحياة والموت على السواء. يشدد هاردينغ على الانحدار، لكأنه يحمل فوق الحوادث كأسا زجاجية مكبرة تحت اشعة شمس لاهبة.
تهتم الرواية بحياة جورج بقدر أقلذ من اهتمامها برحلة حيواتنا المتاهية. هناك بلا ريب طفولة الرجل وخصوصياتها الملقاة الى اقصاها، ومقاطع طويلة في خصوص والده. هناك ايضا سطوة فصل تخلّي والده عن الأسرة، بعد أن يدرك خطة زوجته لإدخاله المصحّة العقلية، على تجارب كروسبي العاطفية. غير ان المنظور الأساسي يختصر في الكونيات، كونية الوقت والطبيعة وطابع الذاكرة العكر. يركّز هاردينغ على اللحظات التأسيسية والطين لا يزال مبللا، ثم على تلك الفسحات الأطول عندما نكون صرنا تماثيل مصبوبة وصلبة. على هذا النحو، يخطّ وبسرعة لحظاته المبكرة عند نيل الشهادات والوظائف وكدس المقتنيات والامراض حتى من السكري والباركنسون والسرطان وصولا الى الحال الجسدية الدانية من النهاية في غرفة الجلوس في منزله. في استدعاء الروائي هاردينغ الضاج موهبةً، تصير حياة كروسبي التي ينظر اليها من خرم اللحظات الاخيرة، فسيفساء ذكريات في وسعها ان “تبين له ذاتا مختلفة في كل مرة حاول ان يخلص الى تقويم”.
النص تجول بين النثر والقصيدة، يتلبّس بالرواية في اماكن معينة، وهو ايضا تمرين في الوصف الشاعري من ارفع الانماط في اهوار حبكة سفلية. بهذا المنطق، وفي ركاب السرد، ثمة تناوب بين جورج وهاورد ووالد هاورد، يأتي كل واحد منهم بتجاربه المختلفة.
في باكورة الكاتب الاميركي، فإن الاقتصاص من الوعي هو نتيجة تصميم، وهذه حال الاختزال ايضا في صنف بعض الجمل حيث لا نجد تجريبا في الإطالة من قبيل “تعصف الريح كاسحة الهضبات” او “لم نر يوما ايائل الرنة او الثورة. بالكاد لمحنا العالم المسودّ تحتنا قبل ان نحترق لنصير لا شيء”. انه النثر والنثر الجيد. وفي حال تجرأنا على التحايل على تسطيح السطور ومزّقناها مقاطع شعرية، لمكثنا مع ما يصلح ان يكون احد اكثر المقتربات الشعرية تأثيرا.
آخذين هذا في الحسبان، لا محال من الاشارة الى ان الشعر المعاصر الجيد او الرديء، ليس تماما المادة التي تصنع منها الروايات العظيمة. يمكن انجاز رواية على جمال، من دون اللوذ بحبكة، ومن دون الاتكاء على شخوص مبلورة بإتقان، وبالايمان بالانسيابية النثرية فقط. احيانا تفوق شطحات هاردينغ في “المصلحون” قدرة الرواية المقتضبة على الاحتمال. غير ان ذلك لا يمنع محاكاة جمله المديدة على حدّ التحذلق اللفظي، في هنيهات والت وايتمان. “المصلحون” تأمل انشغل بالهمّ الروائي، او ربما شقع من حلم غير مألوف دبّ اليه الاباء والابناء في نيو اينغلاند الريفية.
انها الرواية – الوعد، تومئ بقادم اعظم من دون تردد، وبداية مكومة على نفسها، منغمسة في وعي جزء من الضفة الشمالية الغربية للولايات المتحدة الاميركية.
رلى راشد
مقتطف من رواية المصلحون
بدأت هلوسة جورج واشنطن كروسبي قبل ثمانية ايام على غيابه. كان يستلقي في سرير تم استئجاره من المستشفى ووضع في وسط غرفة الجلوس في منزله. بدءا من هذه الزاوية كان في وسعه ان يرى الحشرات تهرول من شقوق متخيّلة في جص السقف، واليها. اما زجاج النوافذ الذي كان في ما مضى مروّساً ولماعاً، فبدا يتحرك في مكانه.
في وسع الهواء الصلب الآتي من بعيد، ان يجعل السقف يسقط على جميع افراد اسرته وربما ينهار على رؤوسهم وهم جالسون على الكنبة او على كراس بمقعدين فضلا عن كراسي المطبخ التي جلبتها زوجته لتلبّي طلب الجميع. سيتسبّب الزجاج المبعثر بإخراج الجميع من الغرفة، وهؤلاء هم احفاده القادمون من كنساس واتلانتا وسياتل وشقيقته القادمة من فلوريدا، في حين سيتمّ هجرانه في سريره الى جانب خندق من الزجاح المحطّم. عندئذ سيقتحم المنزل غبار الطلع والسنونو والمطر والسناجب الجسورة التي امضى نصف حياته يجبرها على الابتعاد عن هذا المكان.
شيّد المنزل بنفسه، ثبّت الركائز ورفع اطارات النوافذ وجمع القساطل ونظّم الاسلاك وانجز طلاء الغرف.
ضربته الصاعقة مرةً، فيما كان منهمكا في العمل في الورشة في الهواء الطلق، كان وقتذاك يثبت آخر وصلة في خزان المياه الساخنة. قذفه البرق الى الحائط المقابل. غير انه لم يلبث ان وقف واكمل ما كان في صدد انجازه. على هذه الحال، لم تبق الشقوق في الجص على حالها. استطاع ان يهزم الانابيب المسدودة وحلّت فوق الالواح المخدوشة والمقشرة طبقة جديدة من الدهان.
قال وهو مكبل في السرير الشبيه بأسرّة المؤسسات، والذي بدا غريبا في وسط السجادات العجمية وقطع اثاث تعود الى الحقبة الاستعمارية ونحو دزينة من الساعات القديمة: “اجلبوا بعض اللصاق. اجلبوا بعض اللصاق. يا الهي، لا اريد سوى بعض اللصاق والاسلاك وزوج من المشابك. يمكنكم شراء كل هذا في مقابل خمسة دولارات فحسب”.
اجابوا “حسناً جدي”.
“حسناً ابي”.
مرّ نسيم عبر النافذة المشرعة خلفه ونقّى الرؤوس المتعبة.
عند الظهيرة وجد نفسه وحده موقتا، في حين كانت الاسرة تحضر الغداء في المطبخ. كانت الشقوق في السقف تتوسع لتصير حفرا. اما دواليب سريره المثبّتة والمفرملة، فغرقت في الثقوب الجديدة التي برزت على الارض تحت السجادة. في كل لحظة كانت الارضية ستنهار بلا ريب. في ثوان كانت معدته غير المفيدة لتثب في صدره وكأنه يمتطي احد الاحصنة في مهرجان توبسفيلد الزراعي. يمكن في اي برهة ان يسقط وسريره في القبو، في اعلى ركام الورشة التي بدأها. تصوّر جورج ما قد يراه وكأن الانهيار حصل فعلا: سقف غرفة الجلوس التي امست بطبقتين، والواح الارضية المتكسرة والمغطاة بالسجاد، فضلاً عن الانابيب الملتوية والاسلاك الكهربائية التي بدت كعروق مبتورة تؤطر الجدران وتدلّ عليه في وسط هذا الخراب المباغت. ارتفعت اصوات همس من المطبخ.
ادار جورج وجهه، آملا ان يكون هناك احدهم في الغرفة جالسا خارج نطاق رؤيته، وان يكون تحديدا سيدة تضع صحنا من سلطة البطاطا وشرائح لحم الفخذ المشوي على ركبتها، في حين تحمل كوبا بلاستيكيا من جعة الزنجبيل في احدى يديها. غير ان الدمار حوله ظلّ على حاله.
اظن انه استغاث، غير ان اصوات النساء في المطبخ والرجال في الفناء استمرت تهمهم من دون توقف. استلقى على كومة الركام وراح ينظر الى الأعلى.
انهارت الطبقة الثانية فوقه، مصطحبة معها اطارها غير المنجز وانابيب السمكرة، فضلا عن رفوف من المعاطف القديمة وصناديق الألعاب المنسيّة واكياس الصور العائلية. وكان بعض الكليشيهات قديم الى حد انها وزّعت على صوان رقيقة جدا. انهار هذا كله ووصل الى القبو، في حين لم يستطع ان يرفع يده حتى ليحمي وجهه.
غير انه كان شبه شبح مصنوعا من اللاشيء تقريبا، اي من الخشب والمعدن وحزمات الورق المطبوع بتميّز. كانت الجدة نودين موشحة وتنم عن تصميم، ومقطبة الحاجبين وهي تنظر الى عدسة الكاميرا، بل كانت عبثية بقبعتها التي بدت ككتلة جنائزية مطرزة بالزهور والعقد، لولاها لكانت سُحقت عظامه.
ها هنا كان يستلقي بين صور التخرّج والسترات الصوفية العتيقة والادوات الصدئة وقصاصات الصحف المرتبطة بترقيته الى منصب رئيس قسم الرسم في الثانوية المحلية، ثم في شأن تعيينه مديرا للارشاد، وهناك قصاصات اخرى يرد فيها خبر تقاعده، حيث تسرد حياته التالية كتاجر ومصلح للساعات القديمة. اما بطون الساعات التي كان في صدد اصلاحها فكانت موزعة في وسط الفوضى.
انهار السقف ليرسل كتلة من الخشب والمسامير والورق والحصى والعزلة. كان ثمة سماء ملبدة بالغيوم تمرّ كسرب من السندان عبر الزرقة. شعر جورج كأنه في الخارج فيما هو سقيم. كانت الغيوم تستريح للحظة ثم تهبط على رأسه.
تبعتها زرقة السماء بعدذاك، تأتي من الأعالي عبر هذه الفتحة الملموسة. ثم سقطت النجمات، ترنّ من حوله كزينة سموية حرة. في المحصلة، انفصل الخراب الاسود عينه وغطّى الكومة برمتها، وغطى في الوقت نفسه دمار جورج المشوّش.
قبل سبعة عقود تقريبا على وفاة جورج، كان والده هاورد ارون كروسبي يعمل سائقاً لعربة نقل. كانت عربة خشبية، كناية عن علبة من الجوارير ثبّتت على محوري دواليب. كان هناك نحو دزينة جوارير وضعت فيها فراش وزيوت للسيارات ومسحوق للأسنان وجوارب من النايلون ومعجون للحلاقة وشفرات مسنّنة. كان هناك جوارير اخرى ملأت بمواد لتشميع الاحذية، فضلا عن جارور سري فيه اربع قنان من مشروب جين. كانت الطرق الجانبية طريقه، الدروب القذرة التي اجتازت الاحراج العميقة، فضلا عن الاراضي المجردة من الشجر حيث ارتفع كوخ صغير توزّع بين نشارة الخشب وهضاب الشجر، وحيث وقفت سيدة على عتبة مقوّسة في فستان بسيط، ترفع شعرها الى الخلف وتشدّه الى درجة انها بدت كأنها تبتسم (في حين لم تكن باسمة)، بينما حملت مسدسا ملقما.
آه، هذا انت يا هاورد، حسنا، اظنني احتاج الى دلو صغير كتلك التي تبيعها. كان موسما الربيع والخريف ازمنته الاكثر ازدهارا. الخريف اولا لأن سكان الغابات النائية يحضرون المونة لموسم الشتاء، والربيع ثانيا لأن المواد تكون خلاله قد نفدت قبل اسابيع عدة على اعادة فتح الطرق أمام أول الواصلين. كانوا يتقدّمون صوب العربة كالمشاة اثناء النوم متضورين جوعا. احيانا كان يغادر الغابات بعدما حصل على طلبية توابيت، او مع ابن او زوجة ملفوفين بقماش خيش.
كان يعمل في التصليح، تصليح الاوعية الصغيرة من الحديد المصبوب، او تلك المصنوعة من خليط زئبقي، واحيانا كان يعيد تسطيح وعاء اعوج.
كان في وسع جورج ان ينشر الاثاث القديم وان يدقّ الاطارات بالمسامير. كان يستطيع مد اسلاك الغرف والاهتمام بالسمكرة. كان يمكنه ان يعلّق الالواح على الجدران وان يبني السلالم القرميدية. كان في وسعه ان يثبت النوافذ في امكنتها ويطلي اطاراتها. غير انه كان يعجز عن رمي الطابة او عن السير ميلاً واحدا. كان يمقت التمارين، وعندما تقاعد في سن مبكرة، اي في الستين، كان ليرغب لو استطاع ان يوقف نبضات قلبه عن الخفقان. ربما كان النقص في التمرين السبب في تورم ساقيه، كفقمتين نافقتين على الشاطئ في اثناء خضوعه لأول علاج بالأشعة بعد تشخيص اصابته بسرطان اعلى الفخذ. بعدذاك تصلّبتا كالخشب. قبل ان يصير طريح الفراش، كان يمشي كأنه مبتور الساق في حرب سابقة لبزوغ الأعضاء الإصطناعية، ترنّح كأن ساقيه من الخشب الصلب، معلقتين بمسامير معدنية ثبتتا الى خصره. عندما كانت زوجته تلمس ساقيه ليلا في السرير، مخترقة غشاء ثيابه نومه، كانت تتذكر السنديان او القيقب وكانت تضطر الى ان تجبر نفسها على التفكير في شيء اخر من اجل ان تتجنب ان تتخيل نفسها تنزل الى الطبقة السفلية وتحضر ورق الزجاج ومادة مثبتة للون لكي تزجّج ساقيه وتطليهما مستخدمةً فرشاة، لكأنهما قطعة اثاث. مرةً ظنّت زوجها الطاولة فشخرت بصوت مرتفع بينما كانت تحاول ان تخمد ضحكة. احسّت بعدذاك بأسى عميق الى درجة انها بكت.
التقى هاورد في جولاته اليومية بنساء ريفيات اظهرن عنادا جعله على ما ظن، او كان ليظن، في حال فكر مليا في المسألة، شخصا يتمتع بصبر من النوع المنطقي الذي لا يتزعزع. عندما تخلّت شركة مساحيق التنظيف عن قالب الصابون القديم لمصلحة قالب اخر بصيغة كيميائية جديدة، وبدلت تصميم العلبة التي حوته، كان على هاورد ان يكابد نقاشات طويلة كان ليستسلم فيها بسهولة في حال لم يكن اخصامه زبائن يمتنعون عن الدفع.
– اين قالب الصابون؟
– ها هو.
– غير ان العلبة مختلفة.
– اجل لقد بدلوها.
– ممّ كانت تشكو العلبة القديمة؟
– لا شيء.
– لماذا بدّلوها اذاً؟
– لأن قالب الصابون صار افضل.
– لقد بدلوا قرص الصابون؟
– انه افضل.
– لم يشك الصابون السابق من شيء.
– طبعا، غير ان هذا النوع افضل.
– لم يكن الصابون السابق يشكو من شيء. كيف يمكن ان يصير احسن اذاً؟
– حسناً، الصابون الجديد ينظّف على نحو افضل.
– كان ينظف جيداً في الماضي ايضا.
– هذا النوع ينظف على نحو افضل واسرع.
– حسنا، سأشتري قالبا من الصابون العادي.
– صار هذا الصابون، الصابون العادي بدءا من هذه اللحظة.
– ألا يمكنني الحصول على الصابون العادي؟
– انه الصابون العادي. اضمن لك ذلك.
– حسناً، لا يعجبني ان اجرب نوعا جديدا من الصابون.
– ليس جديدا.
– حسنا يا سيد كروسبي.
– حسنا يا سيدتي. ينبغي لك دفع بنس اضافي.
– ان ادفع بنسا اضافيا؟ ولماذا؟
– ان هذا النوع من الصابون اغلى ببنس، وهو افضل.
– انا مجبرة على دفع بنس اضافي لقالب صابون مختلف وضع في علبة زرقاء؟ لا لا، سآخذ علبة من صابوني العادي فحسب.
ترجمة ر. ر.
النهار