شذرات من حجرة رجل ميت

علي جازو
تلغي القسوة، واعتمادها شكلا جليديا من التعامل البشري، مبدأ أصيلا مفترضا: الرأفة. غالبا ما ننسب، عن جهل راسخ، وشيوع أفكار أشبه بالأوبئة منها إلى الأفكار، إلى الطبيعة قسوة ليست من صنعها. الطبيعة سيلان، الطبيعة تمضي لكنها لا تقرر. أما نحن الذين لا يسألنا ضميرنا الجماعي، ولا يحاكمنا منطق عقلي سليم، فلا نزال ننسب ما نخفيه ولا نجرؤ على التصريح به، إلى غيرنا. افتقارنا إلى الرأفة كافتقارنا إلى جسم التعاطف النبيل وحس المشاركة الوجدانية الرفيع. غياب كهذا عن محيط تفكيرنا ومآل تعاملاتنا اليومية، كفيل نسف فكرة المجتمع البشري المتكاتف المتعاطف، وتحوّله مسخاً، تجمعا بشريا بلا رابط ولا فكرة ولا هوية ولا ضمير.
•••
عندما يتوحد صوت البشر بسبب الهلع والطمع في آن واحد، ويتحول اللسان – مذاق الفكر الطموح – آلة بغيضة موقفة عض هلاكها على نهش كل ما لا يشبهها لرغبتها الوضيعة في الحلول محل أعدائها، حينها من الأفضل – وربما هو العمل الوحيد الجدير – للمرء أن يجبر لسانه على بكم مطبق. أن تعضّ روحكَ كلَّ يوم، خير من أن تنهش الجثثَ الهائجة هنا وهناك.
•••
آمل، بسرعة، أن تُقْصَل حياتي الوضيعة بالشيخوخة الخرفة. آه ليحل الخرف مبكراً. هذا جزاء ما أريد من الرب والبشر على السواء. لقد لطخ الحبّ عيني بكل قذارة. لا شك أن في الموت شيئاً من العجز عن الحب. إنه الضعف ألا تحب. ثم أتكون الشيخوخة الخرفة المتوخاة والمأمولة ضرباً من النيل بالضعف من الضعف؟!
•••
إنه لمن المصيبة المستمرة أن القوة وحدها هي التي تسيطر. لكن من المصيبة كذلك ألا يتوقف أحدٌ عن حب السيطرة وبلوغ النفوذ المدمر؛ فالقوة تجبر الضعف أن يبقى ضعفاً ليلتهم ذاته. تسيطر القوة على الضعف بعدم السماح له بالتحول قوة. ثمة من يرى في الضعف السبب الوحيد لعذابه. ذلك أنه يرغم على إيجاد سبب، أي سبب، فيختار الأقرب والأسهل والأكثر كسلاً: جعل الضعيف ضحية وشهوة للقوة في آن واحد. يا للخضوع المزدوج الوضيع!
•••
الحبّ، الرغبة اللامتحققة على الدوام، بل الحرمان والتعسف، الأمس،
الغد، الآن، توجد الأسباب كلها كي نلهث وراء الظلال.
•••
الحشرات حزينة تجلب الكرب واليأس. إنها كذلك لأنها كاملة، إنها حزينة أيضاً لأنها وحيدة داخل كمالها، لأن العالم البشري حزين الى درجة أنه يتساوى، من دون أن يعرف، مع حيوات الحشرات المحزنة.
•••
ماذا يحدث لي لو كان الساذج الذي في داخلي، رجلاً همجياً شديد العنف!؟ حقاً، أندهش مرعوباً من احتمال كهذا! وهو احتمال لا يندرج قط في شأن خيالي محض. لأنني كل يوم انكسر مثل حصاة. أتفتت وأرى النتيجة التي يحسمها الحرمان بعضّاته اليابسة الباردة الثقيلة. أنا أراه، أراه الآن! لِمَ إذاً لا أفكر في غير الموت؟ كل حين يطلع في وجهي، في المرآة، أثناء الفطور، وفي العمل؛ العمل الذي أتلف عقلي وسلامة تفكيري. لِمَ لا أرضى بما أنا عليه؟ صامتٌ همجيٌّ في ثوب الساذج الذي أنهكتِ الرداءةُ طفولتَه وخيالَه!
•••
اخترت غير نادم ولا متحسر، بخضوع سهل وطواعية مخمورة، عبودية هادئة. أردتها بلا أوهام ترفٍ، وبلا مزايا حرية خانقة تأخذ من العقل جهده النظيف، ومن الأيام سهوها وجمال تشابهها وعبورها المستمر! ثقبت هناءة الوضيع وجهي البليد، وتكسرت، داخل روحي، سنوات من الأحلام . كم كنت محظوظاً وبخساً باختيار كهذا! يا لوفرة الوقت بلا أمل في النفع، وكم من الأفكار في إمكاني أن أختبر وأبدد الآن! قوة خفية، طاقة ساحرة، ملكتا عقلي. ترى كم من السخاء يمكن أن نحظى، إذا نحن انتبهنا إلى ما نحب من قهر وإكراه، داخل عوالم محدودة ثابتة! تسع ساعات عمل ليست من العمل في شيء. كيان، جسد ما، يجلس ويتكلم ويشير ويبتسم. يتواعد ويثني وينظر، ينظر فقط، حد أننا لا نرى منه سوى نظرته، سوى ما نعتقد أنهما عينان سليمتان! تسع ساعات. قبلها ساعتان من العمل وإليه. ثم، أو دائماً، هبات اللاشيء كلية وكاملة. لا شيء كاملاً وكلياً. غريزة صامتة، إرجاء قاتل رحيم.
•••
تخلو بلادي العزيزة المنهوبة، من الأفكار العظيمة والأجساد الحيوية، لأنها في الوقت نفسه خلت من رهافة المشاعر وذوق الأحلام. على رغم امتلائها اليومي الشنيع بأحداث جسام وتوترات بغيضة سقيمة. ولكون هذه الأحداث ذات العنف المكتوم لا تتحول من حيث هي مادة الحياة الوحيدة المحطمة إلى أفكار تخرج من فم الجثث، تظل الأحداث نفسها تتقابل مثل أجنبي في وجه أجنبي. سائل الأيام المسموم يمزج مع عبء الأيام الحطام. هذا هو الوضوح البليد المحمي للواقع، ربما يكون أيضاً الوضوح المحبوب. إذا أنت نظرت في وجوه الممثلين (لا يختلفون عن معظم القضاة والأطباء والمحامين والعسكريين والبائسين والمجرمين) – كم ازدهرت صناعة الصورة مع تلف العقل – لن تشك أن الواقع محبوب ومحمي من قبلهم في الأخص، من قبل هذه الخصى الخنوصية ودعامات الأثداء والحمامات النافقة. بلادة لا فم لها لتعض على قلب القسوة الذي حوّل البلادة والكذب سلطاناً كل يوم. واقع جار يتلاشى ثم يتكرر الكابوس نفسه ويتلاشى. كأن حياة البشر في هذه البلاد المنتنة مصنوعة من النكران والفقدان وحب الموت والخنوع. كأن الشوارع ليست الشوارع، إنها لا تخص أحداً، وما يسير ويتكلم على الشوارع يعود خاوياً مثلها كل ليلة. هل من أحد ينظر في كتب المدارس، أو ممرات السجون، ومكاتب الوزارات؟ إن ما يجري ويتحول في العالم كله، من مدار العالم. أما نحن فلسنا جزءاً منه. لسنا من أبناء الحياة في شيء. حسناً، لنبدأ من الموت. لكن ماذا نفعل إذا لم يمت أحد في هذه البلاد!
•••
في عالم من متناظرات يومية خاملة، أسمع صوتي الميت كما لو أنه تراب هالك وضيع. أتراني المفتون بما يعذبني ويقمعني؟ أو ربما هو الانشغال بعمل لن أنصرف له أبداً. العمل الدؤوب على الدروب الخطرة الهوجاء – ما أفسدها !-  للتخلص من كل عمل.
النهار