سيناريوات محبطة لصغار المخرجين وكبارهم
عارف حمزة
نشأت فكرة كتاب “أفلام لن نشاهدها”؛ الصادر عن منشورات مؤسّسة السّينما السّوريّة بترجمة مروان حداد، من سيناريو سينمائيّ كتبه كالوس.هـ. كناب على شكل كوميديا ساخرة تقوم على اختطاف الكلاب من قبل عصابة من الأشرار للمطالبة بفدية. وهي ستبدو عصابة رابحة لأنّ أحداث الفيلم كانت ستدور في فرنسا التي كانت، في وقت كتابة ذلك السيناريو، تضمّ أكثر من سبعة ملايين كلب. سيطرق كالوس أبواب المنتجين والمخرجين بنفسه أو عن طريق الأصدقاء من أجل تحقيق فكرته الغريبة تلك. وسيقوم أحد المنتجين بالموافقة على صناعة الفيلم لكن بعد أن قدّم رؤيته التي حوّلت السيناريو من كوميديا ساخرة إلى كوميديا “تافهة”. بينما سيقول له المخرجون بأنه لو وجدوا تمويلاً فإنّهم سيقومون بتحقيق أفكارهم الموجودة في الأدراج بدلاً من تحقيق فكرته تلك. هذا اليأس، من تحويل السيناريو الذي كتبه إلى فيلم سينمائيّ، سيجعل كالوس يبحث عن أقرانه في الخيبة. عن أولئك المؤلّفين والمخرجين الذين لن نشاهد أفلامهم، ليتفاجأ، ويفاجئنا نحن أيضاً، بوجود أسماء كبيرة ولامعة لم تستطع أن تخرج نصوصها من الأدراج بسبب من المنتجين أو الرقابة أو انتهاء الغاية منها. سيُفاجأ بوجود القلة النادرة من المخرجين الذين لم يُرفض لهم أي سيناريو مثل تروفو. لكن تروفو نفسه عليه الانتظار عدة أعوام، محتفظاً ببعض السيناريوات، حتى يتمكن من تنفيذ فيلم “فهرنهايت 451” وكذلك فيلم “الطفل المتوحش”. كما سيبحث رينوار لثلاثة أعوام حتى يقبل أحد المنتجين بتمويل فيلمه “الوهم الكبير”. بينما سيكون هناك مخرجون آخرون سيتجرّعون الأعظم؛ مثل كوروساوا الذي سيمضي خمس سنوات من دون تحقيق أي فيلم، أو روسيلليني وفيسكونتي اللذين سيموتان من دون أن يحقق روسيلليني فيلمه “كاليغولا” وفيسكونتي “البحث عن الزمن المفقود”.
كالوس سيختار أربعة سيناريوات، من ضمن عشرات السيناريوات التي لن نستطيع مشاهدتها كفيلم سينمائي فلنتعرّف عليها بقراءتها كنصّ مكتوب. ورغم أنه سيتم تحقيق اثنين من السيناريوات المنشورة في الكتاب، في الفترة ما بين صدور الكتاب بلغته الأصليّة وما بين ترجمته للعربيّة، ومن موافقته المسبقة بأنّ “الفارق بين السيناريو السينمائيّ والنصّ المسرحيّ كبير للغاية. السيناريو، في الحقيقة، ليس أكثر من دليل لما قد يُصبح عليه الفيلم، ولذلك، فإنّ أفضل الأفلام هي تلك التي يشارك فيها المخرج بكتابة السيناريو”. كما قال له المخرج المسرحيّ والسينمائيّ ليندسي أندرسون الذي يرى أيضاً بأن “من المستحيل تخيّل فيلم سينمائيّ بمجرد قراءة السيناريو”!. وهو موافق تماماً لما أكده تروفو من أنّ “سيناريو الفيلم ليس هو الفيلم”. إلا أنّ وجود هكذا كتاب يفتح عين القارئ وذهنه كذلك على المصاعب والآلام والمواقف والأثمان التي يدفعها صناع السينما.
وهكذا فإنّ انطلاق غرابة هذا الكتاب سيكون من مشاغبة عنوانه وذلك من خلال أداة النصب “لن”، التي تنفي إمكانيّة حدوث فعل المشاهدة، والذي سيُلمّح، في ذهن القارئ قبل تصفح الكتاب، إلى أنّ منع إمكانيّة المشاهدة سيكون لسبب رقابيّ سلطويّ كما هو معروف في المقام الأوّل. ولكن هذا الملمح خاطئ، فسيناريو “نساء ماغليانو الحرائر” لفيديريكو فيلليني، المأخوذ من كتاب لماريو توبينو والذي يدور حول طبيب ومرضاه في مستشفى ماغليانو للأمراض النفسيّة، الذي سيعيش في المشفى لعدّة أسابيع ويكتب نصّاً خاصّاً بتجربته هو أكبر من الكتاب نفسه. ولكنه لن يجد منتجاً ليقوم بتمويل العمل. وبما أنّ فيلمه هذا عن المجانين سيداعبه المنتج دي لورينتس قائلاً: “لقد أخرجتَ فيلماً حول الشاذّين جنسيّاً، وآخر حول المحتالين. لماذا لا تقوم بتحقيق فيلم، على سبيل التغيّير، حول الناس العادييّن؟”. كلّ ذلك بسبب أنّ فيلليني، مثله مثل كبار المخرجين العالمييّن، يذهب وراء ذائقته وإلهامه ومشروعه الشخصيّ الفنيّ والخالد من دون اهتمام بمسألة الربح التجاري التي تلهب مشاعر وجيوب وقرارات المنتجين. هذا ما يجعلنا نفهم المعادلة عندما رفض فيلليني أن يحقق تتمّة لفيلمه “لا سترادا” عندما حقق نجاحاً عالميّاً وتجاريّاً هائلاً في عام 1954.
أمّا سيناريو “ثلج” للمخرج اليابانيّ آكيرا كوروساوا، الذي قبل في المسابقة الوطنيّة للسيناريو وتلقى دعماً من قبل مجموعة من المجلات السينمائيّة اليابانيّة، فلم يكن أيضاً عملاً سياسيّاً، بل تناول مسألة الوعي والإدراك اللذين يحملهما أستاذ جامعيّ من طوكيو ويسعى لنقلهما الى الفلاحين المتضرّرين بسبب الثلج الذي يمنع نمو محصول الأرز لديهم. لكن، وقبل أن يبدأ تصوير الفيلم، تمّ التوصّل إلى استنبات نوع من الأرز يستطيع مقاومة الثلج والبرد. وهكذا أصبح “ثلج” موضوعاً عفا عليه الزمن، ولم يعد هناك من داعٍ لتحقيقه. رغم أنّ ذلك ليس سبباً مقنعاً لامتناع كوروساوا عن إمتاعنا بفيلم من أفلامه التي لا يمكن نسيانها، أو الحديث عن أفضل الأفلام السينمائيّة من دون التوقف عنده طويلاً. ولكن قرار عدم العمل سيكون أفضل لنا إذا ما عرفنا أنّ كوروساوا حاول الانتحار لأنّ فيلمه “دوديسكادين” فشل تجاريّاً في عام 1971.
سيناريو “العيد الوطني” للإسباني لويس بيرلانغا، “هو من أبرز أسباب ظهور هذا الكتاب”، كما يقول المؤلف كالوس. فهذا المخرج لطالما تعرّضت أفلامه للحذف والاقتطاع وقد مُنع له ستة وثلاثون مشروعاً. سيناريو العيد الوطني يمكن قراءته بمتعة شديدة، كما لو أنه قصة طويلة أو رواية كما يقول المؤلف، بسبب ذكاء كاتب السيناريو الأسبانيّ رافائي آثكونا الذي ألبس الأحداث المأسويّة خلال الحرب الأهليّة الأسبانيّة أسلوبه الفكاهيّ الخاص. هذا السيناريو سيرى النور مع السيناريو الآخر، “الزهور الجارحة”، الذي يضمّه هذا الكتاب. “الزهور الجارحة” كان من كتابة الأسبانيّ آلان رينيه الذي اتصل بمواطنه المخرج خورخيه سيمبرون للبحث عن منتج ما لتحقيق هذا الفيلم القريب من أجواء الخيال العلمي. ولكن لا أحد قبل تلك المخاطرة بسبب سمعة رينيه التي تلاحقه كسينمائيّ “صعب” تثير الرعب لدى المنتجين.
ربما تنطبق جملة تروفو الذهبيّة بأنّ “سيناريو الفيلم ليس هو الفيلم” على اثنين من السيناريوات التي يضمّها هذا الكتاب. ولكنها ليست كذلك بالنسبة لـ”ثلج” و”العيد الوطني”. فهما نصّان يمكن لقارئهما، بسبب جمالهما ولغتهما، تصوّر الفيلم نفسه بنسبة ما. ولكن أيّاً كانت أسباب عدم إمكانيّة مشاهدة الأفلام، سواء كانت سياسيّة أو ماليّة أو شخصيّة.. فإنها تعتبر في غير صالح الفن السّابع الذي ظهر واستمرّ كأحد أهم أركان الثقافة والفرجة والمتعة على هذه الأرض. هو كتاب لا يذهب إلى أنّ “الكبار” أيضاً بحاجة لتضامن، وهو أمر محسوم، بل إلى أنّ السينما، بكلّ مفاصلها من مخرجين ومؤلفين وممثلين ومشاهدين… قد خسرت كثيراً بسبب أشياء لم نشاهدها ونعرفها في الوقت الذي كنا نظنها فيه الرابح الأكبر.
المستقبل