يوم في حياة عائشة أرناؤوط
لا أعرف عن أيّ يوم أكتب، فكلّ يوم متفرد وذو نكهة مغايرة لما سبقه أو سيتبعه، وليس بي أي ميل لاختيار قطع “بازل” من أيام متفرقة لتشكيل صورة وهمية ليوم لم يُعَشْ فعلاً من خلال تسلسله الأخاذ. سأحاول كذلك تلافي الوقوع في “النرجسية المائية” الغالية علينا أحياناً، تجنباً للوقوع في فخٍ وقائع متكلفة ومصطنعة،
تأخذ الألباب بغموض اهتزازاتها وأوهام جمالها، بالإضافة إلى أنها قد تكون على غفلة منا “نرجسية مدمّرة”. يستدعيني هذا إلى التساؤل عن كمِّ النرجسيات الهائلة التي تسكننا، تحرّكنا، تهزّنا، تدمّرنا وتحيينا. أظن أن “نرجسية الحياة ، نرجسية الموت” كما تحدث عنها أندره غرين في الكتاب الذي يحمل الاسم نفسه، هي النرجسية الفطرية الرحيمة، “النرجسية المنقذة”، في وجودنا الهش.
بدأ صباحي بفتح نافذة تطل على الخارج (نوافذي الداخلية مفتوحة دوماً سواء في أزمان الزوابع المدَوِّمة أو الطقس العذب، حتى ليُخيَّل إليّ أن لا مصراع لها). أفتح النافذة وتستضيف عيناي ثلاثة غربان تزورني بين فترة وأخرى، الزيارة الأخيرة لها كانت منذ أشهر في يوم ميلادي تحديداً، ألق مخملها الأدهم يتماوج تحت أشعة الشمس، تتقافز وتنعق مرحاً، أشعر كما لو أتت من المجهول لتضمخ نهاري بغبطة داخلية تنتشر في حناياه، من اليقظة إلى النوم، ومن الحلم إلى الحلم.
صنعت قهوتي وبدأت بالكتابة إليك وتكهُّن ما يمكن أن يحمله المجهول لي في جعبته اليوم، جعبة الحاوي. هذا المجهول المباح للخيال والعصيّ على اللمس! أقول “المجهول” وأعرف أنه يسكنني ويحيطني إحاطة “الهاء” المجردة من الأزمان والأمكنة. هو نفسه أرسل إليّ قبل عشرة أيام تحديداً وردة كانت رداً على تساؤلٍ طرحتُه على نفسي. الوردة على طاولتي الآن، جففتها قبل هنيهة الذبول لترافقني بعينها الخفيّة ولتباركني بهشاشتها الرقراقة.
توقفتُ عن الكتابة، كنتِ قد طلبتِ مني أن أكتب بين 800 و900 كلمة، أفهم تماماً الضرورات الصحافية، وها قد وصلت تحديداً إلى 286 كلمة! أتساءل هنا، بالتداعي، فيما لو كان عليَّ أن أقيس البوح مثلاً، فأيّ مقاييس تناسبه؟ عدد الأنفاس أم ارتعاشات نور الخلايا؟ تروق لي تلك الخاطرة، أذهب معها، أقارب بها أنواء النجوم وأقاصي الكون.
أتوقف ثانية، كي أقتات قوتي اليوميّ من الكلمات، متجنِّبة الهدر في الثرثرة، ولكن لديَّ الآن، لحسن الحظ ، مؤونة فائضة، سواء من الكلمات أو من الصمت. وربما أستطيع أن أضرب الرقم القياسي! أتصورك تقولين لي: الصمت غير مناسب هنا. لو طرحتِ عليَّ الكتابة خلال فترة “الحُبْسَة” التي أصابتني قبل أشهر، لما تمكنتُ حتى من خطِّ اسمي.
هيا، أقول لنفسي، كفاكِ هدراً وغياباً عن يومكِ. ولكن أليس في الغياب حضور؟! أتساءل!
فتحتُ جهاز الكومبيوتر للاطمئنان الى أخبار الكون المدهشة. مضت فترة لا بأس بها انقطعتُ خلالها تقريباً عن متابعة أحوالنا الأرضية. أهو هرب من استحالة تحقيق أبسط الآمال البشرية، أم رغبة في التدرّع ضد الأهوال؟ أظن أن شعوري بالعجز فَقَد القدرة على التمدد أكثر. بمعنى آخر، أنه اكتشف حقيقته الإنسانية الفردية ويرفض الدخول في ألاعيب الاهتمام اليائس. اطمئنّي، أخبار الكون لا بأس بها، ولو أنه ما من جديد اليوم، وهو يتابع صيرورته تحت سمت النرد الأول.
أيقظتُ ابني الذي سلّم على غرباني الثلاثة مرحّباً بها، ثم تناولنا أحاديثنا الصباحية مع الفطور. سألني إن تمكنت ليلة أمس من الكتابة في روايتي الثانية، هززتُ له برأسي أن لا، أشار إلى الظرف الزمنيّ، وذكّرني بأني كنت أكتب روايتي السابقة مع الفجر دوماً، وربما عليَّ أن أعود إلى بواكيره كي أتنفس معها. قد يكون على حق! إلا أن الفرق الآن هو اللعب بقوام الآلام هنا، متى عليَّ أن أحيلها شفافة ومتى عليها أن تكون كتيمة؟ وما مقادير الخَفَر الممكنة؟ من المستحيل ممارسة اللهو في خيمياء اللغات وتطبيق قوانين اللعب مع آلام لا تزال طازجة. لا تتملكني الآن أي رغبة في الصراخ وربما أرنو إلى الإيغال في إكسير التأمل والألم والأمل.
أستمع إلى مقطوعة لباخ. هو بالنسبة اليَّ كاتدرائية صوتية تحمي، وفي الوقت نفسه تجعلنا نهاجر خارج أنفسنا وأرواحنا المتعددة. لحظة العودة إلى الواقع مريرة أحياناً، أتأمل الكمّ من الأعمال التي في انتظاري. وعود هنا ومواعيد هناك. معارض هنا وأفلام هناك. جاكومتي المتسامي وأرواحه الممطوطة التي عليَّ أن أزورها. مسرحية “حياة أخرى” قد أعيشها اليوم مساءً. كدسة من الرسائل عليَّ الرد عليها. إتمام بطاقات العام الجديد وقد يمضي ولا أتمّها. تصليح صنبور المياه. إعداد الطعام وأرجو ألا أحرقه اليوم أيضاً. إنهاء ترتيب لوحات صخر وكتاباته وأرشفتها، ولن ينتهي ذلك إلا بعد أكثر من عام على الأقل. إعادة تصنيف الكتب التي تطفح بها رفوفنا المتناثرة في الغرف حتى تكاد تتساقط علينا. كتب أخرى لأصدقاء لم أقرأها بعد. الغواية التي تمارسها عليَّ الفيزياء، والتي علّمتني ذات يوم كيف أحصل على قطع ثلج شفافة كالألماس، وكيف بالتالي أدرك ألغاز الحياة بالشفافية نفسها. انخطافي برمز الـ π الرياضي الذي تنتظرني أسراره. ثم هلام الشعر الذي يحتضنني عند تكاثفه. كان صخر يقول دوماً: “لعائشة عشاق لا أستطيع أن أغار منهم، عشاق يسكنونها… أحدهم الشعر”. كان عيد ميلاده أمس وقد وضعنا له، أنا وابني، في زاوية مرسمه، باقة من أزهار الآنيمون الزرقاء، وأشعلنا له شمعة ذهبية وبخوراً أخضر، شربنا نخبه كأساً من النبيذ الأبيض مع الأصدقاء، وأسمعناه أسطوانة “صلاة للموتى” لغبريال فوريه، كان يحبها ولا يزال على ما أظن.
ها أنذا أصل إلى ما يقارب 777 كلمة. جميل هذا الرقم! أليس كذلك؟ وصلت إليه ولم أتحدث بعد عن طقوس الكتابة، وهي موجودة، بيد أني كررت الحديث عنها كتابياً وشفوياً حتى أصابها الشحوب وبدأت تفقد وهجها الأصيل. لذا سأتركها بسلام في فترة نقاهة قصيرة. لم أتحدث بعد أيضاً عن الشعر، فماذا أقول؟ الشعر لغة نَفْسِه. الكتابة تحمل نسيجها، وكل حديث عنها قد يُجَعْلِكُ سطحها اللؤلئي السائل، يعكر صفاء أعماقها وينتهك وجودها. ألا يكون الصمت صورتها في مرايانا؟ كلُّ توغل لغوي في صورة نَستَحدثها قد يسمم “قُلنسوات” الجذور. وكل شيء يقال هنا قد يُضعف وهج أن نحيا فيها وبها ومن أجلها. فليكن الحب مبدأنا ومنتهانا.
النهار