ادونيس والمعارضة بثقافة الردة
دعا ادونيس الشعوب العربية الى معارضة معارضاتها لانها بحسبه تواجه السلطات الحاكمة بوسائلها والآليات والفكر الذي تستمد منه الاخيرة قوتها واستمرارها .ودون الوقوع في تسويد العام فان الكثير من المعارضات على امتداد الخارطة العربية لم تغادر ابدا الملعب الذي سُطِّرت خطوطه وفق ما يريح السلطة فلم تجازف بمخالفة قوانينه التي تحميها او تغذيها. ان تلك الخطوط والقوانين التي تسند الاستبداد العربي ولم تخاطر المعارضات العربية بتجاوزها او التمرد عليها هي روح التقليد والتوحيد في الثقافة العربية الاسلامية في وجهها السائد.
ان هذه الثقافة تعادي منذ اكثر من 14 قرنا عدا استثناءات قليلة التعدد والتجديد وتقوم على الثبات والتوحيد وهي بذلك ترسي انماطا وقوالب للفكر وتؤسس لحالة جمود في واقعها تجنح به الى الدوران في حلقة مفرغة حول نرجسية تستلذ استعادة انتاج الذات ..ان الثقافة العربية الاسلامية ترتد الى اسس /مصادر عقدية والى تراكم رمزي /عاداتي وترسب تقاليدي والى موروث تاريخي يتسم بتضخيم ‘انانا’ الحضارية ولا يُرى فيها الاخر الا كدوني /ضد ..انها ثقافة تتزاوج فيها اللغة بالمقدس والعادات بالعبادات والتقويم بالرسالة الدينية حتى ليستحيل استبطانها كقناعة ايمانية تقديسها واجب والمحافظة عليها في اشكالها الايقونية مؤكدة والدفاع عن قيمها ومعاييرها لازم.
لا تنظر ثقافتنا الى الجديد /المستجد الا كبدعة او ضلالة وهي بعد سيطرتها على الوجدان العام رغم محاولات اختراق بين حين وحين – تواجه كل تغيير او مسعى في اتجاهه برد قاس ، انفعالي يتجسم في استنكار ديني وعقاب سلطوي واحتقار وامتهان اجتماعيين …انها توهم بان حالة الجمود حالة مثلى تؤمن السلام النفسي والطمأنينة في تضاد صارخ لحقيقة علمية تحكم الطبيعة هي ‘حالة التحول والتغير’.
ترفض ثقافتنا التعدد والاختلاف وتحرص على تأمين وحدة الجماعة تحت سقف الحكم الواحد والدين الواحد والفكر الواحد واللغة الواحدة و…و..و..ولان الشورى مثلا تتطلب تنوعا في الرأي واختلافا فالثقافة فكرا وممارسة تهملها وتبقيها شعارا ممنوع التطبيق منذ سقيفة بني ساعدة الى حين الساعة ..ويخضع الفكر الى اسر اللغة حيث لا مكان له خارجها ..تخضع اللغة الى اسر الدين ..والدين اسير النص ..وفهم النص اسير قولٍ سلف من الفقهاء ،فقهاء الحكم والسلطان ويخضع الحكم الى اسر المُلك والملك اسير الغلبة او ‘العصبية’ حيث لا مكان للشورى ولا للتداول السلمي على السلطة ولا للاختلاف ..حيث فقط الرضوخ والطاعة والخنوع ..دائرة مغلقة تولد تابيدا في الحكم وتقليدا في اللغة وانغلاقا في الدين و..وعيا قطيعيا وطاعة عمياء بين الناس.
يقف القطيع المؤمن بثقافة الثبات /الجمود خط صدٍّ دائم لكل فعل او فكر او سلوك يستهدف خلخلة واقع الحال ويستنفر قواه لتتجند في مواجهة الخطر المهدد مستدعيا تجذر ثقافته في مشاعر جموعه وفي رومنسية دراماتيكية يتم تصوير فعل التغيير رفضا لمجموع الرموز والبنى والعلاقات المشكلة للهوية الثقافية ولان العقل في المنطقة العربية لايزال قبعلميا (قبل علمي) ولا يعتمد النقد المنهجي والتحليل او التفكيك وتفسير الظواهر اعتمادا على التجربة فانه في النهاية يخضع لتأثير دعاوة (بروباغندا)الثقافة القائمة ثقافة الاستكانة الى حالة الثبات ..
تحفظ السلطة ذاتها عندما تؤمم الثقافة وتدعي حمايتها والوصاية على رموزها ..انها تؤمم القطيع اذ تنتصب حامية لثقافة تأسره .. السلطة تعيش باستبدادها في عناوين المحافظة والتأصيل حيث يستحيل التنميط والاتباع حدود الفعل القصوى ويصبح التمسك بانساق العلاقات القائمة والدفاع عن معايير القيم والاخلاق السائدة بنية محكمة الاغلاق واجبة الحفظ.ان ثقافة الثبات/الجمود هي العائق الابستيمولوجي المسؤول عن فشل كل محاولات الاصلاح وان اي دعوة الى كسر قيودها رغم انها تفتح ابواب جحيم لا احد يعرف حجمه ومداه فانها العمل الذي يجب البدء به .. وهو ما يجب على المعارضات العربية ان تسلك نهجه..
لابد للمعارضات العربية ان تتخلص من منطق الحساب وفق الربح والخسارة – وهي خاسرة ابدا وفق لعبة تجبر على خوضها دون المشاركة في وضع قوانينها على هذه المعارضات ان تعدِّل بوصلتها في اتجاه ان يكون هدفها تحقيق ثقافة ارضيتها حداثية تفهم العالم فهما علميا وتفسر الظواهر وفق قانون التجربة وان تكون غايتها تحرير الانسان من كل اشكال الاستعباد والاعلاء من قيمته واعتباره غاية الغايات وارساء فصل واضح وتام بين الدين والدولة حتى يفقد الحاكم المستبد غطاء دينيا أظله طويلا وحتى يتحرر الدين من سجن رؤية الحاكم وتفسيره الاوحد له وحتى تكون الحجة الاكثر عقلانية هي الاجدى بالاتباع لا الحجة الاكثر قوة وغباء..على ثقافة هذه المعارضات ان تعمل في جلاء واضح من اجل مراجعة شاملة لمعاني قيمة الشرف والقطع مع حصرها في المعنى العضوي المتداول وسحبها على كل اشكال مواجهة الاستكبار والاستبداد والظلم واستبدال النظر الى المراة كموضوع للشهوة وللاطفال كعبيد.. ولا بد للغة ان تستحيل اكثر يسرا وتحررا واقل قداسة وتنميطا واعاقة للتفكير ..باختصار شديد لابد من البدء باحداث التغيير الثقافي ولو كان مؤلما لان الثقافة الحالية عاجزة عن الحاقنا بركب من تقدموا ومصرة على استبقائنا في حالة استعباد لم نعد لنقبل بها.
الهادي خليفي
القدس العربي