صبحي حديديصفحات سورية

يهود الغرب في إسرائيل: مظاريف النقود أم صحائف التلمود؟

null

صبحي حديدي

موريس (موشيه) تالانسكي، رجل الأعمال اليهودي الأمريكي وبطل قضية المظاريف ، كما صارت الصحافة الإسرائيلية تسمّي التحقيقات القضائية مع رئيس الوزراء إيهود أولمرت حول قبول الرشي أو تبييض الأموال أو خيانة الثقة العامة، هو أحدث النماذج في طراز فريد وخاصّ تماماً من المواطنة. إنه اليهودي المقيم خارج إسرائيل، في الغرب عموماً، ولكن المنحاز إلي إسرائيل أكثر من مواطنيها، حامل الجنسية الإسرائيلية استناداً إلي ديانته فقط، الذي يولي إسرائيل ذلك الانحياز الأعمي الذي يجوز فيه الوصف الشائع: من الحبّ ما قتل.

وتالانسكي (75 سنة)، إلي جانب شخصية رجل الأعمال المليونير، حاخام ومتدين متشدّد، وليكودي يميني، ومستثمر بارز في إسرائيل، ومساند مالي للعديد من الساسة الإسرائيليين، وشريك أولمرت في صندوق القدس الجديدة ، المؤسسة الهادفة إلي تشجيع وتمويل الإستيطان في القدس المحتلة. عشقه لإسرائيل، وهو خليط من غرام مشبوب بالمال وبالتلمود معاً، لم يمنعه من المراهنة علي أولمرت منذ أن كان الأخير عضواً في الكنيست لا يتجاوز سنّ الـ 28؛ قبل أن يصبح عمدة القدس، ويتقلّب بين أجنحة الليكود حتي اجتذبه أرييل شارون إلي حزبه الجديد، كاديما، ثم ضمّه إلي وزارته، وكانت آخر قراراته قبيل الغيبوبة هي تسمية أولمرت نائباً أوّل له.

ولقد برهنت الأيام أنّ أولمرت، مثل ريشارد الثالث في مسرحية وليام شكسبير، مستعدّ لمقايضة مملكته كلّها مقابل حصان، أو ـ في تعبير المؤرّخ الإسرائيلي البارز توم سيغيف ـ مقابل تبليط المطبخ من هذا، أو قبول أريكة أمريكية من ذاك، أو… 150 ألف دولار من تالانسكي علي مدي 15 سنة، أي بمعدّل 833 دولاراً في الشهر! لهذا لم يجد تالانسكي حرجاً في سرد تفاصيل مثيرة، طيلة ثماني ساعات من الإستجواب، حول طرائق صرف أولمرت للأموال التي كان تالانسكي يحملها إليه علي سبيل التبرّع، كما زعم: سياحة عائلية فارهة، فنادق فخمة، مع إصرار دائم علي أن تكون الأموال نقداً في مظاريف، وليس شيكات أو تحويلات مصرفية من أيّ نوع. وإذْ حرص تالانسكي علي أن تكون الصلاة عند حائط المبكي هي آخر ما فعله قبل صعود الطائرة التي ستعيده إلي نيويورك، فإنّ حرصه لم يكن أقلّ وضوحاً في التشديد علي أنّ إسرائيل بلده وموطن روحه، وأنّ المضايقات القضائية أو الإعلامية لن تثنيه عن العودة إليها مجدداً، ودائماً: عرس حفيده الشهر القادم، ولسوف يكون هنا، علي رأس المحتفلين. والأرجح، من جانب آخر، أنّ نصائح محاميه، وليس أيّ طراز من التهذيب أو الحياء، هي التي جعلته هذه المرّة يمسك لسانه في ما اعتاد علي إطلاقه من شتائم مقذعة بحقّ الفلسطينيين، وفي الدفاع عن حقّ الإستيطان وقدسية تمويل المستوطنات.

النموذج الثاني في هذا الطراز الفريد من الإنتماء ليس رجل أعمال ـ حاخام أمريكي، بل هو نقيضه علي نحو ما، إذا جاز افتراض النقائض هنا: المغنّي الفرنسي اليهودي، الجزائري الأصل، إنريكو ماسياس، المقيم هذه الأيام في القدس للمشاركة باحتفالات الذكري الستين لإقامة إسرائيل، والذي يؤدّي النشيد الوطني الإسرائيلي بصوته، بالعبرية. وممّا له دلالة خاصة أنّ هذه ستكون أحدث وصلات ماسياس الغنائية ذات الطابع السياسي، وقبلها مباشرة كان الحفل الذي أقامه في مدينة ديجون الفرنسية، قبل سنة من الآن، علي شرف نيكولا ساركوزي، المرشّح آنذاك للرئاسة الفرنسية.

وذات يوم غير بعيد سار ماسياس في تظاهرة يهودية جابت شوارع العاصمة الفرنسية باريس، ومُنحت الإذن الإستثنائي بالمرور في جادة الشانزيليزيه الأشهر، تعبيراً عن مساندة أبناء الشتات لإسرائيل، وضدّ ما اعتبره المتظاهرون تشويهاً لسمعتها عن طريق الإستغلال الإعلامي لـ حادثة قتل الفتي الفلسطيني محمد الدرّة. اللافتات كانت تقول، علي سبيل الأمثلة فقط: عرفات قاتل! ، كلّنا صهاينة! ، سوف نتذكّر يا شيراك! ، و الأطفال في سنّ الثانية عشرة يذهبون إلي المدرسة وليس إلي الجبهة . بالطبع، كانت اللافتة ما قبل الأخيرة تستهدف ابتزاز جاك شيراك، الرئيس الفرنسي آنذاك؛ وكانت اللافتة الأخيرة تغسل يد جيش الإحتلال الإسرائيلي من دم الدرّة.

صحيفة لوموند بدأت تغطيتها لتلك التظاهرة بالعبارة التالية: نادرة هي المناسبات التي تدفع يهود فرنسا المتدينين والعلمانيين إلي التظاهر جنباً إلي جنب . وبالفعل، كان كلود لولوش (النائب اليميني، ولكن العلماني جداً حسب توصيفه لنفسه)، يتظاهر بالأصالة عن نفسه كمواطن فرنسي يهودي، وليس بالنيابة عن حزبه (أي حزب شيراك!)؛ وكذلك كان باتريك برويل، المغنّي الفرنسي المفرط في طراز بوهيمي من العلمانية ؛ وكان المتدينون، المعتدلون منهم والغلاة؛ وكان ممثلو جميع المنظمات الصهيونية الفرنسية والإسرائيلية، وعلي رأسهم رجال الليكود الذين منعوا رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية، الـ CRIF، من إلقاء كلمته لأنه، ذات يوم، صافح الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.

تلك كانت، إذاً، واحدة من المناسبات النادرة التي لا توحّد الصفّ اليهودي فحسب، بل تدفع العلماني إلي الهرولة خلف المتديّن في اعتناق عقدة الضحية (من جديد! دائماً!)، والجأر بالشكوي من اتحاد العالم بأسره ضدّ إسرائيل وبني إسرائيل. النغم السائد في فرنسا تلك الأيّام لم يكن انحياز شيراك إلي الصفّ الفلسطيني فقط، بل أيضاً إنحياز الإعلام الفرنسي ومشاركته في تشويه صورة إسرائيل و جيش الدفاع الإسرائيلي بصفة خاصة. وصاحبنا ماسياس لم يكتف بإشعال الحمّية، والحمّي، في نفوس المتظاهرين اليهود حين غنّي يوراشاليم ، بل تابع الحملة ضدّ وسائل الإعلام الفرنسية، وأعلن علي الملأ أنه اليوم ليس مستعداً لمشاهدة أية قناة تلفزة أخري سوي الـCNN.

المدهش، مع ذلك، أنّ هذا اليهودي الجديد ، كما يحلو لبعض المؤرخين الجدد الإسرائيليين أن يسمّوه، البعيد المقيم في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، أو في الشتات كما يقول متظاهرون من أمثال ماسياس، هو الأشدّ حماساً لطمس الحقائق البسيطة التي لا يمكن أن يتجاهلها، فكيف بتشويه مضامينها، أيّ إعلام حرّ في أيّ نظام ديمقراطي. فإذا اضطرّ بعض الإعلام إلي سرد بعض المعطيات البصرية الخام (كما في مشهد اغتيال الدرة مثلاً)، فإنّ أمثال ماسياس يسارعون إلي مهاجمة ذلك البعض بشراسة قصوي، سواء عن طريق رفع الدعاوي القضائية (كما في الشكوي ضدّ شارل أندرلان، مراسل القناة الفرنسية الثانية، بسبب تقريره عن اغتيال الدرّة)، أو التأثيم والتشهير (كما حين أقدمت رابطة الدفاع عن اليهود في أمريكا علي منح أندرلان، نفسه، جائزة غوبلز لتحريف الحقائق عن سنة 2000).

إنه اليهودي المتحرّر من كلّ عبء سياسي أو دبلوماسي أو حقوقي، ولهذا فهو يتناسي تماماً ـ وبصورة وقحة لا تخلو من أنفة أكثر وقاحة ـ أنّ مشكلة إسرائيل مع الفلسطينيين هي مسائل احتلال عسكري استيطاني عنصري، قبل أن تكون ملفات ارتطام لاهوتي أو أسطوري أو ثقافي أو تاريخي. وهو اليهودي الذي يعجز تماماً عن إقامة الصلة بين حشر اليهود الأبرياء العزّل في أوشفتز النازية، أو في خنادق البلطيق وسالونيكا وتريبلنكا، وبين حشر الفلسطينيين الأبرياء العزّل في شوارع غزّة ورام الله ونابلس والخليل تحت رحمة الدبابات والراجمات وطائرات الـ أباشي . وحين يسير ماسياس في تظاهرة تقول: كلّنا صهاينة ، ألا يعني هذا أنه من طينة الصهيوني قاتل الدرّة، وآلاف الاطفال الفلسطينيين بدم بارد، وبعشوائية بربرية؟

ذلك لا يعني البتة أنه لا يوجد يهود من طينة أخري، لا تبلغ شأو ضمائر كبيرة يحملها أمثال نوام شومسكي ونورمان فنلكشتاين وجيزيل حليمي بالطبع، ولكنها مع ذلك تستبصر الكثير من الأخطار التي سوف تصيب يهود العالم، ليس علي يد العرب هذه المرّة، بل بسبب سياسات الإسرائيلية ذاتها. ولعلّ المثال الكلاسيكي، لكي نبقي في فرنسا، كان ذلك النصّ اللافت الذي نشرته صحيفة لوموند قبل سنوات، تحت عنوان نداء استغاثة SOS، أطلقه خمسة من أبرز المفكرين والصحافيين الفرنسيين اليهود، ضدّ السياسات الإسرائيلية في الاستيطان والحصار والاغتيال وتعطيل المفاوضات من جهة؛ وضدّ مواقف الـ CRIF، من جهة ثانية.

الموقعون علي تلك الإستغاثة كانوا جاك ديروجي (أحد كبار أساتذة التحقيق الصحافي)، جان ليبرمان، والطبيب النفسي المعروف جاك حسون، والمؤرخ دانييل لندنبرغ، والأكاديمي البارز المختص بالعلاقة بين التاريخ والذاكرة بيير فيدال ناكيه. ونداء الاستغاثة كان الثاني من نوعه في الواقع، إذ سبق لهؤلاء أن وقعوا مقالاً لا يقلّ سخونة علي صفحات لوموند ، طالبوا فيه يهود فرنسا باتخاذ مسافة نقدية كافية وصريحة ضد سياسات نتنياهو الإنتحارية . في عرقلة المفاوضات، والتهرّب من تنفيذ التعهدات والاتفاقات، واستئناف بناء المستوطنات في جبل أبو غنيم. وفي ذلك المقال سجّل الخمسة سلسلة احتجاجات علي موقف الـ CRIF المؤيد لسياسات نتنياهو، أو الساكت عنها بما يفضي إلي التواطؤ معها.

لكنّ هذا المقال الثاني احتوي علي تفصيل جديد، اتخذ صيغة نداء استغاثة بدوره، جاء هذه المرة من السيدة ليا رابين أرملة إسحق رابين، في شكل رسالة مفتوحة إلي الخمسة، بدأت بهذه العبارة الدراماتيكية: اصمدوا جيداً، نحن بحاجة إليكم ! اصمدوا، ضدّ مَن؟ ومَنْ الذي يحتاج إلي خمسة مثقفين فرنسيين يهود؟ اصمدوا ضدّ أقلية اسرائيلية تحكم الدولة العبرية اليوم بمنطق العنف والعدوان، قالت أرملة رابين. اصمدوا هناك لأنكم تساعدوننا هناك، وتساعدوننا هنا أيضاً! وفي مقطع آخر، مفاجيء، كتبت رابين: كما تعرفون، أصغت اسرائيل إلي صوت أقلية عنيفة عدوانية، في حين أنّ صوت الأغلبية ـ ولأسباب لا أعرفها ـ يظل صامتاً اليوم (…) وهكذا أردت أن أقول لكم إن المهمة التي تتولونها مقدسة، وأنكم تستحقون العرفان والإعجاب والتشجيع، من جانبي مثلما من جانب الأغلبية الصامتة .

وثمة، هنا، أرضية إيديولوجية متكاملة تواصل استيلاد تلك العلاقة الاستقطابية المحمومة الناجمة عن هيمنة الديانة (في شكلها المتشدد تحديداً) علي السياسة العامة أو السياسات اليومية في إسرائيل الدولة، وما تخلقه من احتقان حادّ بين راديكالية دينية متشددة ومعادية للصهيونية (بوصف الأخيرة حركة قومية علمانية ، علي نحو أو آخر)، وتيارات صهيونية وما بعد ـ صهيونية آخذة في الاتساع والتشعب والتناقض أو التطابق. أين الأقلية التي تخيّلتها السيدة رابين، وأين الأغلبية؟ أين علاقات القوّة في المشهد الراهن، وهل يتحرّك أم يتجمد بين انتخابات وأخري؟ وأين المجتمع من هذين الإنقسامين؟

إنها الأسئلة التي انبثقت وستظل تنبثق من واقع ذلك الإستقطاب الذي يهدد الوجود السياسي والمؤسساتي لإسرائيل الدولة، ويهدد الوجود الاجتماعي والمجتمعي، بل و… الإثنولوجي أيضاً! ألم يكن هذا التهديد الثالث هو حجر الأساس في العقيدة الكاهانية التي تدعو إلي مجابهة شاملة لا تبقي ولا تذر مع اليهود الهيللينيين ، أولئك الذين نقلوا الثقافة الغربية إلي التوراة، وجلبوا أوبئة الليبرالية والإشتراكية والرأسمالية؟ وكيف كان الحاخام مئير كاهانا سيصنّف رجل الأعمال ـ الحاخام موريس (موشيه) تالانسكي، ناقل مظاريف النقود قبل صحائف التلمود؟ وهل كان سيري في صلاة تالانسكي عند حائط المبكي، هرطقة يهودي فاسد أفسد الساسة، أم استغفار يهودي طيّب يحمل الأموال إلي الهيكل؟

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى