أوهام النخب…!؟
جهاد نصره
يستمر السجال في أوساط النخب حول ركون وثبات المجتمعات العربية غير أن هذا العقم المزمن يبدو اليوم نشازا الأمر الذي يستوجب الذهاب في محاولة لفك طلاسمه فالبيئة العالمية تشهد أنماطاً متعددة من الحراك المجتمعي متعدد الأشكال..! هكذا يبدو الحال مثلاًً فيما يتعلق بنبتة الحرية فبعد قرون من هيمنة ثقافة الراعي والرعية المرتكزة إلى النص ( المقدس ) لا يلوح في الأفق ما يدفع إلى الأمل حتى بدا المشهد وكأن تربة المجتمعات العربية التي احتكرت الديانات السماوية الثلاث لا تصلح لغير نمو النباتات الدينية فكيف وقد تعززت بالسماد الوهابي..؟ لقد ظلَّت نبتة الإسلام طوال قرون مروية بضوابط فقهية صارمة و محروسة بضوابط الاستبداد السلطاني المتوارث وهو الأمر الذي يفسِّر بقاء المجتمعات العربية في الزمن الراهن راكدة بل مغرقة في ركودها بالرغم من كل الانتفاضات الملونة التي شهدتها قارات العالم.! وهكذا مثلما فشل دعاة الشيوعية سابقاً فولى زمنهم هاهم العلمانيون الديمقراطيون يصارعون الخيبة في مجتمعاتهم بعد أن ظهروا في بيئتهم كما الأشواك السامة هذه البيئة التي يتفاقم ارتهانها للمقدس وخرافاته فهي لا تزال تشهد تمدد مطرد لثقافة المسجد التي تتوارثها الرعية من يوم وضع ( معاوية ) الأسس الراسخة لبنيان الدولة الثيوقراطية فصارت كما الوباء الذي لا يفيد معه أي دواء..!؟ إن دعاة الحرية والعدالة والمواطنة مدعوون على نحوٍ دائم
إلى دراسة التجربة العراقية بتمعن ومن ثمَّ مراجعة محاور وقضايا وأوليات سجالاتهم ونتاجاتهم الفكرية والسياسية التي بدت حتى الآن عقيمة إزاء الوقائع الحية على الأرض التي يقيم عليها ما يزيد عن سبعين مليون فقير وتحت خط الفقر ومثلهم من العاطلين عن العمل وهم بالرغم من أوضاعهم المذرية هذه لا زالوا أسرى ثقافة الرعاة والمشايخ والتنظيمات الدينية..!؟ لقد كشف المشهد العراقي بجلاء تام عن مدى حجم المخاطر التي ستتولَّد عن فعل الحرية الطارئ بما يعني أن فعل الحرية هذا يبدو وكأنه يشترط لنجاح المسعى بأقل ما يمكن من الصراعات المذهبية والأثنية التحوّط مسبقاً وامتلاك المقدرة المتيقظة من أجل التمكن من ضبط البيئة التي ستندلق أحشاءها العفنة كما اندلقت على أرض العراق بكل صور التخلف المريع والبشاعة المعروفة..! إنه لمن دواعي العجب والتساؤل أن لا يتوفر في نخب البلدان العربية سوى أقلية محدودة أدركت ضرورة بل حتمية الإقدام الجسور والعمل الجريء في ميدان المقارعة والصراع المعرفي الثقافي من أجل اختراق أو تصديع البنى الثقافية المهيمنة لقرون عديدة بدلاً من مسايرتها والتكِّيف معها كما تفعل غالبية هذه النخب الأمر الذي يشي بأنه وعلى عكس ما يحدث من حراك في سياقات تطلّب الحرية والمعاصرة في المجتمعات الأخرى سيكون فعل الحرية في المجتمعات العربية الإسلامية مرتهنٌ لعوامل العنف المذهبي والطائفي والإثني وصولاً إلى العائلي والشوارعي وهذا ما أكدته الانتخابات التشريعية التي جرت في العراق الجديد مؤخراً بحيث بدا واضحاً أن مجرى سياق تطلّب الحرية صبَّ بعد مخاض استمر سبع سنين في دائرة إنعاش وتكريس وتأصيل الخريطة المذهبية الطائفية العرقية…!؟
في مملكة البحرين مثلاً ظهر للعيان كم هي سطوة الثقافة الفقهية السائدة حين رضخت حكومتها قبل أيام بالإكراه وتحت ضغط التحركات المذهبية في الشارع فأصدرت نصف قانون أحكام الأسرة الذي تعمل عليه منذ ثلاثين عاماً ليشمل السنة فقط وأجَّلت نصفه الأخر المتعلق بالشيعة إلى حين موافقة المرجعية الشيعية التي لها اشتراطات معينة..!؟ وفي سورية رعت حكومة البعث الذي يدعي قرابةً مع العلمانية مشروعاً لقانون الأحوال الشخصية يظن المرء أن اللجنة التي صاغته لا تزال تعيش قي ظلِّ الخلافة الإسلامية غير الراشدة وفي المقابل يحار المرء وهو يرى خطاب بعض النخبويين من السوريين المعارضين المحسوبين على الحداثة والعقلنة بعد نجاحهم في الابتعاد عن البلد وعن سطوة الأجهزة القمعية فيها كيف انحدر خطابهم إلى مستنقع المذهبية فصارت لغتهم طائفية تخلط الحابل بالنابل وتحاكي ثقافة التحشيد المذهبي الطائفي الذي تمارسه التنظيمات الأصولية بكل صفاقة..!؟ وهكذا هو حال معظم المجتمعات العربية الإسلامية فكيف للنخب المتنورة فعلاً لا قولاً أن تتجاهل حقائق حياة مجتمعاتها فتبدو في انشغالاتها ونتاجاتها وسجالاتها كمن يجبن أو يتهرب من مقاربة أساس وجوهر القضية المعضلة ..!؟
إن الحصاد في مثل هذه الأحوال من السياقات سيبقى لا محالة أوهاماً بأوهام…!؟
خاص – صفحات سورية –