فـي ضــرورة الفكــرة الجامعــة لنهضتنــا!
ميشيل كيلو
لم يسبق أن نهضت أمة أو جماعة قديمة أو حديثة دون فكرة أو أفكار جامعة، تجددها من الداخل، روحياً وفكرياً، وتوحد طاقاتها وتزود مكوناتها بكل ما لديها من قدرات فاعلة، وتحدد اتجاهاتها المادية والمعنوية، وتعيد تعريفها وموضعتها من زمانها، وتقنع من ينتمون إليها بضرورة العمل على تغيير أنفسهم وواقعهم بما يتفق وتحققها.
لو تأملنا التاريخ، لوجدنا أن الدين كان في مراحل مهمة هو الفكرة الجامعة، التي نهضت بجماعات معينة من سباتها، وأمدّتها برؤية جديدة للحياة غدت رأسمالها الرمزي، الضروري لقيامها بدور جديد، والعامل الذي أوقف أو منع تفككها أو انهيارها، حين داهمتها الأخطار، ونشأت في جواهرها أو ضمن حاضنتها قوى بديلة، أو تدفق عليها أعداء أغراهم بها ما حققته من تقدم وازدهار. قبل الإسلام، كان العرب أشتات قبائل متنافسة متحاربة، تفتقر إلى فكرة جامعة توحدها، تجعلها تتخطى عقلياً وسلوكياً ضيق القبلية وطابعها التشتيتي / التمزيقي. ومع أن الغزو الفارسي المتكرر للجزيرة الغربية أدى في بعض اللحظات إلى وحدة موقف بين القبائل التي هبت لمواجهته، فإن هذه الوحدة لم تعبر عن بروز فكرة جامعة ولم تفض إلى تبلورها، لذلك كانت تتلاشى بانتهاء الخطر الخارجي، الذي هدد القبائل فضمت صفوفها لصده، دون أن تنتقل إلى ما يتجاوز ذلك: إلى تخطي ما يفصلها بعضها عن بعض: أولية كل واحدة منها بالنسبة إلى المنتمين إليها، وضرورة حمايتها من القبائل المجاورة، التي ما إن زال الخطر الخارجي حتى عادت إلى التبعثر والاقتتال.
جاء الإسلام كفكرة جامعة مكّنت القبائل من تخطي حالة التمزق القاتلة، عندما نقل مركز الجماعة القبلية العربية من الأرض إلى السماء، وجعل علاقات الفرد لا تتعين بقبيلته بل بدينه كفكرة جامعة وموحدة، تساوي جميع الأفراد أمام منظومة معايير أخلاقية وسلوكية جديدة، حلت محل المعايير القبلية، التي فرّقتهم ووضعتهم في مواجهة دائمة بعضهم مع بعض، ونقلت مكان السلطة والإدارة من شيخ القبيلة إلى صاحب الدولة، الخليفة الراشد ثم الملك (بعد استيلاء بنو أمية على السلطة والدولة). بذلك أتت الفكرة الجامعة بانقلاب طاول ثلاثة مجالات مقررة: علاقة الفرد بحقله الروحي، وعلاقته بحقله المجتمعي، وعلاقته بحقله السياسي، وأحلت، في المحصلة النهائية، هوية عليا، جامعة، يمكن أن يعاد في ضوئها تعريف وتعيين مختلف جوانب وجودهم، محل هوية قبلية، دنيا وجزئية، تمزيقية وكابحة للتطور، هي في حقيقتها ضد هوية. بهذا، كان الإسلام الفكرة الجامعة التي أدخلت العرب إلى وضع جديد لم يسبق لهم أن عرفوا أي مكون من مكوناته، لذلك، ما إن اعتنقوه حتى قلب وجودهم رأساً على عقب، ورفعه إلى مستويات لم يألفوها أو يفكروا بإمكانية حدوثها، فكان تعلقهم الفريد به كفكرة جامعة تعبيرهم عن إيجابية موقفهم ونهائيته حيال هذا الجديد، الذي بدل حياتهم ـ جملة وتفصيلا ـ ووضعهم في مركز العالم، ومكنهم من امتلاك الأدوات والقوى القادرة على تغييره، لمصلحته ولمصلحتهم.
لأسباب كثيرة، لن أعرج عليها في هذه العجالة، حدثت قطيعة، أو وقع توتر بين هذه الهوية الجامعة وتوسطاتها الواقعية، في المجتمع والدولة. كما أصابها تبدل غيّر بعض معانيها وطرق قراءتها وتأثيرها، ووظيفة حملتها، الذين انتموا إلى الإدارة المدنية والدينية والعسكرية. وفيما تراجع دور الأولى نتيجة التمزق السياسي وتناقضات الأقوام الداخلة في دولة الخلاقة، ونشوب صراع خاضته بضراوة للاستيلاء على مركز القرار والغنيمة في دولة المركز، تبدلت طبيعة المؤسسة الدينية، التي كانت قد عجزت عن تطوير قراءة قادرة على جسر الهوة بين الأقوام، وانخرطت أكثر فأكثر في صراعات مذهبية، بعدما جمدت الفكر الديني عند قراءة معينة، أغلقت معها باب التأمل والاجتهاد، بينما وقعت المؤسسة العسكرية في أيدي أقليات غير عربية، أحدث استيلاؤها عليها تغيراً جذرياً في علاقة المؤسستين السابقتين بالعسكر، أفضى إلى تحويل أولاهما إلى أداة في يدهم، وجعل ثانيتهما تقبل بخدمة الحاكم، مهما كان ظالماً، كي لا تقع فتن هي أفظع ما يمكن أن يقوض وحدة الجماعة الإسلامية: الحامل الحقيقي للدين بوصفه فكرة الأمة الجامعة، التي أبقتها موحدة رغم تمزق نخبها الحاكمة والدينية والعسكرية، وأدت وحدتها إلى بلورة رد ناجح على حملات الفرنجة والتتار والمغول ضد دار الإسلام، أنقذ فكرة الإسلام الجامعة للمسلمين، ومكن صلاح الدين الأيوبي من الانتصار، بمجرد أن أوقف تمزق النخب، ووحد السلطة والدولة على أرضية الجماعة الإسلامية، الموحدة.
في منتصف القرن الماضي، برزت القومية كفكرة جامعة تبناها عرب عصرنا، بعدما أخفق الرد الإسلامي خلال القرن السابق في منع سقوط مناطق واسعة من العالم الإسلامي تحت الاستعمار الأوروبي. صحيح أن هذه الفكرة لا ترقى إلى نمط الفكرة الدينية ومستواها وفاعليتها، إلا أنها بدت مكملة لها، وأنها تعيد إنتاجها في إطار حاضنة جديدة تناسب العصر وتتفق مع تطوره، حتى آمن كثيرون بأنها دين العرب القديم في حلة جديدة، أو أنها تجدد دينهم بأدوات وأفكار مبتكرة، فتجمعوا حولها واحتضنوها، وعملوا لتحقيق ما يترتب عليها في السياسة والمجتمع. وحين تحققت وحدة مصر وسوريا، وتم حصار الأفكار غير الجامعة، وخاصة منها الفكرة القطرية، بدا كأن التاريخ يعيد نفسه، وأن التجزئة بما هي نزعة تحول الدولة القطرية إلى ضرب من قبيلة جديدة، تلفظ أنفاسها الأخيرة، لذلك، يسير العرب نحو اكتساب هوية عليا، توحيدية وباعثة على التقدم والتطور، ستهبهم إياها دولتهم الكبرى، الوشيكة القيام، التي سيعني قيامها مغادرة عصرهم المأساوي المديد، الذي بدأ في القرن العاشر الميلادي.
لن أعرج على موضوع فائق الأهمية، يتصل بأسباب فشل الفكرة القومية كفكرة جامعة، ويستحق دراسات تفصيلية تنطلق من المنظار، الذي أرى التطور العربي بدلالته وفي ضوئه: منظار الفكرة الجامعة وأثرها في واقع الجماعة العربية. أريد الآن التأكيد على أن فشل الفكرة القومية كهوية عليا وجامعة جديدة، وإخفاق ما أنتجته من رهانات قومية بهدف إزالة ما في واقع الأمة من تجزئة، واستبداله بواقع جديد تتطابق فيه كينونتها المباشرة، بنيتها التحتية، مع تعبيرها السياسي، بنيتها الفوقية المتمثلة في دولتها الواحدة، قد أنتج فراغا عجزت الهويات الفرعية، القطرية، عن ملئه، وأحدث أزمة هوية عميقة في وعي العرب الشقي، طاولت الوطن العربي، زاد من تفاقمها الـ«ضد هويات» فرعية، التي تم ابتكارها في كل قطر، وعبرت عنها شعارات تم تعميمها في كل مكان تقول «بلادي أولا»، أو «وطني دائما على حق»، لا تعدو أن تكون في الحقيقة نوعا من قبلية حديثة، تحميها هذه المرة روحية كانت ذميمة ثم انقلبت بقدرة الفراغ الأموي والقوة القهرية إلى وطنية جعلت قطرها هو فكرتها الجامعة، التي أنتجت قبائل عربية جديدة يجسدها الطابع الراهن للدول القطرية، اعتبرها كيسنجر في تصريحات عديدة قبائل قال إن دول العرب ستنحط إليها، بمجرد أن يتم السلام بين مصر وإسرائيل، ويقوم واقع العرب على عنصرين مهمين في كل حياة قبلية هما: الخيمة والسوق، حيث يستقبلك شيخ القبيلة في الخيمة ويساومك على كل كبيرة وصغيرة، شأن البدو في السوق.
من وعد الامتلاء عبر الفكرة القومية الجامعة، حاملة هوية العرب العليا والجديدة، إلى واقع الفراغ والتشتت الفكري، وانتصار «الهويات الضد»، يعيش العرب أزمة على قدر عظيم من الخطورة.
يملي ما سبق قوله استنتاجات ضرورية هنا بعضها:
ـ ليس فعل الفكرة الجامعة وتأثيرها مستقلين عن حملتها من البشر. عندما تقوم هوة بين الفكرة الجامعة وواقع الجماعة، يصيب تراجع مأزقي الواقع، وتنشأ، فضلا عن ذلك، أزمة هوية تتوقف ضراوتها على حجم وطابع الهوة بين الفكرة والواقع، ودرجة مقاومتها لتحدياته وقدرتها على إيجاد حلول لمشكلاته، مع البقاء فكرة موحدة وموجهة، بالنسبة لحملتها، الذين يشكلون أغلبية أمة أو شعب، بقي أن الفكرة الجامعة هي فكرة لا خلاف عليها، إلا في أضيق الحدود.
ـ بتراجع الفكرة القومية كفكرة جامعة، برزت مع فشل الفكرة الإسلامية الجامعة في صد الزحف الغربي، صار تراجع الفكرة الثانية وتلاشيها خطراً جدياً يهدد وجود الأمة الخام، الموضوعي، غير السياسي، ويضعف أو يقوض استعدادها الروحي لمقاومة الموت، خاصة بعد أن وهنت وتلاشت الفكرة الاشتراكية كفكرة جامعة، بزوال المعسكر السوفياتي ودوله ونظامه. بالمناسبة، إن أحد أسباب ضمور الطابع الجامع والموحد في الفكرة القومية ووهنه يعود إلى إيمان بعض أصحابها بوجود تناقض لا يمكن جسره بين الفكرة الدينية والفكرتين القومية والاشتراكية، وإلى تـــصنيف سطحي رأى في الدين ماضياً لا بد أن يحرر العرب أنفسهم منه، وفي القـــومية حاضر البشرية، بينما الاشـــتراكية مستقبلها. وقال بضـــرورة أن يجب الحاضر والمستقبل الماضي، فكان إيمانه وما ترتب عليه من سلوك عملي سبباً إضافياً لأزمة الهوية العليا، التي نغرق فيها منذ قرابة ثلاثين عاما، وتتيــح لمن انحدروا بالمحمدية إلى ضــرب من قبلية هي أســـوأ ما تحـــدت النزعة القبـــلية الإسلام به، فليس مستــــبعداً، إن بقينا على ما نحن عليـــه، أن تقوّض ما بقـــي من الإسلام كفكرة جامعة وموحدة، وهو بصراحة قليل.
ـ تتوطد أزمة الهوية وتتضاعف، بمقدار ما تترك حاملها نهب فراغين: روحي / فكري، وعملي / إجرائي، وبمقدار ما توالت عليه أفكار بدت جامعة، لكنها فشلت في إخراجه من وضع تاريخي وواقعي يحتجزه، وفي إمداده بطاقة روحية / فكرية تجدد عمليا عزيمته وإرادته، وتضعه على طريق تتكفل بتحويله إلى حامل مشروع تحرره: موضوعياً كان هذا أم ذاتياً. عندما تصل الأمور إلى هذا الدرك، يصير الفرد والمجتمع، وكذلك الدولة والأمة، بحاجة وجودية إلى فكرة جامعة جديدة، يتصل طول غيابها بعمق الهاوية التي استسلم هؤلاء لها. بقول آخر: لم يعد خروج العرب من مأساتهم الراهنة، التي أوصلهم إليها افتقارهم إلى فكرة أو أفكار جامعة، موحدة وفاعلة، ممكناً عبر ما يستخدمونه اليوم من أدوات وأفكار، وفي مقدمها قبلية الدولة القطرية، وخاصة نمطها الإقصائي / الاستبعادي، الذي يرهن مصير الأمة بإرادة مجالس إدارة قبلية، تسميها لغة السياسة «السلطة».
ثمة حاجة وجودية إلى فكرة جامعة لحمتها وسداها إحياء ديني وإنساني، وطني وقومي، فردي ومجتمعي، في وصولنا إليها نجاتنا، وفي افتقارنا إليها هلاكنا، فنحن لسنا فوق التاريخ، وقد سبق أن هلكت أمم كثيرة قبلنا، ضاعت لأنها لم افتقرت، في لحظات مصيرية حاسمة كلحظتنا، إلى أفكار جامعة، تبعث فيها روحاً جديدة، وتوجه طاقاتها نحو أهداف فيها مصالحها، وتمد من ينتمون إليها بفضاء روحي جديد يشحن وجودهم بالمعنى، وبما يلزم لامتلائهم الإنساني وتنمية حريتهم!
السفير