قضية ‘غولدمان ساكس’: خيانة المواثيق أم عطب الرأسمال؟
صبحي حديدي
العاصفة المالية التي تجتاح اليونان هذه الأيام، بسبب تضخم الدين العام على نحو غير مسبوق، واضطرار الحكومة إلى اعتماد برنامج تقشف سوف تكون له نتائج اجتماعية واقتصادية وخيمة تبدو أحدث العلائم على أنّ أزمة النظام المالي العالمي هي في اشتداد، وليس في انفراج كما أشاع البعض. ثمة ما يشبه المصير الحتمي الذي سيفضي إلى اتخاذ قرارات مؤلمة، مثل إعادة النظر في أجور مئات الآلاف من الموظفين، وخفض الإنفاق على الخدمات الحيوية، فضلاً عن خدمة للديون تبلغ 32 مليار دولار يتوجب تأمينها خلال الأشهر القليلة القادمة.
وقبل أسابيع، حين ظهرت للعيان أولى بوادر التأزم في الاقتصاد اليوناني، كانت صحيفة ‘نيويورك تايمز’ الأمريكية قد كشفت النقاب عن تواطؤ كبرى بيوتات المال الأمريكية، وعلى رأسها مصرف ‘غولدمان ساكس’، في صناعة أزمة اليونان الراهنة. فعلى امتداد عقد كامل، وبالأحرى منذ دخول البلد في منطقة اليورو، أغدقت تلك البيوتات قروضاً سخية على الحكومات اليونانية المتعاقبة، وكانت تموّه عمليات الإقراض تحت بنود شتى ومسمّيات مختلفة، تسمح بالتملّص من القيود التي كان الإتحاد الاوروبي قد فرضها على سقوف التضخم الحكومي.
واليوم يكتشف النظام الرأسمالي، ممثلاً في فرعه الأبرز الأمريكي، وسط ضجيج الكونغرس وعجيج اجتماعات لجان التحقيق، أنّ مجموعة ‘غولدمان ساكس’ ليست قصة نجاح رأسمالية باهرة تعود إلى سنة 1869 فحسب، بل هي ‘أخطبوط عملاق يمتصّ الدماء’ في تعبير مجلة ‘رولنغ ستون’. وعلى نقيض المبدأ الشهير ‘دعه يمرّ، دعه يعمل’، بوصفه أحد أكثر أقانيم اقتصاد السوق قدسية وعراقة، كانت المجموعة تعتمد مبدأ النقيض الأقرب إلى هذا الشعار ‘لا تدعه يعمل، إلا إذا مرّ من هنا’، أي من تعاملات الزبائن مع مصارف المجموعة. الأمر الذي لا يعني، في كلّ حال ومآل، إيقاف العزف المديد على نغمة انتصار اقتصاد السوق، والتنظير المكرور لعبقرية النظام الرأسمالي.
ذلك يعيدنا إلى معركة قانونية ضدّ قصة نجاح رأسمالية ليست أقلّ بريقاً، بل لعلّها أكثر كونية وانضواء في حاضنة العولمة، أي قضية وزارة العدل الأمريكية (ومن ورائها أكثر من عشرين ولاية، وعشرات شركات الكومبيوتر الصغيرة والكبيرة)، ضدّ الملياردير الأمريكي بيل غيتس وشركة ‘ميكروسوفت’ العملاقة من جهة ثانية. وفي الجوهر الاعمق من تلك المواجهة الضارية كان مبدأ ‘دعه يمرّ، دعه يعمل’ يتعرّض للمساءلة والمراجعة، ليس في ميدان التنظير الفلسفي او الاقتصادي كما جرت العادة، وإنما في خضم السوق، وفي ظلّ قوانين العرض والطلب دون سواها.
وتلك، من جانب آخر، معركة أطلقت شرعية التذكير بأنّ هذا الطراز من المواجهات سوف يشكّل بصمة الأيام القادمة من أزمنة الرأسمالية الكونية، وأطوار العولمة، وحصيلة إغلاق ‘قرن أمريكي’ وافتتاح آخر لا كما حلم الفرقاء الكبار الذين صنعوا منعرجات الماضي. ثمة، غنيّ عن القول، الكثير من المغزى في أن تهبّ الرأسمالية ضدّ واحد من خيرة أبنائها البرَرة، بيل غيتس وضدّ واحدة من كبريات معجزاتها، ‘ميكروسوفت’ لكي نقتبس أسبوعية الـ’إيكونوميست’ العليمة بأسرار الآلة الرأسمالية.
من المشروع، كذلك، وضع هذه المعركة القانونية في إطار واحد من أشهر سياقات التنظير الفلسفي لنهاية التاريخ المتعدد الأقطاب، وولادة الإنسان الرأسمالي الظافر، بوصفه ‘وريث التواريخ’ و’خاتم البشر أجمعين’. سياسة ما بعد التاريخ هي اقتصاد مبطّن، كما اكتشف فرنسيس فوكوياما، صاحب النظرية الأشهر حول نهاية التاريخ، و’جميع المسائل السياسية تدور حول مسائل اقتصادية، بما في ذلك المشكلات الأمنية ذاتها التي تنبثق من صلب المجتمعات المدنية الرخوة، شرقاً وغرباً’. لا يغرنّكم هذا الاقتصاد، يهجس فوكوياما، لأنه يضرب بجذوره عميقاً في الحياة الاجتماعية، ولا يمكن فهمه على نحو منفصل عن مسائل تنظيم ـ أو بالأحرى: سوء تنظيم ـ المجتمعات الحديثة لنفسها.
هاهنا الحلبة الحقيقية للصراع، واليد العليا في صناعة المجتمع الاقتصادي هي يد الثقافة الاجتماعية (أو الاجتماع الثقافي) التي يمكن أن تطلق أو تكبّل الأيادي الأخرى، مهما بلغ جبروتها العملي أو الحسابي أو التقني. وأن يركب المواطن الكوني عباب محيط المعلومات الكونية، في مثال شبكة الإنترنيت وتطوير برمجياتها وتقنياتها، أمر يشكّل ثقافة اجتماعية واجتماعاً ثقافياً في الأساس. وأن يشتغل الفتى ـ المعجزة بيل غيتس على احتكار وسائل الإبحار تلك، أمر يعني احتكار الاجتماع الثقافي أولاً، قبل احتكار الاجتماع الاقتصادي والاستثماري والتكنولوجي والعلمي.
وفي الصفحات الأولى من كتابه الثاني ‘الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق الرخاء’، أعلن فوكوياما أن الهدوء الذي أعقب انهيار الشيوعية كان مريباً وخادعاً لأنه أخفى ما سينفجر من ضجيج وعجيج حول آفاق تطوّر الإنسانية (التي اختتمت تاريخها، كما قيل لنا!) وما سيتكشف من معضلات إنسانها الأخير، في تقاسم اقتصاد ما بعد التاريخ، أو في مخاتلة بورصاته وسنداته ومضارباته وقروضه، كما فعل السادة في مجموعة ‘غولدمان ساكس’ مثلاً. كذلك سكت فوكوياما عن الأشباح القومية والإثنية التي استيقظت في وجدان ذلك الإنسان ومن حوله، وأشعلت الحرائق هنا وهناك، فانشغل الاقتصاد بلملمة الأشلاء ودفن الأموات بدل رعاية الأحياء. سكت فوكوياما لأن الفلسفة المنقلبة إلى ـ أو القادمة موضوعياً من ـ سراديب البيروقراطية يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها، ولها أنّ تصمّ الآذان وتؤجّل القرارات وترجئ إرسال عربات المطافئ لوقف انتشار اللهيب على الأقل.
وعلى سيرة إطفاء الحرائق، ذات يوم سألت صحيفة الـ’موند’ الفرنسية رئيس البنك الدولي الأسبق جيمس ولفنسون، عن نيّة المصرف الكوني العملاق في القيام بمبادرة ما لمساعدة الاقتصاد التركي، الذي كان يوشك على الانهيار حينذاك، فضحك الرجل وردّ هكذا: ‘لنبدأ بالقول إننا أرسلنا لهم كمال درويش (أحد مديري البنك الدولي السابقين، والذي أصبح وزيراً للاقتصاد التركي في تلك الحقبة)، والأمر يعود إليه الآن’. ورغم ضحكته تلك، لم يكن ولفنسون يمزح، بل كان يعيد صياغة المحتوى الواقعي لحجم ما يمكن لمؤسسات كهذه ان تقدّمه من عون. لكنه تناسى، عامداً، أنّ سياسات درويش ـ وهي، في الحصيلة الأخيرة، سياسات المؤسسة ذاتها التي عاش في كنفها طويلاً ـ هي بعض السبب في حال الانهيار المتفاقمة التي شهدتها وتشهدها تركيا.
أمّا في الأرجنتين، الشقّ الثاني من سؤال الـ’موند’، فإنّ الرجل كان أكثر وضوحاً وأقلّ تأتأة: ‘لسنا رجال مطافئ’! حسناً، وماذا عن المؤسسات الرأسمالية التي تحقّق أرباحاً طائلة وتلجأ في الآن ذاته إلى تسريح عشرات الآلاف من العمّال، في تركيا والأرجنتين مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا؟ الصحيفة لم تطرح هذا السؤال، ربما لأنه من نوع الأسئلة التي لا تثير الإجابات عليها سوى المزيد من الأسئلة. هذه، في عبارة أخرى، بعض أسئلة النظام الرأسمالي في مطالع القرن الواحد والعشرين. أسئلة شائكة، عابرة للقارّات والأمم والاقتصادات، وذات وطأة ثقيلة ومغزى أثقل.
ومعارك رأس المال المعاصر ضدّ المؤسسة أو قوى الإنتاج أو علاقات الإنتاج لم تعد تجري في معمعان الصراعات الطبقية الكلاسيكية، كما كانت عليه الحال في الماضي، بل هي اليوم تُخاض في قاعات البورصة، أو المحاكم، أو البرلمانات، أو اجتماعات مجالس إدارة الشركات العملاقة أو الجمعيات العمومية لأصحاب الأسهم. في قاعات كهذه يتقرر مصير العقد الاجتماعي، ليس على ضوء التعاقد بين المنتج والمستهلك أو العمل وقيمة العمل، بل على أساس قاعدة ذهبية واحدة، ليست جديدة تماماً في الواقع: التخفيف ما أمكن من النفقات، بقصد تحقيق أقصى زيادات ممكنة في الأرباح، وتحسين حظوظ المؤسسة في المنافسة والاحتكار والتواجد الكوني القوي المُعَوْلَم.
ولقد نفى ولفنسون عن البنك الدولي صفة رجال المطافئ لأنه، مثل فوكوياما في الواقع، ملزَم بالسكوت عن الصخب غير الخادع في معارك الرأسمالية هنا وهناك (ضدّ عمّالها، أو ضدّ أرباب عملها، أو بين مؤسسة عملاقة وأخرى أقلّ شأناً). ولأنه، على شاكلة معظم التنظير الرأسمالي المعاصر، عاجز عن التمييز بين تاريخ انتهى هناك، وتاريخ آخر يبتدئ هنا في غمرة شروط مذهلة من تطاحن الآباء والأبناء داخل العائلة الرأسمالية الواحدة.
ولهذا فإنّ معركة وزارة العدل الأمريكية ضدّ بيل غيتس لم تكن حول، وبالتالي لم تنحصر في، احتكار قوارب الإبحار في عباب المعلومات (ثمّ في بحار الثقافات، والحضارات، والفلسفات)؛ بل أيضاً حول إغلاق جميع الورشات الصانعة لتلك القوارب، لصالح الورشة الوحيدة العملاقة التي تحمل لافتة ‘ميكروسوفت’. ومعركة الكونغرس اليوم ضدّ ‘غولدمان ساكس’ هي الترجمة الأحدث عهداً للحرج الشديد الذي تسقط فيه مؤسسات التشريع الرأسمالية إزاء تخفف أساطين المال والأعمال من كلّ وازع أخلاقي في تقويض مفهوم التعاضد الاجتماعي… حجر الأساس في المعمار النظري لعالم ما بعد جدار برلين، حيث أغلق التاريخ ملفّاته، وتقاعد غير مأسوف عليه!
جانب آخر من طرافة وضع هذه المعارك في سياقات فوكويامية هو أنّ شروط الاقتتال الراهنة تبدو أشبه بقواعد انتحار ذاتي لعشرات المفاهيم الظافرة التي أعلنها فوكوياما صارخاً بأعلى الصوت. لقد شرح للعالم أن ‘مفهوم الثقة يشمل المطمح المنبثق في إطار جماعة بشرية تتصف بالسلوك المشرّف المنتظم المتعاون، المرتكز على أعراف مشتركة تجمع أبناء الجماعة وتصنع تلاحمهم وتآزرهم، ويمكن أن تمتد على نطاق عريض يبدأ من قيم العدل الإلهي ويمرّ بالقيم العلمانية وشرائع السلوك’. وطمأننا، بشيء من التبسيط البعيد عن الفلسفة هذه المرّة، أن ‘الثقة بين رأس المال والبشر أشبه بالثقة التي نمنحها للطبيب حين نسلمه أجسادنا دون ارتياب، وليس لدينا من ضامن سوى معرفتنا أنه أدّى قَسَم أبقراط’.
ولكن، ألا تبدو طرائق ‘غولدمان ساكس’ ـ في تكديس الأرباح على خرائب صغار المقترضين، ثمّ ادعاء الإفلاس، والتمتّع بمليارات القروض من الحكومة الفيديرالية ـ وكأنها تخون أكثر من قَسَم واحد، وربما جميع مواثيق الاقتصاد السياسي، وليس الاقتصاد الرأسمالي وحده؟ وهل يتوفّر مغفّل واحد يوافق على أنّ هذا النوع من التنافس المشروع هو جوهر الديناميكية الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تزعم الدولة الرأسمالية أنها تنفرد به، ويتوجّب عليها أن تُحْسن توظيفه على أساس مبدأ الثقة بين المنتج والمستهلك، وبين السوق والسلعة، والمُقرِض والمقترض؟
لا يلوح أنّ روح الثقة كانت تتملك الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حين التقى بمحفل من كبار مدراء المصارف الأمريكية (وبينهم، بالطبع، رجالات ‘غولدمان ساكس’ و’جي بي مورغان’)، وناشدهم أن يقبلوا بما ينوي القيام به من إصلاحات. ‘لا يوجد خطّ فاصل بين ‘ماين ستريت’ و’وول ستريت’، قال أوباما في تلميح إلى صدام بيوتات المال مع المجتمع العريض، ‘وإما أن ننهض أو نسقط، كأمّة واحدة’. بيد أنّ أوباما كان يتلو مزاميره على معشر من الصمّ، عن سابق قصد وتصميم، لأنّ وقائع الماضي، مثل وقائع الحاضر، كانت تؤكد ما قاله كارل ماركس قبل 160 سنة، بصدد المجتمع البريطاني: ‘إني أرى أمّتَين’!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس