رواية .. الى حدّ ما!!
خيري منصور
قد لا يكون تعريف جورج لوكاتش الشهير للرواية بأنها ملحمة البرجوازية الأوروبية هو خاتمة المطاف لتطور هذا الفن منذ سيرفانتس حتى آخر رواية صدرت في عالمنا، فالتاريخ لم يتوقف او يتخثر عند لحظة ما حتى لو كانت فاصلة وحاسمة، والرواية الان تكتب بلغات العالم كلّها، وتعبر الثقافات والحدود من خلال الترجمة لكن هناك من يصرون على انها نوع اوروبي المنشأ والهوية، رغم الانقلاب الذي احدثته روايات غير غربية منها روايات امريكا اللاتينية التي اجترحت آفاقا أخرى واحدثت انقلابا في الحساسية بسبب ما سمي واقعيتها السحرية، التي تزاوج على نحو بالغ الفرادة بين الواقع والمتخيّل وبين الاسطورة والتاريخ. وقد لا يكون دقيقاً القول أن عصرنا هذا هو عصر روائي بامتياز، وذلك لإقصاء أنواع أدبية أخرى في مقدمتها الشعر، سواء من حيث النطاق الذي يتحدد فيه منسوب النشر والقراءة او من حيث تحول الكثير من الشعراء الى الرواية رغم ان اطلاق اسم الرواية على بعض تلك الكتابات التي تعيش في ضواحي الشعر وتعد من أقاربه الفقراء حسب تعبير ميشيل بوتور تبقى في المسافة المرنة بين شعرية معلنة وشعرية مبثوثة في السرد، تشبه احيانا البقع القرمزية، نعرف ان التبشير الذي تبلور لدى رولان بارت اكثر من سواه بحذف الفواصل بين الانواع او ما سمي الكتابة في درجة الصفر لقي صدى واسعا في مختلف الثقافات، لكنه شأن أي تبشير مماثل تعرّض لسوء فهم، واعادة انتاج لا تخلو من تلفيق ورغائبية، وكأن المقصود بالغاء تضاريس الانواع العودة الى كتابة بلا بوصلة وبالتالي محررة من الخبرات البشرية التي رسخت منظومة من المفاهيم والمعايير التي يحتكم اليها ولو على صعيد اجرائي لخلق شيفرة نقدية هي بمثابة جدول الضرب في الرياضيات او السلم الموسيقي، ودائما يتكرر سوء الفهم ذاته، فقد قرئت الوجودية عربيا بعين واحدة نصف مغمضة حجب ما فاض من صديدها الناجم عن فائض المكبوت معظم المشهد، وهكذا أسيء فهم الحرية، فأصبحت تختزل في عبارة واحدة هي ان يفعل الانسان ما يريد، والحقيقة انها اشدّ تعقيدا وقسوة من هذا الاختزال الغرائزي، فهي احيانا ان لا يفعل المرء ما يريد، لا بسبب كوابح موروثة ومعلّبة او أعراف ذات نفوذ، بل لأن البعد الاخلاقي لهذه الفلسفة يبهظ الانسان بأعباء هي اضعاف تلك الاعباء التي جاءت بسبب الموروث العقائدي او الاخلاق الموروثة والتي لا فضل للفرد فيها. لهذا صوّر سارتر الحرية كما لو انها صخرة ينوء بها حاملها وهو الاله جوبيتر وهو يقطع نهرا، وهي بخلاف صخرة سيزيف تتجاوز العدمية والتكرار العقيم الى ابتكار المعنى والهدف، وتكرر سوء الفهم هذا مع ما سمي الرواية الجديدة او الرواية المضادة في فرنسا تحديدا، حيث لعبت تيارات فلسفية منها الظاهراتية او الفينومولوجيا دورا اساسيا في نقل عدواها الفكرية الى المجال الروائي، فأقصي الزمان لصالح المكان وأصبح الشيء بديلا للكائن، وأخذ دور البطولة في الرواية، وقد عبّرَ ألان روب غرييه، الذي رفض تسمية المنحى الذي يكتب فيه الرواية المضادة ، عن ذلك قائلا: ان الرواية كما يكتبها هي كما هي… ولا شيء آخر، اما التنميط فهو شأن نقدي يراد به الدفاع عن الكسل والاقلاع عن المغامرة والكشف ..
ان ظهور تيارات في الثقافة على اختلاف تجلياتها ليس معزولا عن تطورات تاريخية واجتماعية، فالحرب مستمرة بين النزوع الى الانعتاق من التابوات وبين هذه التابوات المسلحة بالسلطتين الايديولوجية والسياسية، لهذا لا ينفصل ظهور التيارات الشكلانية عن المناخات التاريخية والاجتماعية التي تسود في حقبة ما، وقد تكون فترة ما بين الحربين العالميتين نموذجا لازدهار تيارات تجريبية تشكك بالموروث كله، وتعلن العصيان على تاريخ أدى الى ذلك الموت بالجملة والدمار الذي شمل حتى الرّوح، ومن أسوأ ما تورط به النقد المدرسي الكسول تصنيف الابداع في تيارات ومذاهب وخانات، فعلى سبيل المثال حشر ماياكوفسكي مع بيرلوك الروسي ومارينتي الايطالي في ما سمي التيار المستقبلي، رغم ان أحد شعراء ذلك التيار انتهى الى أقاصي الشعر بالانتحار وهو ماياكوفسكي بينما انتهى زميله الاكثر تطرفا منه الى كتابة وصفات في فنّ الطّبخ!
قد يكون هناك تضاد فكري وجمالي بين ما قاله همنغواي مثلا وهو : لا اكتب الا عمّا اعرف، وبين ما سيقول روائي آخر وهو لا أكتب الا عمّا سأعرف، ففي العبارة الثانية احلال للشعرية بأدق دلالاتها مكان الرواية، لأن الشعر ينشأ اثناء كتابته، وهذا ما دفع سارتر الى استثنائه مما سماه بالأدب الملتزم، وفي النهاية لا يكتب المرء الا ما يعرف، لكن كلمة المعرفة هذه ليست معلّبة في دلالاتها المعجمية، فالخيال ايضا معرفة، لأنه يعيد انتاج الذاكرة بمهارات لاحقة ………
وكان على العالم ان ينتظر قرنا على الأقل ليعيد تعريف واقعية تشيخوف مثلا، او ليكتشف البعد الواقعي اليومي لكوابيس كافكا كما فعله وريثه كونديرا، عندما تتبع الخيط السري الأسود لمصائر شخوص سلفه التشيكي في ذروة ما بلغته النظم التوتالية، وفي كل الأزمنة كان هناك من يبدعون ويكدحون مقابل من يصرخون ويفرطون في المحاكاة، لكن غربال الزمن ليس أعمى وغالبا ما يعيد الاعتبار ولو بأثر رجعي لهؤلاء الأقل انهماكا في تسويق ما يكتبون، كما فعل مع مارسيل بروست بعد رحيله، وكما سيفعل خلال العقود القادمة بعد ان خلطت الميديا الحاذفة نابل الابداع بحابل نقيضه، وأصبح من يطفون على السطوح هم الأكثر خفة وتجويفا والأقل استدعاء للمساءلات العميقة سواء تعلقت بالوجود او الكينونات السياسية .
ما من رواية يمكن وصفها بأنها رواية جدّا كي يتاح لنا القول بأن هناك رواية الى حدّ ما، فالرواية جدا قد تكون المعادل السردي للشعرية الخالصة، او الشعر المحض كما يسميه بول فاليري، كلاهما الرواية جدا والشعر الخالص، سقوف عالية وغير مرئية ونهايات توظف لصالح القياس، ونهي اشبه بمياه الاسطورة التي كانت تنأى كلما اقترب منها الظامىء. انها بشكل ما تشبه الحرية في أقاصيها المُتخيّلة تماما كما ينتهي مقياس ريختر للزلازل بدرجة لا يتاح لأحد أن يراها اذا كانت تحدد منسوب الزلزال …
ولدينا الان في ثقافتنا العربية رغم تحفظي على هذا الوصف، لأن الهويات سواء كانت للبشر ومجموعاتهم او للأنواع الادبية باتت عرضة للشكوك، ركام من الكتابات المصنّفة في خانة الرواية، لسبب واحد فقط، انها ليست شعرا او مقالة او سردا طليقا او تأملات او ما يسميه النقاد الفرنسيون ‘ المحاولات’، انها نشارة خشب او برادة حديد تراكمت بعد انجاز الورشات، وحين نطلق على هذا النمط من الكتابة التي تتذرع بعبور الأنواع شبه رواية، فذلك ليست لأنها تشبه الرواية بأي تعريف لو كان تقريبيا، فالشبيه هو احيانا النقيض الذي يذكرنا بالاصل الغائب، ولأن الحراك النقدي ينعم ببطالة تحسده عليها السلاحف فالحبل متروك على الغارب، وأقانيم الكتابة الثلاثية هي باختصار تكاليف النشر وتسويق المنشور فضائيا وبعيدا عن نطاق القراءة وعرض صحافي هو أيضا نقد الى حدّ ما!!!
القدس العربي