مارسـيل خـارج صورتـه
«أوركسترا قطر الفيلهارمونية» تعزف مارسيل خليفة في دمشق
راشد عيسى
يعمل الموسيقار اللبناني مارسيل خليفة منذ سنوات بصورة توحي بتحوّل جذري في تجربته، بعدما أدرك صورته النمطية عند الجمهور،فراح يعمل على تعديلها. ومن أجل موسيقى جديدة، جاءت أعمال مثل «جدل»، «كونشرتو الأندلس»، وأخيراً «الكونشرتو العربي» التي عزفت في أمكنة عديدة من العالم، آخرها في دمشق من قبل «أوركسترا قطر الفيلهارمونية».
لا أحد يريد لمارسيل أن يبقى في مكانه، وإن أراد الجمهور ذلك، وإن كان جمهوره القليل في دار الأوبرا السورية أخيراً دليلاً دامغاً على رفض صورة مارسيل الجديدة. بين جمهور «الفيحاء» العام الفائت، حين قُدم مارسيل التقليدي بطريقة نموذجية، حيث استعارة محمود درويش، على وقع حرب غزة، وجمهور لا يريد أن يسمع سوى صوته هو، بين ذلك الجمهور وجمهور «الأوبرا السورية»، أي جمهور «الكونشرتو العربي»، فارق يفسر صورة الفنان النمطية، ويكشف أي مغامرة كبيرة يخوضها مارسيل حين يغادر نفسه إلى صورة مغايرة، تنتمي إلى «موسيقى العالم»، تبني حواراً بين الشرق والغرب، وتشق طريقاً للآلات الموسيقية الشرقية بين الآلات الغربية الراسخة.
غير أن هذه «البطولة» التي يرتكبها مارسيل لا تمنع من النظر في تجربته. هذه التي أسماها البعض تحولاً، وأسماها البعض الآخر استمراراً، فيما أسماها آخرون عزفاً على وتر بضاعة جديدة رائجة اسمها «موسيقى العالم»!
في «الكونشرتو العربي» يكتب مارسيل لآلات شرقية مع الأوركسترا؛ هي الناي والعود والبزق والقانون. وقد عزف على هذه الآلات سوريون من أمهر العازفين على هذه الآلات، هم مسلم رحال على الناي، وكنان إدناوي على العود، ومحمد عثمان على البزق، وفراس شهرستاني على القانون. غير أن مهارة هؤلاء لا تغير شيئاً في عمل ذي بنية مختلة.
من حق المرء أولاً أن يعتمد في تقييمه على تفاعله الشخصي مع هذه الموسيقى، ثم تأتي آراء المختصين لتدعم ذلك. وشخصياً لم أشعر مرة بتواصل مع «الكونشرتو»، وكانت سلواي وقمة سعادتي في اكتشاف جملة مألوفة لمارسيل. ولكن الإحساس الغالب هو هذا العجز الواضح للآلة الشرقية ضمن الأوركسترا، وقد عبر عنه أحد الموسيقيين بالقول إن خللاً ما زال يشوب صناعة هذه الآلات، التي لا قوانين واضحة وثابتة لها، كما أنها لا يمكن أن تجاري الآلات الأخرى بوضع مايكروفون إلى جوارها.
كما تحدث البعض عن خلل يشوب بناء «الكونشرتو» نفسه، من حيث البناء التقليدي، وفضلوا تسميته بـ «المتتالية» على «الكونشرتو». وقد عبر أحد الموسيقيين عن رأيه بالقول «إن هذا «الكونشرتو» يبدو مثل رسام يضع الألوان على اللوحة، فتبدو ألواناً جميلة ولكن بلا عمق»، و«ستجد العديد من المقامات الشرقية، ولكن بمضامين غير متفاعلة. ثم إنك تجد أكثر من فكرة بلا معنى».
ربما كان محرجاً بالفعل، لسوء حظ «الكونشرتو العربي»، أن تعزف «أوركسترا قطر»، بعد مارسيل خليفة، مقطوعة أنطونين دفورجاك «من العالم الجديد»، وقد كانت ساحرة بشكل يستعصي على الوصف، مبهرة كانبهارها هي نفسها بالعالم الجديد. فجاءت مثل مفارقة، كأنها تريد أن تقول: «من دون تعليق».
أحد الموسيقيين السوريين البارزين علّق في برنامج تلفزيوني ذات مرة، بخصوص تجربة مارسيل وسميح شقير وآخرين، أنه لا يستطيع تخيلهم من دون آلة العود، في وسط جمهور في ساحة عامة، أو في ملعب رياضي، صارخين غاضبين ملوحين بقبضات أيديهم. وقد فاجأه أن يخرج أولئك عن صورتهم. وجدهم أجمل في صورتهم الأولى. هل يمكن على سبيل المثال تخيل الشيخ إمام عيسى خارج صورته المألوفة، بين الطلبة، في الساحات وفي السهرات. كم تتغير صورة هؤلاء حين ينتقلون من الهامش ليصبحوا في وسط الكادر.
لا يستطيع المرء، أخيراً، أن يطالب مارسيل بشيء، لا بالعودة إلى بيته، ولا بأن يستمر في العمل في حيز لم يفلح فيه. لقد اجتهد الرجل، ولا بد له من أجر.
(دمشق)
السفير