الأفق مسدود لكن الكوميديا السوداء تسخر أيضاً
مايا جاموس
تشابهَ الموضوعات دفع بالسوريَّين سعد الغفري وعلا الخطيب إلى إعداد نص “ابتسم أنتَ لبناني” للشاعر يحيى جابر وتقديمه بعنوان “أوضة سورية”.تحضر في المسرحية مجموعةٌ من القضايا أبرزها الزواج المدني أو الزواج بين الطوائف في سوريا من خلال حكاية الشاب عبد الله (سعد الغفري) الذي يعمل صحافياً، وهو مسلم ينتمي إلى بيئة فقيرة، وزوجته روز (كوزيت حداد) مسيحية اضطرت إلى التخلي عن أسرتها وطبقتها من أجل استمرار علاقتهما. في ذكرى زواجهما الخامس تنفجر الذكريات والمآسي، ونرى المعاناة التي تلحق بهذا الزواج من الجانب الاجتماعي، إذ يمانع الأهل ويعاقبون الأبناء، ويتدخل الوسط المحيط. إنها صورة عن عدم التسامح المجتمعي مع الزواج من خارج الطائفة، ومجمل الإشكالات التي تنتج منه.
يكثف العرض مجمل الشروط الحياتية الصعبة التي يضطر الشباب السوري أو المواطن عموماً إلى العيش ضمنها في مجتمعه. فهذان الزوجان الشابان اللذان تزوجا على رغم الممانعات الطائفية، تواجههما الأوضاع المادية السيئة التي تجعل تأمين مسكن بدل غرفتهما التي سيضطران إلى إخلائها، مسألة غايةً في التعقيد، كما تصبح النقود هاجساً أساسياً لديهما وسبباً لمزيد من الخلافات بينهما. يقومان بعرض يجعل من القبح والبؤس في حياة الفقراء مادةً للتهكم والضحك باعتبارهما وسيلةً للتكيف والدفاع. يجدان نفسيهما في مواجهة سلطة رأس المال والانحلال الأخلاقي والتزمت الديني، وعدم تكافؤ الفرص، وعدم تقدير الفرد وإمكاناته، كما في مواجهة تهميش الشباب. إضافةً إلى حادثة اعتقال الزوج بسبب “رأيه”، والطريقة التي اقتادوه فيها من أمام عينيّ زوجته، لتقول الزوجة إنها فقدت الأمان، ويضطر الزوج إلى تقديم التنازلات من أجل الإفراج عنه، ثم لاحقاً التدخل الأمني في حياته كصحافي والضغط عليه وابتزازه. هذه الحادثة تركت أثراً عميقاً في نفسه ولا تزال نتائجها مستمرة. الأسوأ هو ندمه بسبب الخروج من المعتقل، إذ اكتشف أن العالم خارجه غاية في الوحشية والبشاعة، مع إشارة الزوج إلى صمت الشعب.
يرفض الزوج أن يكون انتهازياً أو يتجرد من مبادئه وأخلاقياته ليحصّل فرصةً للعمل تتعارض مع اقتناعاته، لكنها تؤمّن له دخلاً أفضل، ويتحول شخصاً ينتظر الحصول على الدور الذي يُفترض أن يشغله في الحياة، وأن يتنبه أصحاب القرار (صاحب النيافة كما يسميه العرض) لإمكاناته ومواهبه ليتمكن من تحصيل فرصة يستحقها.
لا تتمكن الزوجة من التصالح مع نمط الحياة الجديدة التي دخلتها، فتتمزق بين شعورها بالغبن والإجحاف بسبب اضطرارها إلى التضحية، وبين أحلامها وطموحاتها بنمط حياة مرفهة ومريحة. لا تتمكن من الانسجام مع المستوى الطبقي الفقير الذي تعيشه وتنفر بسببه، وقد تجلى ذلك من خلال الرهاب الذي تعانيه بسبب الصراصير التي امتدت إلى حياتها. كما أنها لا تتمكن من تأمين عمل مناسب سوى القيام بترجمة بعض المقالات، رافضةً هي الأخرى الكثير من الضغوط والمغريات التي يمكن أن ترفع مستوى دخلها، لكن بتخليها عن أخلاقياتها.
وفي إشارة مباشرة إلى استحالة الحل وانسداد الأفق، يظهرهما العرض عقيمين عاجزين عن الإنجاب، كأنما الزوج مخصيّ، أو معطوب بسبب حادثة السجن.
الوضع المتردي حوّل حياتهما ما يشبه الجحيم. تتفاقم المشكلات حدّ أن الزوجة تمنّن زوجها بأنها ضيّعت عمرها في حبِّه، أما هو فيتحول شكّاكاً ويلاحقها في حركاتها… مما يحمل الزوجة على المغادرة وتدمير العلاقة.
يبتعد العرض عما هو فلسفي أو فكري معقد، لتكون مادته الأساسية هي الإنسان وأسباب دماره ودمار العلاقات الإنسانية. الحوار فيه مباشر من دون إيحاءات أو دلالات وإسقاطات. إنه يقدم حياتنا كما هي لكن بتكثيف شديد وتركيز على عمق الأزمات.
ينتمي العرض إلى الكوميديا السوداء، بما تحمله من نظرة تشاؤمية ساخرة لإظهار مأسوية الحالة، معتمداً بعض المواقف والمفارقات والتناقضات والعادات كعناصر مضحكة وسيلةً للاحتجاج ونقد الواقع، والإشارة إلى عمق الأزمة ومدى تأثيرها في الأفراد.
هذا المجتمع الخانق، يجسّده مصمم الديكور كنان جود، بغرفة على الخشبة، سقفها المعدني ذو منافذ للتنفس أشبه ما تكون بسقوف المعتقلات، جدرانها هشّة من النايلون، عُلِّقت عليها أعشاش العناكب في دلالة واضحة الى أنها أماكن لا تصلح لعيش الناس في الزمن الحاضر. الغرفة تضغط على هذين الزوجين وتخنقهما. يجلسان أكثر الوقت في زاوية جحرهما، وخلفهما خيالهما، أو نيغاتيف لصور أخرى كثيرة مماثلة في المجتمع، لتشكّل هذه الأوضة فضاءً مجسّداً لمعاناتهما، ولا تنفتح جدرانها إلاّ حين يتعلق الأمر بمشاهد الذكريات والحنين إلى الماضي السعيد أو الأقل بؤساً.
المسرحية إعداد سعد الغفري وعلا الخطيب عن نص اللبناني يحيى جابر “ابتسم أنت لبناني”. وإخراج علا الخطيب، تمثيل سعد الغفري وكوزيت حداد.
النهار