نحو يسار عربي جديد
مازن كم الماز
في 1914 قام الزعماء الاشتراكيون الديمقراطيون بدعوة البروليتاريا الأوروبية للموت في سبيل جشع برجوازياتها “الوطنية” , و في 1919 قام وزراء “اشتراكيون و ديمقراطيون” بتنظيم قمع انتفاضة العمال الألمان , و في 1968 دعا الحزب الشيوعي الفرنسي و اتحاده النقابي العمال المضربين للعودة إلى المعامل متناغما مع الإعلام و السياسيين البرجوازيين , داعيا إياهم للقبول ببعض الزيادات البسيطة في الأجور كمكسب أو كتنازل من البرجوازية , رفض زعماء الحزب إرادة العمال لتغيير النظام القائم بشكل جذري و أصروا على أن تنتهي ثورة 1968 فقط بزيادة محدودة في أجور العمال سرعان ما التهمتها الزيادة في الأسعار و التضخم النقدي , هكذا يندمج ما يسمي نفسه باليسار بمؤسسات النظام القائم , بالمدافعين عن النظام القائم . إن جزءا أساسيا من أزمة التغيير الثوري للوضع القائم تتمثل في دور اليسار القائم نفسه كجزء من منظومة حماية هذا الوضع القائم و احتواء نضال ضحاياه ضده , أي أنهم جزء أساسي من الأزمة , أزمة التغيير الثوري , التي يستخدمونها بالمقابل كمبرر لخيانتهم للجماهير . لقد انخرط اليسار السائد بشكل شبه كامل مع القوى المهيمنة و كف تماما عن أن يكون قوة دفاع عن الجماهير , تماما في تلك اللحظة التاريخية التي تتعرض فيه هذه الجماهير لأشرس هجمة على حياتها و حريتها و مستقبلها , لقد مات اليسار القديم , بكل سلبياته و إيجابياته , لا يريد اليسار القديم أن يغرد خارج السرب , و لا أن يخوض معارك خاسرة ضد السادة , خاصة إذا كانت في سبيل الجماهير , القوة الأكثر تهميشا في مجتمعاتنا و في هذا العالم , تلك المعارك التي شكلت أسطورة سبارتاكوس و غيفارا , يريد اليسار القديم أن يبقى تحت الشمس و لو كخادم للقوى السائدة و كما كان دائما لا يغامر أبدا في معركة حاسمة ضد قوى استغلال الإنسان للإنسان , طالما لم تنضج “الظروف الموضوعية” بعد . و عندما سقطت أنظمة رأسمالية الدولة البيروقراطية الاستبدادية , سرعان ما اكتشف أغلب قادته و منظريه الطريق إلى جانب المنتصر , و تخلوا بسرعة عن كل ما قد يزعج البرجوازية المنتصرة , لم ينتقدوا البيروقراطية كطبقة طفيلية ترتبط بمؤسسات فوقية تسمي نفسها الدولة تخدم أو تتنافس مع الطبقات السائدة , و لم ينتقدوا الاستبداد كاستبداد , كممارسة تهميش و قمع للجماهير , بل تحدثوا عن مبررات جديدة ( ليبرالية هذه المرة ) لقمع و تهميش الجماهير , مجدوا استغلال الإنسان للإنسان , هذه المرة في شكل الاستغلال البرجوازي , و ليس استغلال بيروقراطية رأسمالية الدولة الستالينية للجماهير كما في ماضيهم “الثورجي” , لم يعد اليسار القديم يدعي حتى تمثيل الجماهير , إنه يرفض حتى هذا النفاق الستاليني الثورجي و الذي كان مبرر الامتيازات التي استولت عليها بيروقراطية قيادات أحزاب ذلك اليسار , إنها لا تريد هذه الامتيازات اليوم لأن الأنظمة البيروقراطية الستالينية التي كانت تسدد الفواتير قد اختفت , إنها تبحث عن امتيازات جديدة بوصفها مدافعة أكثر حماسة و أقل انتقادا للوضع السائد , إنها تنتظر من البرجوازية المحلية و رأس المال العالمي أن تدفع فواتيرها الجديدة , أما بالنسبة للجماهير فيجب عليها اليوم البحث عن ممثلين عنها بين البرجوازيين و أزلامهم , بين ممتهني النفاق و الخداع السياسي وفق منطق الليبرالية البرجوازية التي أصبح يتبناها معظم هؤلاء اليساريين السابقين , لكن ليست القضية اليوم في البحث عن ممثلين جدد أكثر ثورية ( كما ترجع التروتسكية أزمة اليسار القديم إلى أزمة قيادته , أي تصر على البحث عن قادة “ثوريين” , ممثلين جدد للجماهير , مع تفويض مطلق , شيك على بياض , أي استلاب جديد للجماهير , أو إعادة إنتاج الاستلاب الماركسي – اللينيني لصوت الجماهير و عقولهم و نضالهم , و كأن هدف هذا النضال هو خلق تراتبيات هرمية تختزل الجماهير و تقصيها , خلق بيروقراطيات جديدة أو رأسمالية دولة جديدة ) , القضية اليوم هي في “تحرير” نضال الجماهير نفسه من أية وصاية , و حسنا فعل اليسار القديم بتخليه عن قضايا الجماهير دفعة واحدة , إنه ما عدا دعواته المتكررة للجماهير للخنوع و للتراجع عن خوض النضال المستقل ضد مضطهديها لا يملك أي شيء ليقدمه , إن الشارع الذي يغلي جراء سياسات الأنظمة القائمة و رأس المال المحلي و العالمي هو من سيحدد في نهاية المطاف نتيجة الصراع , اليسار الجديد الذي سينتجه هذا الصراع و نضال هذا الشارع ضد من يستبيحه سيحمل احتمالات أكبر لأن يكون بحثا أصيلا عن حرية الجماهير , عن عالم تتحقق فيه إنسانية كل إنسان , و لا يسخر فيه جهد الملايين و حياتهم و معاناتهم في سبيل أقلية محدودة جدا من أصحاب الامتيازات…لن ننعي اليوم اليسار القديم , ستفعل ذلك الثورة القادمة , ربما مع أسياده الجدد………
خاص – صفحات سورية –