بؤس ثقافة “ذم الزمان”
حازم صاغية
كثيراً ما يطالعنا، لدى عديد المثقّفين العرب، ما يمكننا تسميته ثقافة الشكوى والتذمّر. وهذا ما قد يستند إلى خلفيّة “ذمّ الزمان”، ذاك التقليد القديم المليء بإشهار التعاسة على الملأ والإمعان في البرم بالدنيا وحظوظها.
وأغلب الظنّ أنّ الشكل الحديث من ذمّ الزمان ولعنه، إنّما ينهض على أسباب ومشارب عدّة، وإن متفاوتة.
فهناك، أوّلاً، في ما يخصّ الشقّ الأكثر سياسيّة، أنّ الجهد الثقافيّ يصرف جلّ طاقته في مصارعة العدوّ الذي قد يرتكب الكثير من الأشياء السيّئة غير أنّه لا يخاصم الثقافة والحريّة. فهو مَن تنبثق العداوة معه من أسباب سياسيّة، وأحياناً عسكريّة، بحتة، لا صلة لها بسلوك هذا العدوّ حيال الإبداع أو الأفكار. يصحّ هذا خصوصاً في توجيه النيران الثقافيّة إلى أميركا وإسرائيل، فيما الإعاقة الثقافيّة لدينا لا تنجم عنهما بقدر ما تنجم عن الاستبداد والتخلّف والفتاوى والتراكيب المجتمعيّة الشالّة. هنا، يُحلّ المثقّف نفسه محلّ السياسيّ أو العسكريّ، بيد أنّ تأثيره في الواقع يبقى معدوماً قياسه بتأثيرهما. وهذا، بدوره، سبب للشعور بالعطالة وتبدّد الطاقة في غير موضعها.
وهناك، دائماًً، صعوبة العيش في عالم لا يستجيب للثنائيّات التي استهلكت معظم الجهد الفكريّ والإبداعيّ العربيّ. ذاك أنّ في وسعنا التأريخ لهذا الأخير بالزيجات التي عقدها تباعاً بين العروبة والإسلام، وبين كلّ منهما والاشتراكيّة، على ما درج في الستينيات، ثمّ بين كلّ منهما والديمقراطيّة، ناهيك عن مزاوجة “الحديث” و”الأصيل”، و”الحداثة” و”التراث”، وسوى ذلك ممّا يضعنا أمام تلفيق متواصل لصورة العالم.
لكنّ العالم الفعليّ غالباً ما ينافر هذه المخطّطات الفخيمة ويمضي في طريقه محكوماً بمعادلات أغنى وأقلّ قابليّة للمصادرة والتوقّع. وهذا التناقض بين الجهد المبذول للتدخّل في الواقع وبين الواقع ذاته غالباً ما يتحوّل مدعاة لشعور عميق بالعطالة وانعدام النفع.
ثمّ هناك ثنائيّة الحرّيّة والرابطة الأهليّة، وهي التي نلمسها في أوضح أشكالها في أدب المنافي. فمن يهرب من بلده ومن استبداد حاكمه، أو من الحروب الأهليّة لطوائفه، لا يكتفي بالإبداء المتواصل لذاك الحنين إلى المكان المتروك، بل ينقاد أحياناً إلى هجاء الأمكنة الجديدة والديمقراطيّة التي انتقل إليها. هنا تتكاثر، في نتاجاتنا، مصطلحات ومعاني الاستلاب والمعاناة التي قد تأتي رفعاً للعتب وإعلاناً سقيماً عن وطنيّة سقيمة، لكنّها، أيضاً، قد تنمّ عن صعوبة التكيّف مع الحريّة، بعد صعوبة التكيّف مع الاستبداد والحروب الأهليّة.
لكنْ، إلى ذلك، هناك الحيرة حيال الدولة (وهي غالباً السلطة فحسب) التي كثيراً ما تُطالَب بدعم الثقافة والمثقّفين، كما يُستخدَم عزوفها عن هذا الدور حجّةً تؤكّد لا ثقافيّتها. وهذا مع العلم بأنّ هذه اللاثقافيّة لا تعوزها التوكيدات. وفي الحالات جميعاً تبقى مطالبات كهذه شهادة على ضعف الانتباه إلى أكلاف الحريّة التي لابدّ أن تترتّب على دعم الدولة (أو السلطة). هنا أيضاً ينشقّ الجهد الثقافيّ عن النتائج التي يرومها، أو يفترض أنّه يرومها. فالمشكلة لا يمكن أن تكون، في وقت واحد، في أنّ الدولة لا تتدخّل في الثقافة ولا تدعم المثقّفين، وأنّها تبالغ في التدخّل عبر القمع والرقابة.
والحال أنّ البؤس الفعليّ، هنا، إنّما هو ناتج عمّا هو أعقد، أي عن ضعف المجتمع المدنيّ والفضاء العامّ حيث تتفاعل الأفكار وتزدهر، ويتّسع حيّز النقاش تاليّاً.
إلى هذا يصعب على النشاط الثقافيّ أن يحافظ على رجاحته الذهنيّة فيما هو دائم التقلّب بين واقعين ضاغطين: من جهة، ضآلة الإسهام الفعليّ في ما ينتجه العالم أفكاراً وروايةً وسينما وموسيقى وفنّاً تشكيليّاً وهندسة عمارة، ومن جهة أخرى، امتلاء بمطلقيّة الحقّ والصواب، وفي بعض القطاعات الأشدّ تقليديّة، امتلاك صورة ناصعة عن كلّ ما يرمز إلى “الذات” مقابل صورة موحلة عمّا يرمز إلى “ذوات” الآخرين.
لكنّ كبيرة الكبائر تبقى في استئناف الدور الذي ناطته الجاهليّة بالشاعر، أي المحاماة عن القبيلة والمرافعة عن مصالحها. وما دامت القبيلة الحديثة، أي الأمّة، عرضة متواصلة للمؤامرة وللانتهاك، طغى شعور منتفخ بالمظلوميّة والضحويّة. وينتشر حسّ المظلوميّة هذا فلا تحدّه حدود: فإذا لم ينل عربيّ جائزة نوبل للآداب، مثلاً، توفّرت لنا فرصة أخرى للنواح والبرهنة على “المؤامرة” إيّاها التي ينسجها عالم غريب يتآمر علينا.
وهذا التعامل مع الذات والعالم كفيل بتحويل كلّ ما تقع عليه اليد إلى “قضيّة”. ونعلم كيف أن عناوين كـ”الحداثة”، وإلى حدّ ما السرياليّة، صارت، بدورها، “قضايا” مُحكمة. وهذا ما يُثقل النتاج الثقافيّ ويحرمه بُعد الخفّة والسخرية من النفس، بحيث يغدو الكثير من فنّ الكاريكاتور نفسه، وهو مصنوع للضحك على الذات أوّلاً، موقفاً نضاليّاً ضدّ العدوّ. فكيف إذا استند ذلك إلى تقاليد بالغة الجدّيّة تعطي “الحرف” و”الكتاب” مكانة تقارب القداسة، ولو لفظيّاً على الأقلّ، بينما تعقّد استخدام الوسائط الأجدّ للتلقّي والبثّ الثقافيّين، كالفيديو والكاميرا وسواهما.
وأغلب الظنّ أنّ الجهد الثقافيّ سيبقى معاقاً ما لم يصعد الصوت الفرديّ طارداً الأصوات والأشباح الجمعيّة من ساحة التداول. صحيح أن المثقّف ليس كالطبيب أو المهندس، لجهة إنتاجه الحرّ للصور والمعاني. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ المثقّف تجمعه بالطبيب والمهندس مهنيّة وسلكيّة أبرز ملامحها، في ما خصّ الإنتاج الثقافيّ، فرديّة صاحبها. فهو ليس جنديّاً ولا رفيقاً مناضلاً أو أخاً “مجاهداً”. إنّه يعمل بأدوات معيّنة خاصّة به وبمن يماثلونه، ومن خلال إجادته استخدام هذه الأدوات، يمكنه التدخّل في الشأن العامّ. لكنْ حينما يتماثل المثقّفون، كما يتماثل الأطباء والمهندسون وسواهم، جاعلين “قضيّة الأمّة” قضيّتهم، يغدو من المستحيل احترام حقول التمايز المهنيّ، وتضحي فكرة تقسيم العمل، التي لا حداثة دونها، لزوم ما لا يلزم.
فلنعمل على تطوير ثقافة جدّيّة وقابلة للحياة أوّلاً، فخورة بأنّها ثقافة صالحة للعالميّة، ثمّ نرى، بعد هذا، كيف يُصرف ذلك في مجتمعاتنا وفي الكون الأعرض.
الاتحاد