فرد هاليداي: حين انقلب اليسار رأسا على عقب
صبحي حديدي
حتى ساعة رحيله، أواخر الشهر الماضي، ظلّ الباحث والأكاديمي الإرلندي فردريك (فرد) هاليداي (1946ـ2010) صاحب باع كبير في الاختصاصات التالية، كما تقول سيرته الأكاديمية الرسمية: علاقات القوى العظمى، القضايا الدولية ومفاعيلها، العلاقات الدولية، الشرق الأوسط، الثورات، وشائج الدولة ـ المجتمع، النظريات، والولايات المتحدة.
وهو، في قليل أو كثير، متأنياً متعمقاً أو متعجلاً متخففاً، قد عالج شيئاً من معظم هذه القضايا في مؤلفاته التي تربو على 20 كتاباً، أوّلها ‘جزيرة العرب بلا سلاطين’، سنة 1974؛ وآخرها ‘100 أسطورة عن الشرق الأوسط’، 2005؛ إلى جانب ‘إيران: دكتاتورية وتنمية’، 1979؛ ‘الثورات والسياسة الخارجية: حالة اليمن الجنوبي’، 1990؛ ‘الإسلام وخرافة المواجهة: الدين والسياسة في الشرق الأوسط’، 1996؛ و’ساعتان هزّتا العالم: أيلول (سبتمبر) 11، الأسباب والعواقب’، 2001. وخلال سنوات 1983 ـ 2008، كان أحد أبرز أساتذة الكلية العريقة ‘مدرسة لندن للإقتصاد’ LSE، قبل أن يعمل أستاذاً زائراً في ‘معهد برشلونة للدراسات الدولية’.
لكنّ هاليداي أمثولة معيارية لانقلاب بعض اليسار الأوروبي، رأساً على عقب، في مسائل جيو ـ سياسية وفكرية وتاريخية وثقافية حاسمة، لا تخصّ العلاقات الدولية او القضايا الكبرى والنزاعات وشؤون الحرب والسلام فحسب، بل تتجاوزها إلى مسائل كونية مثل حقوق الإنسان والحرّيات العامة ومعنى الديمقراطية. لقد كان، في اختصار مأساوي، محارباً قديماً في صفوف اليسار، يُشار له بالبنان (من شعاب ظفار وشطآن عدن وجزيرة العرب، إلى صفحات مجلة New Left Reviewوالسجالات الساخنة في صفوف مختلف التيارات الماركسية)؛ ثمّ صار محارباً لامعاً في صفوف يمين ليبرالي عتيق، ينتج أو يعيد إنتاج التنميطات المكرورة حول ملفات ثلاثة: صعود الحركات الإسلامية وما أفرزته في الغرب من مواقف جيو ـ سياسية وعسكرية وإيديولوجية وسيكولوجية، والشرق الأوسط (العراق والخليج أساساً، وليس القضية الفلسطينية مثلاً)، والولايات المتحدة.
وفي الملفّ الأوّل ذهب هاليداي إلى مستوى القول بأنّ ‘الحديث عن الإسلام باعتباره تهديداً، هو محض هراء’، بل وأطلق صفة السطحية على فكرة ‘التهديد الضروري’، وأنّ الغرب ‘خسر عدوّه المتمثل في الشيوعية بعد عام 1989، وتوجب عليه بعدها أن يعيد اختراع عدوّ آخر يتمثّل في الإسلام’. ولكنه، في الآن ذاته، اختزل التوتّر (أيّاً كانت درجة شدّته) بين الغرب والعالم الإسلامي، إلى الرغبة البريئة التالية: ‘إنّ ما يريده الغرب، بصورته المتمثلة في الديمقراطيات الصناعية، هو ببساطة عالم يكون شبيهاً بالغرب ما أمكن، يتاجر معه، وفق علاقات سلمية، ونحو ذلك’… ليس أكثر من ذلك!
وفي الملفّ الثالث اعتبر هاليداي أنّ صعود جورج بوش الابن، بعد ولايته الثانية خصوصاً، قد أنهى ثلاث مراحل انتقالية في السياسة الدولية: الفضيحة الأخلاقية والسياسية التي اكتنفت انتخابه رئيساً سنة 2000، رغم أنه جاء ثانياً في التصويت الشعبي؛ وسلسلة التناقضات التي اكتنفت ما بعد 11/9/2001، خصوصاً لجهة تطوير عقيدة ‘محور الشرّ’ وتمكين المحافظين الجدد من مناصب أساسية في الإدارة؛ وأخيراً، وضع خاتمة نهائية للتنافس بين المعسكرين الغربي والشرقي، والشروع في أطوار ما بعد سقوط جدار برلين. وهاليداي لم يكن يحبّ كثيراً الحديث عن نزوعات إمبراطورية أمريكية، ولهذا فإنه لم يدرج غزو أفغانستان والعراق في أيّ من هذه المراحل الإنتقالية.
بدل هذا، في مقالة بعنوان ‘انتصار بوش: ثلاث نهايات وبداية واحدة’، كتب يقول: ‘نستطيع بالفعل أن نرى، بعد كريستوفر كولومبوس بنصف ألفية، بُعدَين يتجلى من خلالهما ردّ العالم غير الغربي على الهيمنة الغربية. الأوّل، ويقع في الغرب/ الشرق الأوسط، هو الهجوم العسكري والسياسي للقاعدة، الذي شكّل في 11/9 أوّل هجمة عسكرية تشنّها قوّة سياسية عالمية على أرض دولة غربية. الثاني، ويقع في جنوب آسيا، فهو صعود الصين وتعاظم مطامحها السياسية والعسكرية’.
أمّا في بيت القصيد، أيّ الملفّ الثاني، فإنّ هاليداي اعتبر حرب العراق ‘مجرّد جانب واحد’ من ‘أزمة غرب ـ آسيوية أعرض’، تنطوي على الكثير من الاخطار والتهديدات، كما قال محاضرة مطوّلة بعنوان ‘الشرق الأوسط بعد صدّام حسين’، ألقاها في لندن سنة 2004. وتلك ‘الأزمة’ فرضت على مواطني العولمة أن يبحثوا في القضايا الأخلاقية والشرعية المعيارية وراء هذه الحرب، وأن يتحلّوا بروح نقدية تجاه الأوهام الدعاوية التي تروّج لها الدول وخصومها على حدّ سواء، ممّا أعاد قرّاء هاليداي إلى طور سابق في أفكاره حول العراق وأمريكا.
ففي أوائل العام 1991 كان الرجل قد اعتبر أنّ حرب الخليج وضعته أمام خيارين أحلاهما مرّ عليه، وعلى حاضره الأكاديمي والفكري بصفة خاصة، قبل سالف أيامه ومواقفه كما للمرء أن يتخيّل. ولقد بدأ هكذا: ‘الأمر ببساطة هو التالي: إذا قُدّر لي أن اختار بين الإمبريالية والفاشية، فسأختار الإمبريالية’؛ ثم خفّف التصريح قليلاً بعد بضعة شهور: ‘إذا قدّر للمرء أن يختار بين الإمبريالية والفاشية. فإنّ الأولى هي أهون الشرّين’. ذروة الاطروحة كانت مناشدة الأمريكيين أن يتمّوا مهمّتهم في بغداد: ‘الوسيلة الوحيدة لتدمير النظام البعثي هي الزحف على بغداد. الولايات المتحدة شجّعت الديمقراطية في أماكن أخرى من العالم، لكني اعتقد أنها قصّرت في الشرق الأوسط. ربما بسبب النفط، أو لأنها لا ترى أن الأمر يستحق العناء هناك’.
ولقد أبدى هاليداي موافقة صريحة على الشروع في العمل العسكري، لأنّ صدّام حسين لم يكترث بالمفاوضات أو البحث عن حلّ سلمي (الأمر الذي انطوى على استعداد النجم اليساري السابق لتبرير خمسة أسابيع من القصف، سقط فيها على العراق مقدار من المواد المتفجرة يفوق ما سقط على ألمانيا في خمس سنوات)؛ وسخر من ‘القائلين بعدم شرعية الحرب استناداً إلى اعتبارات أخلاقية مثل أعداد القتلى، أو تدمير المنشآت المدنية، أو قصف ملجأ العامرية’. وفي إسهامه الأشهر حول هذا النقاش، أي مقالته ‘اليسار والحرب’، رأى هاليداي أن موقف الغالبية العظمى من قوى اليسار في معارضة اللجوء إلى العمل العسكري كان خطأ فادحاً، وقصوراً في الحسّ السياسي والأخلاقي والتاريخي يذكّر بالأخطاء الكارثية للثلاثينيات، حين عارضت القوى اليسارية الحرب فلم تقم بأكثر من تشجيع صعود أدولف هتلر والفاشية!
وكان طبيعياً، والحال هذه، أن يستنكر هاليداي ردود الأفعال التي صدرت عن ‘أبواق اليسار’ ضدّ موقفه المؤيد ـ بشروط، كما ألحّ! ـ لاستخدام العنف ضدّ العراق. ولقد طرح على معارضي الحرب أربعة أسئلة مزجت الدفاع الذاتي بالخدمة الذاتية في تسويغ المواقف. السؤال الأول يتصل بالكويت ذاتها، وما إذا كان المعارضون للحرب يقرّون بحقّ البلد في الوجود أم لا. سال حبر كثير في وصف الشخصية الأوتوريتارية والإقطاعية لآل الصباح كما كتب (وكأنه يذكّرنا بعمله الأوّل ‘جزيرة العرب بلا سلاطين’!)؛ لكنّ افتقار حكومة ما إلى الشرعية أمر مختلف تماماً عن إلغاء شرعية البلد بأسره. وإذا كان متوسط دخل الفردي الكويتي 15 ألف دولار، فهذا لا يعني حجب حقّ تقرير المصير عن ذلك الفرد. وكيف يمكن لأبواق اليسار أن تتجاهل المقاومة الكويتية المطالبة بالتغيير الديمقراطي والسياسي؟
السؤال الثاني دار حول الشرعية المشروطة للحرب. اليسار يتذرع بأهوال الحرب وفظائعها، وينسى تأييده لحركات التحرر الوطني التي تسببت في خسائر بشرية أكبر بكثير من حرب الخليج. وأن تكون هذه الحرب شرعية، أو شُنّت في حدود وأطر الشرعية الدولية، أمر لا يعفي المعارضين لها من تقديم رؤيتهم ومعاييرهم لأيّ استخدام شرعي للقوة. صحيح أن جورج بوش، الأب، لم يعد مستعداً لإنقاذ صدام من الفخّ ابتداء من منتصف كانون الأول (ديسمبر) 1990، ولكنّ الفرصة كانت مواتية قبل ذلك وواصل العراق إهدارها حتى آخر لحظة. وفي جميع الأحوال فإنّ المسألة، في ناظر هاليداي، ‘لا تدور حول حلّ عسكري أو سلمي، بل حول بقاء صدام في الكويت أو طرده منها بالقوة’.
السؤال الثالث تناول العقوبات الإقتصادية والحلول السلمية كبديل عن الحرب. وهنا ذكر هاليداي أنه كان بين الذين أيّدوا العقوبات الاقتصادية، لكنّ ‘المقاومة التي يبديها العراق في الأسابيع الخمسة المنصرمة من الحرب، والثمن الذي لا يتورع صدام عن إجبار شعبه على دفعه، جعلتني أستنتج أن العقوبات لا يمكن أن تنجح’. أما بالنسبة إلى الحلول التفاوضية، فليس ‘ثمة دليل على أنّ العراق تعامل معها أو طرحها بشكل جدي. والأساس عنده أنّ ‘العمل العسكري ضدّ العراق مشروع مثلما كان مشروعاً تأييد الحرب في الثلاثينات والأربعينات لوقف صعود الفاشية’…
السؤال الرابع كان يخصّ مفهوم الإمبريالية ذاتها. معظم دوائر اليسار عارضت الحرب لأنها ستوطد مواقع الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم والتحكّم بمقدراته، وذلك في رأي هاليداي صحيح هنا كما كان صحيحاً في الحرب العالمية الثانية. ولكن ‘ثمة أحادية صارخة في اعتماد هذا المعيار وحده’، فالمسؤولية عن موقف كهذا لا تقع على عاتق مَنْ يقفون ضدّ العدوان العراقي، بل على مَنْ أمر بالعدوان ونفّذه أساساً. ‘هذه مناهضة زائفة للإمبريالية’، ويتوجب على اليسار أن يقلع عن عادته في تأييد أية حركة مناهضة للإمبريالية كيفما اتفق، مثلما يتوجب على اليسار أن يكفّ عن لعن أيّ مقال لمجرد أنه نُشر على صفحات :نيويورك تايمز’!
بعد خمسة أعوام، في فصل عن حرب الخليج الثانية ضمّه كتابه ‘الإسلام وخرافة المواجهة’، كتب هاليداي: ‘إذا كانت أزمة الخليج والنقاش العام حولها قد أسفرا عن شيء ما، فإنه الوعي بمقدار ما اتصف به النقاش العام من اضطراب وقصر نظر وافتقار إلى العمق التاريخي أو المقارن أو المفهومي’. نعم، وهاليداي كان ـ وظلّ حتى ساعة رحيله ـ جزءاً من ذلك النقاش العام، لأنه استأنف ذلك الإفتقار في أسوأ أشكاله: الإفقار عن سابق قصد وتصميم واختيار، إذْ لم يتزحزح صاحبنا قيد أنملة عن تلك التحليلات التي أعلنها تحت وطأة مناخات عصابية، شفي منها الآن العشرات من عتاة مؤيدي الحرب وغزو العراق.
جدير بالإنتباه أنّ هاليداي التزم صمتاً شبه مطبق عن التطورات اللاحقة التي شهدها المأزق الأمريكي العسكري والسياسي والأمني والأخلاقي في العراق، ولم يتناول مشكلات الدستور والفيدرالية، والتوتير الطائفي، والعنف المزدوج الذي يمارسه الإرهابيون والمحتلّون في آن. ورغم أنه عاش مأزق رأس المال المعاصر، وتابع ما انتهت إليه سياسات بوش الابن ودهاقنة المحافظين الجدد في الإدارة السابقة، مثلما راقب تخبّط الإدارة الراهنة، فإنّ هاليداي رحل وهو على يقين من أنّ الإمبريالية قوّة تقدّمية في بلدان العالم الثالث، ومثلها النظام الرأسمالي.
ومن الإنصاف، في رثاء بعض فضائله على الأقلّ، التذكير بأنه كان أوّل ضحايا التشخيص الذي صاغه بنفسه: ‘تاريخ الشرق الأوسط هو الأطول احتكاكاً بالغرب، ومع ذلك فإنه التاريخ الأضعف فهماً’. فكيف إذا أتى الفهم من يسار انقلب، ظهراً على عقب!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –