بشأن تنظيم عملية الانتقال الديموقراطي
محمد حلمي عبدالوهاب
يذهب عدد لا بأس به من المحللين إلى القول: إنّ معركة التحوّل الديموقراطيّ قد بدأت بالفعل في عالمنا العربيّ، وأن الصراع السياسيّ يدور كله الآن حول تعيين طبيعة السُلطة وقواعد التعامل معها من منطلقات الديموقراطية ووحيها. والسبب في ذلك، ليس انهيار مشروعية الحكم الاستبداديّ وظهور الديموقراطية كأفق وحيد ممكن للتعامل السياسي داخل المجتمع الواحد، بقدر ما أن الحداثة العربية على الرغم من طابعها الهش والمُشوه – قد بذرت في مجتمعاتنا عناصر الروح السياسية الوطنية والفردية التي لا يمكن معالجتها من دون تطوير النظام السياسيّ التقليديّ. وبهذا المعنى فقط يمكننا القول: إننا كعرب دخلنا عصر الديموقراطية، بمعنى أنها أصبحت أخيراً الأفق الرئيس لنضالنا السياسيّ!
على أنّ مَن يدور في فلك هذا الرأي يُحدد الديموقراطية بمعنيين رئيسيين لا ثالث لهما: أولهما نظام القيم الذي ارتبط بفكرة الحريّة وجعل منها القيمة المحورية بالنسبة للإنسان (بصفتيه الفردية والجماعية) وجعل من ممارستها، والدفاع عنها، وتنميتها، مصدر المشروعية الحقيقيّ للنظام المدنيّ (أي لقيام المجتمع ككيان سياسيّ). ثانيهما: النظام السياسيّ النابع من استلهام قيمة الحرية كمبدأ وقيمة اجتماعية عليا جديدة ينبغي أن تخضع لها ممارسة السلطة بهدف الحدّ من نزوعها الدائم لكل من الاستبداد والتسلط والشمولية.
ومن ثم؛ ينبغي أن تتمحور الاستراتيجية الجديدة لتنظيم عملية الانتقال الديموقراطيّ أولا حول مُعالجة الجوانب الرئيسة المرتبطة أساساً بمشاكل العالم العربيّ سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً وفي مقدمتها: الإصلاح الاقتصاديّ والاجتماعيّ انطلاقاً من الإيمان بأنّ معالجة الأزمات الاقتصادية وما يرتبط بها من تقلص فرص التنمية تعد شرطاً ضرورياً يمهد الطريق أمام التحولات السياسية الديموقراطية، وجعل الاختيار الديموقراطيّ هدفاً ممكناً بالنسبة لجميع الطبقات الاجتماعية.
العامل الثاني من عوامل استراتيجية تنظيم الانتقال الديموقراطيّ يتمثل في ضرورة العمل على تخفيف حدة التوترات الطائفية والعرقية والمذهبية (أو العمل على إنهائها بصورة قطعية) ودرء مخاطر الفوضى والانقسام التي تهدد أغلب الدول والمجتمعات العربية. وعلينا أنّ لا ننسى دائماً أنّ جزءاً كبيراً من المبالغة المقصودة في هذه المخاوف مبعثها سعي النخب القائمة إلى تضخيم المخاطر الناجمة عن الانفتاح السياسيّ في سبيل التمديد لنفسها، وتجميد الأوضاع القائمة على حالها!
وبالإضافة إلى مركزيّة العنصرين السابقين من ضمن استراتيجية الانتقال الديموقراطيّ المقترحة، ثمة عناصر أخرى من بينها: بلورة سياسة الانتقال السلميّ عبر ترسيخ مبدأ التفكير من جهة نظر المستقبل وتجاوز الماضي لدى الرأي العام من جهة، والنخب الاجتماعية المطالبة بالتغيير من جهة أخرى. وبموازاة ذلك أيضاً، يتعين علينا تغييرُ موقفنا السياسيّ العميق، ابتداءً باعتراف النخب القائمة بالفشل الذريع ومواجهة الواقع كما هو، مما يترتب عليه كسب ثقة الجماهير وقناعتهم بحتمية التغيير، وإيمانهم بصدق نوايا النخب القائمة في التغيير.
وهناك أيضاً عنصر آخر ومهم بالإضافة إلى ما سبق، ألا وهو: العمل على إعادة البناء السياسيّ للمجتمع (أي زرع وتوطين الهياكل المؤطرة له، المُعقلنة لسلوكه وحركته بما يتضمن إدخال الشروط الملائمة لنمو النقابات والجمعيات والأحزاب…إلخ)، وذلك بهدف ضمان عدم تحوّل الانفتاح إلى انفجار وفوضى عارمة.
وهناك أيضاً شرط مهم يتمثل في ضرورة إعادة التوازنات الكبرى (بمختلف أنواعها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية) وذلك عن طريق التمسك بمبادئ العدالة، والنزاهة، والمساواة الدستورية والفعلية، وإنهاء كافة أنماط التمييز والحظوة والعصبيات القبلية والطائفية والدينية، مما يقتضي أن نعيد للنخبة الاجتماعية الثقافية مكانها ودورها على حساب التضخم الخطير لدور ومكانة الأجهزة الأمنية، والمؤسسات العسكرية من جهة، وبعض الفئات الاجتماعية الصغيرة كالفنانين والرياضيين على حساب القاعدة الشعبية من جهة أخرى.
على أنّ مثل هذه السياسة الداخلية الهادفة إلى تفكيك عُقد الماضي، وتسهيل السير نحو وضعية وطنية جديدة، تحتاج بموازاتها إلى بلورة سياسة خارجية تشكل وسيلة لمنع استغلال الأزمات أو النزاعات الداخلية التي من الممكن حدوثها إبّان مرحلة الانتقال الديموقراطيّ. وفي كل أولئك، لا بد من إدراك حقيقة مؤكدة ألا وهي أن الديموقراطية ليست هي التي تحتاج إلى ضمانات، وإنما هي التي تشكل بالعكس من ذلك تماماً الوسيلة والضمانة الحقيقية للخروج من فوضى الانفلات. وبالتالي إذا كان هنالك من ضمانة حقيقية إلى جانب الديموقراطية، فإنها تتمثل في ضرورة إقناع الجماهير بنية التغيير الصادقة، وإظهار نتائج هذا التغيير عبر المزيد من الممارسة.
كما يتعين علينا أيضاً أن نكف عن المطالبة بالديموقراطية في حين نتنصل من نتائجها! فمن المعلوم أن الديموقراطية لا تقدم ضمانات، ولن تفيد في تخليد المصالح التي عجزت عن تخليد نفسها بالوسائل العنيفة القاسية، بل إنّ هدفها وغايتها أن تمكّن المجتمعات العربية من الخروج بوسائل سلمية من النفق المظلم الذي دخلت فيه، ومن ثم الانتقال إلى مناخ جديد وشروط أخرى أكثر ملاءمة لبلورة مجموعة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية الملاءمة. وبكلمة واحدة، الديموقراطية ليست حلاً نهائياً لمشكلاتنا المتفاقمة – على نحو ما يروّج البعض – ولكنها تمثل على الأقل الخطوة الأولى لوضعنا على الطريق الصحيح، وفي ذلك فقط تكمن أهميتها وضرورتها في آن معاً.
() أكاديمي وباحث مصري
المستقبل