صفحات العالمما يحدث في لبنان

الندب في عرس الديموقراطية

سليمان تقي الدين
لماذا نتفاجأ أمام كل حدث لبناني بالطائفية والمذهبية والعائلية، أو بسواها مما نعتبره ظاهرات «تخلّف» عن قيم العصر، أو ما هو غالب أو سائد من سلوكيات في الدول «المتقدّمة»؟ التخلّف بداية وصف لحال من التمايز يرجّح فيه الأقوى والأكثر شيوعاً. ليس كل ما في هذا الاختلاف والتمايز يقع في خانة السلبية. هذه إشكالية يطول بحثها. لكن هناك قيماً ومعايير إنسانية شاملة ليست محل جدل، تنطلق من حرية الإنسان وكرامته. فلا يعيبنّ أحد علينا أن نتحدّث عن تخلّف شعبنا. هذا التخلّف يتمثل في إدارة شؤون مجتمعنا وتتحكّم فيه بصورة أساسية السلطة.
إذا كانت الحداثة أحد عناصر التقدم فنحن شعب الحداثة بلا منازع في مجالات وميادين عدة. إذا كان الإبداع والخلق والنشاط والنجاح والعلم والثقافة هي من عناصر التقدم فلسنا مقصّرين حيث تتوافر الظروف والفرص والمناخات. إذا كانت الأمور بالقياس والنسبية فنحن كجماعة قدمنا الكثير مما هو أفضل عن محيطنا. مشكلتنا كانت دائماً مرتبطة بإيجاد صيغة لإدارة اجتماعنا السياسي تؤمن الاستقرار وتكافؤ الفرص وإبعاد الفساد وتقديم الأفضل. نجحنا في إيجاد تصوّر معقول لهذا الإطار العام وفشلنا في تنفيذه. العلة الرئيسية هنا أن لبنان بلد صغير تهيمن عليه السياسات الخارجية، تستضعفه وتستقوي عليه بأشكال مختلفة من المؤثرات وتجد فيه الكثير من النخب السياسية الجاهزة للوكالة والعمل بموجب تلك المصالح والمشاريع. وهذه النخب تستثمر كل عناصر الضعف في المجتمع اللبناني في مصلحة فئويتها.
في الربع الأخير من القرن الماضي كنا على مشارف إنجاز تحوّل سياسي أفضل. لا نقول إنه ديموقراطي مئة في المئة، ولا نقول إنه مثالي ونموذجي، فقد خالطته الكثير من الشوائب والكثير من الانحرافات. لكن النهوض السياسي كان آنذاك يعد بتفكيك البنية الطائفية والعشائرية لمصلحة قوى سياسية حديثة في اليمين واليسار على حد سواء. فكرة الإصلاح السياسي دخلت إلى كل بيت بالمعنى الواسع للكلمة، بلغت الكنيسة وبلغت الجامع. أهمية تلك التجربة أنها حملت قضية التغيير بصورة شاملة. حملتها في لبنان وحملتها إلى دنيا العرب. بيروت التي صارت منارة عربية، هي تلك التي احتضنت كل قضايا العرب والإنسان العربي. لا يمكن لنا أن نعتذر من بيروت لأنها حملت قضية فلسطين، بل نعتذر عن السلوك القبلي العربي، والعدوانية الإسرائيلية والغربية، التي جعلت من هذه المهمة شاقة وصعبة ومكلفة وفيها الكثير من الأخطاء والملابسات.
فشلنا في تطوير الديموقراطية لأنها تعرضت إلى انقلاب خطير بالحرب الأهلية وبالتعريب والتدويل لحياتنا السياسية. كان الزعماء اللبنانيون يتأثرون بالخارج لكنهم اليوم يُصنعون في الخارج. ينظم الخارج توزيع السلطة عندنا، ويموّل التيارات السياسية ويفبرك الرأي العام. بين من هم في السلطة وبين حياتنا الاجتماعية وقيمنا وثقافتنا هناك تناقض كبير. بين قوة عناصر التقدم وقوة وأدوات ووسائل الإدارة السياسية المتخلفة فارق خطير. نحن مجتمع مغلوب بتوازن خارج بنيته وقدراته ومكوّناته. الأقليات المنظمة المتماسكة والممسكة بمواقع التأثير الاقتصادي والإعلامي والخدماتي تتغلّب على الأكثريات غير المنظمة وغير المؤطرة في حركات سياسية. لا تستطيع أن تمارس ديموقراطية حيث القوى السياسية الفاعلة غير ديموقراطية. العنف المادي والمعنوي يسيطر على العمل السياسي ويستخدم السلطة الأبوية والعصبية الدينية والعائلية.
لم تعد عندنا ديموقراطية لأن الفرد مستضعَفٌ لا حماية له سياسية أو اجتماعية أو قضائية. تعزله الطائفية والقبلية ولا تحميه سلطة. نحن مجتمع الفرد الحر فيه يشبه «الصعاليك» في المجتمع العربي القديم، ويشبه «الطفار» في مجتمع الأرياف اللبنانية. تعرف الطبقة السياسية بالضبط أين تحاصر المتمردين عليها، سلطة المال، سلطة الأمن، سلطة العدالة. أزمة العدالة عندنا أخطر مظهر لانحلال الدولة التي هي ملاذ المواطنين.
سلطة العدالة تستخدم ضد قوى سياسية كبيرة أحياناً، تطاول بعسفها شخصيات مهمة ومؤثرة، أين يجد المواطن العادي ضمانته وحمايته. يلوذ المواطن بالحزب، بالجماعة الحديثة، فإذا بها تأطير لعناصر المجتمع التقليدية، يلوذ بالطائفة وبالعائلة. المواطن مكرَهٌ على الانتماء، ملزَم بالاحتماء، مجبَر على الالتحاق. ليس العيب في الناس بل في ضعف النخب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي لا تؤدي دورها في الصراع من أجل التقدم. ليست هذه النخب حرة بالمطلق، لكنها تملك عناصر الحرية، بمستواها الاجتماعي، بسلطة وظيفتها الاجتماعية.
يستطيع رجل الاقتصاد أن يقاوم والقاضي والمعلم والملاك الزراعي والإعلامي والموظف والتاجر والحرفي والمثقف والفنان. الكثير من هؤلاء يقاومون، لكنهم لا يجتمعون على رأي ولا يأتلفون في مشروع. لا ينقص هؤلاء الأفكار بل العمل، لا ينقصهم العمل فقط بل التنظيم.
قوة الديموقراطية وأهميتها في عنصرين، في الأفراد الأحرار، وفي اجتماع الأفراد الأحرار على تكوين رأي عام فاعل منظم. لا ينقص اللبنانيين الوعي بالمشكلات بل تنقصهم إرادة الفعل السياسي وإيجاد الإطار التنظيمي لهذا الفعل. فكرة التغيير موجودة في أوسع الأوساط الشعبية. العجز عن التغيير قائم في غياب الإطار الجامع لهموم وتطلّعات هؤلاء الناس. يندب اللبنانيون حزناً في عرس الديموقراطية مع كل انتخابات. الديموقراطية تحتاج إلى ديموقراطيين.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى