“أرجوحة الأنفاس” للألمانية هرتا مولر: لغة توازي إحساس الاختناق بين طلقتي صراخ
تتوق الألمانية هرتا مولر الى النقاء، لكأنه سيف باطني تشهره مكان العمود الفقري، فتغرق وتُغرقنا في مناخ يقلّد الأحلام الكافكوية. كتابات مولر امتداد لهوس عميق، لخشية مؤرقة وفريدة، معلّقة في الشك ازاء الاضطرار الى محاربة عدو سائد ومتفشّ ويتعذر فهمه. عند فجر الفظاعات المقترفة بإسم أمة وعرق ساميين لا يقبلان محاججة، اجبر الافراد في اوروبا على تشكيل هوياتهم، فشيّد كل واحد منهم سورا في وجه القمع الموزّع. بيد ان الشدّ انتقل بدفع من حكايات مولر الرومانية المولد الى ثنايا المعيش، فصار من اغراض النساء والرجال العاديين انّى حلّوا ومهما تشتت افكارهم.
في غمرة نيل مولر “نوبل” للآداب في الخريف الماضي، عرفت روايتها “أرجوحة الأنفاس” الصادرة بالألمانية لدى دار “هانزير فيرلاغ” الانبعاث. عادت الجذوة الى تلك القصة المروّعة والتحفة المشتّتة للسكينة، تتكوّر على اعتقال الرومانيين الألمان وترحيلهم الى المعتقلات السوفياتية في اعقاب خواتيم الحرب الكونية الثانية. النص من بين افضل منجزات الكاتبة بلا ريب، تبين في كنفه جسورة ومثيرة للإحترام، وتقفز باللغة الى اللقطة التصويرية، فيما لا تتهاون مع وصف الإذلال والتململ والإنحطاط والجوع السائد دوما، وتسخير آلاف المُبعدين من ساكسونيي ترانسلفانيا وسواهم الى السهول السوفياتية، والدفع بهم، بالإكراه، صوب الاشغال الشاقة. توفّر مولر نظرة “من باطن جهنم”، حيث الألوان حيوية في زيتية تحوّل الناس في زنازين يكسدون فيها، كما في المستودعات. عضّ الرومانيون الألمان على صمتهم طويلا ليستغيثوا برمق أخير، في عمل ادبي يكاد يصلح حالة خاصة في الأدب الأوروبي الذي يجايلنا.
كان الشاعر الروماني الألماني اوسكار باستيور ووالدة مولر عينها في قافلة المبعدين. غير ان البحث في تجاربهم بقي من قماشة المحرّمات، كتجارب قوافل مواطنيهم بين سن السابعة عشرة والخامسة والاربعين، رحّلوا الى المعتقلات السوفياتية بعيد وصول الجيش الأحمر الى رومانيا، وهي تلوّح بعلم الانهزام. لأن مولر تؤمن بدماثة الوقائع العارية في ذاك العالم اللاحق للكارثة، خطّطت وباستيور لإنجاز رواية تغرف من ذكرياته الشفوية ومن نثار استدعاءات المعتقلين السابقين المتحدرين من مسقطها في رومانيا. عدّلت وفاة باستيور في عام 2006 مسار المشروع لعام، قبل ان تنصرف مولر الى نقل تلك الملاحظات الغضّة الى مرتع روائي. استخرجت “أرجوحة الأنفاس” تاليا من حقائق يوميات الحجز ومن فترة لاحقة ووجيزة بعدذاك، فبلورت عملا ينتمي الى الرواية التاريخية وادب الذاكرة، يأتي بصورة واقعية تكاد تكون ساذجة.
اختبر الشاعر اوسكار باستيور هذه الجحيم لخمس سنوات، فشكّل بطانية جوّانية لسيرة شخصية ليوبولد اوبيرغ المتخيّلة والمتفتحة في مطلع عام 1944. اما الحيثيات التاريخية المنوطة بصديق مولر، فتشبّعت بالغنائية، ليصير تكريم الشاعر دنوّاً لغوياً ممتعاً منه. من جراء قوة شاعرية مهولة، تفهمُ مولر البؤس الأكثر مادية وتأخذه الى اللغو الكلامي. هناك تجربة الجوع مثلا، تقدمها مباشرة وعلى نحو عادل، كمسألة تتجاوز كل تفهّم. في وسط التدمير النفساني، تقرأ الرواية وثيقة عن الوحدة وشهادة على رحمة الدقّة الأدبية وتعاطفها. ثمة حزن ساحر ومخيف في حركة الرواية عينها، وبراعة طائشة غير مغلّفة. يمكن اذاً بسهولة، رسم حدود الكتاب في كنف انسانية شاعرية اثّثها بريمو ليفي او اميري كيرتيش او فارلام شالاموف. غير ان دمغة مولر في تضميد كلماتها بغشاء مجازي، وصلت الى صميم الرواية، وقد يجعلنا ذلك نتحسّس التباسا في موقف ينبغي لنا اتخاذه. في هذا السياق ربما لا يشي تعبير “أرجوحة الانفاس” تماما بمقاربة الجميع، غير انه يبعث بتحفيز ايجابي فيجعل هناك احتمالاً لتلقف الرواية بوصفها هدية جميلة وإن مرهقة.
عند مفصل تعرّف القارئ الى الراوي الشاب، تنصرف اسرته الى مساعدته في توضيب حاجياته القليلة، محاولةً التعتيم على الخوف والعجز الملاصقين لمصير محتم. “ادرك انك سترجع”، تبوح جدة المراهق لابن السبعة عشر ربيعا، عشية اصطحاب الجيش الروسي له صوب المعتقلات. منذ الطلق النثري الاول، ندرك اننا في حضرة روائية لها سطوة على الكلمات، ومذهلة في التعاطي مع ثيمة جدّية، منحها التعاون المستفيض والبحث المتأني، الى جوار باستيور، مذاق الحقيقة. يلحق الراوي كالقطيع بقطار مخصص للماشية يحاذي رفاق سفر اخرين سيصيرون رفاق عزلة مشتركة، ليشرع في رحلة منهكة وتأنيبية الى الغولاغ.
في وسط مربعات الاحتجاز، بالكاد تذكر شؤون يتوقع القارئ مواجهتها، ذلك ان التفاصيل هي المحور، هي منمنمات أشياء تتراءى بلا قيمة في حين تنوب عن كرامة المحتجزين وتشدّد على السيطرة على حيواتهم ثم على فقدها. أما الأشد اذهالا، فنمط زعزعة الكاتبة لمفاهيم القارئ لأسوأ العناصر، كجوع عديم الشفقة يستهلك ليوبولد، فيما يبقيه في المحصّلة حيا، ذلك انه الصلة التي له والعالم. تحابي مولر حكاية الجوع الأبدي وصدق تلك المرحلة بجمل تصير مسلّمات: “من لم يؤمن بأي شيء كان عليه ان لا يأكل اي شيء”. اللاشيء ها هنا حاضر في الرواية وقائم على قشور حبّات البطاطا وحلم بحبات بطاطا غير موجودة. في وسع الاشياء ان تبوح بكل الخفايا. هناك الاسمنت وساعة حائط مكسورة ودجاجات “هزيلة كسرب من غيوم”، والخبز و”اللعاب الذي يجعل الحساء يزيد”. يدخلنا ليوبولد عالما محكوما بملائكة اشتياق الغذاء، حيث مقتنيات الحياة اليومية تتّخذ معاني قصوى، لتحمل فصول عدة اسماءها تحديدا من قبيل الاوشحة والصور وسواها. تدور الحياة حولها، ويفقد اي بعد للكرونولوجيا، فيما تحاك الرواية حول خيط زمني متلاش. في لحظة محددة، تتكسر العلاقات الانسانية الشتى ليصير البقاء على قيد الحياة متّكلا على الاغراض المفتقرة الى حياة. في لحظات الذروة، لا تتحفظ مولر عن اغداق تنظير متيبس وقاتل: “المعتقل كلمة عملية”، تقول.
اما عند الخروج من السجن، فثمة توقع لانشراح مفرط شبه انتشائي، غير ان ما يحدث للمفارقة هو الاستسلام الى الخوف. صار المعتقل مسكنهم على الرغم من الظروف القاسية والقاتمة. صارت الجدران “انترا موروس” حاضنة امانهم، اما القمع اليومي فغدا عند خروجهم روتينا يوميا “اكسترا موروس”.
يصف ليوبولد المعتقل كشاعر مستقبلي. ها هو شاب يوضّب “فاوست” غوته ودواوين شعرية في حقيبته، بيد انه عوض قراءتها، ينجز مقايضتها، صفحة تلو صفحة، كورق للفّ السجائر في مقابل رذاذ ملح وسكّر وطحين. فيما يقصّ ليوبولد المكان المرصود لبقاء كئيب، حيث لا تعني الكلمات الملقاة على الصفحات شيئا، تختلق لغة مولر صورا من جمال اخاذ. هناك قصائد في الطبيعة وأشعار غنّاء في مروج اوكرانيا واخرى مهداة الى الجوع ودقائق اطلاق السراح. يستتر ليوبولد بالكلمات فرارا وراحة من الاوزار، بينما تتخذ الاصوات الروسية غير المألوفة بالنسبة الى الاذان الالمانية معنى جديدا، في مسار تلاعبي جرّبته مولر قبلذاك.
نبرة الراوي ساذجة على نحو غير متوقع، فيما صبغت اللغة بما يشبه طبقة من الطلاء الرقيق، ذلك اننا في الاربعينات من القرن الماضي في المحصلة، واللغة الالمانية المستخدمة هنا ملك لرومانيي ترانسلفانيا وحكر على لهجات تجمدت في ايقاعها بمنأى عن منطق الزمن مذ جاء المستعمرون الالمان الى رومانيا قبل قرون. نجد اداة اضافية مألوفة لمولر في اعمالها السابقة، تتمثل في استقطاب للتركيبات اللاامتثالية كـ”ارجوحة الانفاس” العنوان، وهو مصطلح غامض لا يسهل فك اغلاله بلا ريب. اختير للرواية عنوان “احمل ما املك معي” في النسخة الانكليزية، جاعلا الكتاب اكثر وضوحا ومقروئية منذ اللحظة الاولى. تلك احدى الجمل المفاتيح في مطلع الرواية وفي خواتيمها، تشدد على حياة ليوبولد الحاضرة والمتجولة، ولها ما يعادلها في نصوص مولر الآنفة. في الرواية وفي اماكن اخرى، يجري توضيب الحقائب او افراغها، لتتخذ الحركة غرضا اساسيا ورمزيا.
انها رواية مذهلة حيث تسرّ اللغة الواقعة بين الشعر والاتقان النثري، بالبساطة والصور. ثمة سيدة شابة في المعتقل تحاول الفرار الى منزلها، غير ان بصمات قدميها في جوار مخبئها، تفضح امرها فتعلن انها لن تسامح الثلج، فاضح احوالها. ذلك ان كل العناصر الاخرى، أكانت المياه ام الرمال ام الوسخ، كانت لتبتلع البرهان على وجودها. فيما الثلج المنهمر الطازج يعجز عن المكوث شريكا صامتا. تلك من ضمن معايير صدى ادبي فريد، من بين اخرى جمة، من الممتع التوقف عندها.
“ارجوحة الانفاس” قصة ليوبولد، بيد انها قصة اولئك الذين لازموه في المعتقل والذين رجعوا. انها حكاية جميع المقيمين في تلك الجحيم. في المطرح الموصوف، يفرض القدر عينه على الجميع، وهذا يجعلنا نميل الى نسيان ان البؤس، لحظة يلاقي المرء فرديا، في مطارح شبيهة، انما يلاقيهم جماعيا ايضا. تكاد الرواية تفتقر الى علامات استفهام، لأن الاجابات التي تعوزها قليلة فيما الحقائق غير مطروحة للتأويل. الاسئلة بسيطة اما الاجابات فملحّة وبرهوية، تماما كما حياة ليوبولد في هذا المكان تتراءى بسيطة بل تقريرية.
انه كتاب احد الافراد وكتاب المضطهدين على السواء، يقدم ذاك الاقتناع المغطّى بأسلوب يدركه الجميع بينما يحتفظ بالعجب وتراكم التقشف القادر. اسلوب يوازي احساس الاختناق بين طلقتي صراخ. هناك اختراع للشعر ايضا في خضم الرواية، في وسعه القبض على مخالب العنف والمفزع في الصورة المتخيلة.
على بساطتها المذهلة، لا تنزوي “ارجوحة الانفاس” بالغموض او الاختلاجات النفسانية، ولا نجد جملة واحدة لا يمكنها ان تقوم من تلقاء نفسها. في وسط الرواية تقريبا، تصل المعاناة الى ذروتها في مرحلة تصير الاجساد “جلدا على عظم”، فيتمدد السرد عندئذ فوضويا وعلى نحو متصاعد. انها رواية جليلة وليس من طريقة ثانية للتقويم. تتمسك مولر بقرار صائب يقضي بالابتعاد عن درجة ماضية في الالتفاف حول سيرتها الذاتية والالمان تحت حكم نيكولاي تشاوتشيسكو.
افاضت الكاتبة في “ارجوحة الانفاس” للتأكيد ان زاويتها اللغوية اللامألوفة يمكنها الاتساع. تجعل هذه الرواية هرتا مولر لقية طال انتظارها بعد تضليل، وبعدما بقيت قبل “نوبل” في مقترب نقاد كثيرين، مجرد كتاب مغلق. نجحت مولر في ان تصنع ادبا ينبثق من الضرر ايضا.
رلى راشد
مقتطف: أرجــوحـــة الأنــفـــاس
حملتُ كل ما املك معي. في الواقع لم تكن هذه الاغراض لي. كانت مخصصة لهدف مختلف او شخص آخر. كانت الحقيبة المصنوعة من جلد الخنزير صندوقا للفونوغراف. اما المعطف فلوالدي، في حين كان المعطف الاخر الذي زنّر المخمل ياقته من مقتنيات جدي ومخصصا للمدينة. اما السراويل القصيرة فلعمّي ادوين. بينما لفافات الساق برباطات، منحة من جارنا اير كارب، والكفوف الخضراء لعمّتي فيني. اما انا فلم اكن املك سوى الوشاح الحريري وحقيبة الحمّام، وكانت هدايا تلقيتها خلال اعياد الميلاد السابقة.
في كانون الثاني 1945 كانت الحرب لا تزال متأججة. صدم الجميع بسبب إقدام الروس على اعتقالي في عزّ الشتاء بغية اقتيادي الى مكان مجهول، اراد الجميع منحي شيئا ما ربما يكون مفيدا، وإن لم يكن ليساعد فعلا. كان القرار حاسما، ادرج اسمي على القائمة الروسية، فقام الجميع بمنحي غرضا معينا وانجزوا استنتاجاتهم الخاصة التي لا رجوع عنها. اخذتُ الاغراض لأصل في سن السابعة عشرة الى استنتاجاتي الخاصة ايضا: في كل حال يبدو هذا التوقيت ملائما للرحيل. كنت لأرحل من دون العذر الذي وفرته اللائحة، وفي حال لم تنته الامور على نحو سيىء جدا، ربما يبين ما يجري مفيدا بالنسبة اليَّ. اردت الابتعاد من هذه المدينة الكشتبان، حيث لجميع الصخور عيون تحدق.
لم اكن خائفا بقدر ما كنت متشوقا في قرارة نفسي. كنت عديم الاحساس لأني اعتبرت اللائحة التي ادّت الى كرب اقربائي، مسألة يسهل تقبلها. تخوفوا من ان يحصل لي مكروه في بلاد اخرى. اما انا فأردت ان اقصد مكانا يجهلني.
حصل لي شيء معين، شيء ممنوع. كان شأنا غريبا ووسخا ومخزيا وجميلا. جرى في المتنزه في وسط الشجر، بعيدا في الخلف، في مكان ناءٍ وراء كومات العشب. في طريق العودة الى المنزل، قصدت وسط المتنزه، دخلت الخيمة الدائرية حيث عزفت الاوركسترات في الاعياد الرسمية. بقيت جالسا لبرهة. كان الضوء يخترق الغابة المنحوتة برقة. كان في وسعي مشاهدة الخوف في الحلقات الخاوية والمربعات والاشكال الرباعية الاضلاع، في حين جمع بينها جزع ابيض وكماشات. كان هذا طراز ضلالي، وطراز الرعب المقروء في وجه امي. تحت سقف هذه الخيمة اقسمت لنفسي اني لن اعود مجددا الى المتنزه.
كلما حاولت منع نفسي، كررت العودة، بعد يومين فحسب. كنت اعود الى موعدي في المتنزه كما صار يلقَّب.
(…)
للحب مواسمه. يضع موسم الخريف خاتمة للمتنزه. تصير الغابة عارية. نقلنا الموعد معنا الى “نبتون”. الى جانب بوابة حوض السباحة الحديدية كان ثمة رمز بيضوي يحمل بجعة.
(…)
في العودة الى تلك الحقبة، تماما قبل المعتقل، كان كل موعد ألبّيه يعني ان تنزل بي عقوبة الموت، وستظل الحال كذلك عند عودتي الى عام 1968 عندما غادرت البلاد. في حال تعرضي للاعتقال، كنت لأصرف عقوبة من خمس سنوات على الاقل. تم احتجاز الكثيرين. في اعقاب استجواب عنيف، كانوا يؤخذون من المتنزهات او الحمّامات العامة مباشرة الى الزنزانة، ومن هناك الى سجن المعتقلات في محاذاة القناة. اعرف اليوم ان احدا لم يرجع من القناة. لم تعد سوى جثث سائرة.
لقد شخت وافلست ولم اعد مناسبا لأيّ نوع من الحب. اما في المعتقل، فكنت لأعدم في حال ضُبطت متلبساً.
في اعقاب سنوات الاعتقال الخمس، رحت اجول يوميا في جلبة الشوارع، اتمرن ذهنيا على افضل الاشياء التي ينبغي لي قولها في حال اعتقالي متلبساً. حضّرت الف عذر وحجة. كنت احمل حقيبة صامتة. كنت احتجزت نفسي داخل صمت سحيق منذ وقت طويل، الى درجة انه لن يسعني ان احلّ الغلاف حول نفسي من طريق الكلام. جلّ ما سأفعله هو توضيب نفسي على نحو مختلف كلما تحدثت.
في آخر صيف من المواعيد، ومن اجل تمديد طريق عودتي الى المنزل من المتنزه عبر الشجر، دخلت من طريق المصادفة كنيسة الثالوث المقدس. كانت تلك اللحظة مثل القدر. رأيت الأزمنة المقبلة. على الركيزة الى جانب المذبح، رأيت قديسا في جبّته الرمادية، وكان يضع شاة بمثابة عقد. كانت الشاة حول عنقه، الصمت عينه. ثمة امور لا ينبغي الحديث عنها. غير اني اعي ما انا في صدد سرده. عندما اقول ان الصمت حول عنقك ليس كالصمت حول فمك. قبل زمني في المعتقل وخلاله وبعده، اي خلال خمس وعشرين سنة، كنت اعيش في مصيدة الخوف، خوف الدولة وخوف العائلة. كنت اخشى ان تحتجزني الدولة بوصفي مجرماً، في حين كنت ارتعد من فكرة ان تنبذني العائلة. في الشوارع المكتظة، صارت الحقائب المعروضة والنوافذ والمنازل والنوافير وبرك المياه كالمرايا بالنسبة اليَّ. نظرت الى نفسي وانا اكاد لا اصدق، خشيت ان اكون صرت شفافا في المحصلة. كان والدي استاذ فنون. في حال استخدم كلمتي “لون مائي”، كنت اجفل كأني تعرّضت للركل. ذلك ان هذه الكلمة ادركت فحوى الافكار التي بلغتها. اعتادت والدتي ان تكرر ونحن نتناول الوجبات “لا تطعن البطاطا بشوكتك، ستتفتت. استخدم الملعقة. اما الشوكة فاستخدمها للحم فحسب”.
كان صدغي يصدر اصواتا. كيف يمكنها استخدام كلمة لحم في سياق الحديث عن البطاطا والشوك؟ اي نوع من اللحم عنته؟ كانت مواعيدي تتولى نقض معاني اللحم بالنسبة إلي. كنت سارق نفسي، لقد خرجت الكلمات على نحو مباغت وقامت بالقبض عليَّ.
كان والداي، وخصوصا والدي مثل جميع الالمان في البلدة، يؤمنون بجمال الضفائر الشقر والجوارب البيض التي تصل الى مستوى الركبة. آمنوا بشكل مستطيل، كان شارب هتلر نموذجا عنه وآمنوا بنا نحن ساكسونيو ترانسلفانيا بوصفنا جزءاً من العرق الآري. شكّل سرّي من منظار جسدي فحسب اسوأ الشنع.
اردت الابتعاد عن اسرتي، وإن عنى ذلك ان اقطن معتقلا. شعرت بالاسى فحسب على والدتي، ذلك انها لم تستطع ان تفهم كم انها تجهلني. خلال فترة غيابي، فكرَت بي اكثر مما فكرتُ بها. في الكنيسة، الى جوار القديس الذي وضع شاة الصمت حول عنقه، رأيت قبة بيضاء حملت كتابة “السموات تجعل الزمن يتحرك”. عندما وضبت حقيبتي، ادركت ان القبة البيضاء فعلت فعلها. حل الآن الزمن المتحرك. كنت مغتبطا الى درجة اني لم اضطر الى الانخراط في الحرب او الذهاب الى الجبهة حيث الثلوج. بجرأة على تهور، رحت اوضب الحقيبة بطاعة. لم انبذ اي شيء: لفافات الساق برباطات، والسراويل القصيرة والمعطف المزيّن بالمخمل على مستوى الياقة. لم يكن ايّ من هذه الأغراض يلائمني. كان الوقت المتحرك الامر الاهم وليس الملابس. ستصير راشدا في كل حال، في وجود هذه الثياب وغيرها، او في غيابها. فكرت ان العالم ليس فستانا تنكريا، هذا صحيح، غير انه لا يمكن احدا ينبغي له أن يقصد الروس في عز الشتاء، ان يبدو سخيفا.
حمل شرطيان، احدهما روماني والاخر روسي، القائمة من منزل الى آخر. شكّلا دورية. لا اعلم المزيد، لا ادرك اذا نطقا بكلمة “معتقل” في منزلنا. وفي حال فعلا ذلك، اي كلمة تلفظوا بها الى جانب كلمة “روسيا”. لم تكن كلمة “معتقل” ترعبني. على الرغم من الحرب، وصمت مواعيدي حول عنقي، كنت لا ازال في السابعة عشرة واتمتع بطفولة زاهية وغير مكترثة. في حين استحوذت عليَّ كلمات الألوان المائية واللحم. غير ان دماغي كان اصمّ ازاء كلمة “معتقل”.
في ذاك الزمن حول الطاولة حيث البطاطا والشوك، وعندما اعتقلت امي تفكيري بكلمة “لحم”، تذكرت طفولتي وانا العب في الفناء الخارجي بينما كانت والدتي تصيح من احدى النوافذ “إذا لم تصعد للتو، إذا جعلتني اناديك مجددا فستبقى حيث انت. ولأني مكثت حيث انا لبرهة اخرى، بادرتني ما إن رأتني “في وسعك توضيب حقيبتك المدرسية الان والخروج الى العالم والقيام بما يحلو لك”. فيما قالت هذا، جرّتني الى الغرفة واخذت حقيبة الظهر الصغيرة، وحشتها بقبعتي الصوفية وسترتي. سألتها “ولكن اين ينبغي لي الذهاب؟ انا ابنك على الرغم من كل شيء”.
يظن كثيرون ان التوضيب مسألة تدرّب، تتعلمه تلقائيا كالغناء او الصلاة. غير اننا لم نكن نملك تدربا او حقيبة حتى. عندما اضطر والدي الى أن يقصد الجبهة، للالتحاق بجيش رومانيا، لم يكن ثمة شيء ليوضبه. بوصفك جنديا يتم اعطاؤك كل شيء، وهذه الاغراض جزء من البزة العسكرية. كنا نوضب من اجل الرحيل بعيدا من البرد وضده، غير اننا لم نكن نعلم ما كنا نوضبه. عندما لا تكون الامور الصائبة في حوزتك، تقوم بالارتجال. تصير عندئذ الامور الخاطئة حاجاتك. تصير ما تحتاجه عندئذ الامر اليتيم الصائب، وذلك لأنك تملكه فحسب.
جلبت والدتي الفونوغراف من غرفة الجلوس ووضعته على طاولة المطبخ، ثم صنعت بواسطة مفك البراغي حقيبة من علبة الجهاز.
في قعر الحقيبة وضعتُ اربعة كتب، “فاوست” في نسخة فاخرة و”هكذا تكلم زرادشت” ومؤلف هزيل ليوزف فاينهيبر، فضلا عن انطولوجيا شعرية تمر بثمانية قرون. لم يكن ثمة روايات، لأن الروايات تقرأ مرة واحدة ثم لا تقرأ مجددا.
ترجمة ر. ر.
النهار