الاستشراق المُزدوج!
خيري منصور
لا بد من توسيع مصطلح الاستشراق كي يشمل ما يكتبه الشرق عن نفسه او عن بعضه، وما إن فرغت من قراءة كتاب الياباني فوتوهارا بعنوان ‘ العرب، وجهة نظر يابانية’، حتى تداعت في الذاكرة كتابات لا آخر لها عن الشرق، لكن بتلك الصفة التي حدّدها ادوارد سعيد عندما قال ان الشرق كما يقدمه الاستشراق خصوصا في بُعده الكولونيالي هو بدعة الغرب، لكن كيف يصنّف ما يكتبه الياباني والسّيني عن عالمنا العربي؟ خصوصا في هذه الآونة التي لم يعد فيها الشرق كلّه شرقا كما ان الغرب ايضا لم يعد متجانسا بحيث يمكن تناول ظواهره ومكوناته وافرازاته كما لو انها مُنجز تحدده الجغرافيا وحدها. لقد أخذ ناقدو اطروحات ادوارد سعيد في الاستشراق ومنهم د. صادق جلال العظم و د. نديم البيطار كونه عمّم وجانس بين كل او معظم ما كتب باللغات الأوروبية عن الشرق، فأصبح المقترب ميتافيزيقيا كما يقول العظم، ذلك لأن الاستشراق الالماني والروسي ايضا يصعب بل يتعذر وضعهما مع الاستشراقين الانغلوساكسوني والفرانكفوني في قارب واحد! ويبدو ان التسليم بجغرفة الاستشراق او أية ظاهرة أخرى به مجازفة كبرى، فالشرق لم يكن ذات يوم شرقا بالدلالة الثقافية والحضارية لهذه الكلمة، وعلى سبيل المثال لم تكن أثينا من الغرب تبعا لخطوط الطول والعرض ومجمل التضاريس التاريخية لهذا الكوكب، وهذه مناسبة للتذكير بأن من يذهب منّا الى طوكيو او بكين قد يفاجأ بأن مفهوم الشّرق كما نتداوله ليس دقيقا، وقد جرّبت هذا بنفسي عندما اكتشفت في بكين ان ثقافتنا ومزاجنا وأطعمتنا في معظم أجزاء الشرق الأوسط هي انجاز غربي، فالشرق بمعناه الحضاري لا الجهوي الدقيق هو هناك.. لهذا كان مقترب الياباني نوتوهارا، وهو الذي عاش في بلاد العرب وتردد على عاصمتين على الأقل أربعة عقود، نمطا من كتابة الرحلات لكنه مشفوع بدراية خاصة، فالكاتب الياباني أتقن العربية وأنجز كتابه بها، ولديه من الملاحظات الدقيقة حول تفاصيل كثيرة من حياتنا الاجتماعية والسياسية ما يدعو الى اعادة النظر في مصطلح الشرق، فما كتبه نوتوهارا ليس نقديا ذاتيا يضيف طوكيو الى دمشق والقاهرة وبيروت، فقد حدّد المسافة بينه وبين هذه المدن، لهذا بحث عن القواسم المشتركة بينها، وحين قارن بين الحياة وأنماطها في العالم العربي وبين نمط حياة اليابانيين انتهى الى نتائج حاسمة ..
* * * * * * *
قرأ نوتوهارا الأدب العربي بدءا من كونه طالبا في قسم الأدب العربي في جامعة طوكيو، وترجم اعمالا لنجيب محفوظ ويوسف ادريس وصنع الله ابراهيم وغيرهم، وان كانت فاتحة العلاقة بين الكاتب والواقع العربي كما يقول هي رواية ‘ الارض’ لعبد الرحمن الشرقاوي وهي التي اثارت فضوله للذهاب الى الريف المصري ومشاهدة ما سبق له ان قرأه عن كَثَب !
وللوهلة الاولى تبدو الحكايات والأمثلة التي يوردها الكاتب عن حياته في الوطن العربي كما لو انها امتداد أفقي لما كتبه مستشرقون غربيون، لكنه لا يصل الى ذلك الحدّ التعميمي الذي يختزل العربي الى بضع صفات سلبية، بحيث يكون كما قدمه الاستشراقان الفرنسي والانغلوساكسوني، ثأرياً وكاذباً ومنافقاً، بل له طبيعة خاصة، غير قابلة للتغير، كما وصفه طومسون مثلا عندما قال ان الدماغ العربي يشبه ثمرة الصّبـّير، او ما نسب الى حاكم عسكري فرنسي في المغرب العربي عندما قال: اذا طبخ الدماغان الفرنسي والعربي في اناء واحد فإن الحساء سوف يتجمّع حول كل منهما بطريقة مختلفة !
وان كان مجمل الحكايات التي يرويها الكاتب توحي بأن الواقع العربي فرض على الناس بسبب الحاجة وفائض الفساد والطغيان ان يكذبوا ويسرقوا ويراوغوا.
يقول مثلا ان موظفة بنك في عاصمة عربية سرقت جزءا من النقود التي تسلمها منها في المطار، ويقول ايضا انه شاهد سيدة مثقفة تضرب بسيارتها عربة بائع متجول ثم يسقط على الأرض، ولا تتوقف حتى لمجرد معرفة ما الذي جرى له، لكن التجارب ذات الدلالات السياسية التي يرويها الكاتب تستحق التأمل ليس فقط بسبب جسامتها بل لأنها تتيح للعربي ان يرى نفسه عن بُعد ولو لمرة واحدة .. فمن يتفلطح أنفه على اللوحة لا يرى منها سوى بقعة غامضة …
يروي حادثة وقعت لياباني اسمه تاكانو كان يسير في أحد الشوارع في عاصمة عربية ولم يخطر بباله انه مرّ بالقرب من بيت أحد المسؤولين، وفوجىء بمن يصفعه على وجهه لأنه اقترب من المجال المقدس والمحروس لذلك المسؤول السياسي !
ان ما يراه ويسمعه الوافد الى عالمنا العربي هو ذاته الذي سمعناه حتى ألفناه ورأيناه حتى اصابنا العمى، لفرط التكرار وبالتالي بسبب التأقلم الذي فرضته ضرورات الحياة، على حساب الحرية، واليابان التي طالما طرحت عربياً كأمثولة في العصامية الوطنية واختراق اسوار الحجر والحصار، لم يستطع العرب حتى الآن الافادة من نموذجها. حتى المفتونون بهذا النموذج لا علاقة لهم به لأنهم يعيشون وفق نواميس دونها الاعراف والقوانين. يذكر الكاتب ان احد رؤساء الوزارات في بلاده كان شخصية جاذبة، وكان محبوبا من الناس الى حدّ كبير بسبب الخدمات التي قدّمها لوطنه، لكن ما إن اكتـُشفت فضيحة اقتصادية كان له دور فيها حتى عوقب بمعزل عن كل ماضيه. وفي عالمنا العربي نعرف أن الفاسد يكافأ لأن السّائد الآن هو واحدة من أكبر مفارقات التاريخ، هجاء الفساد ومديح الفاسدين، وليس معنى ذلك ان اليابان هي اليوتوبيا او المدينة الفاضلة بالمقارنة مع الديستوبيا او المدينة العربية الراذلة، بل هو الفارق بين من يفقد ذاته لأنها لا تنعم بالمعصومية وبين من تأخذه العزّة بالإثم فيحوّل الأخطاء الى خطايا!
* * * * * *
هناك ملاحظة بالغة الأهمية يتوقف عندها الكاتب الياباني في اثناء حديثه عن الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي. يقول لماذا لم تتحول الصفات الخاصة والفضائل التي ينعم بها الأفراد في العالم العربي الى ظواهر اجتماعية ؟ فالعزل قائم بين هؤلاء الافراد والقواعد الاجتماعية التي يرتكزون اليها، ورغم ان مثل هذا القول يبدو مديحا لأفراد تجاوزوا شروطهم الا انه يتضمن ادانة ما لهم باعتبارهم النخبة فاقدة التأثير. وحين تكون النّخب على هذا النحو من البطالة بكل ابعادها السياسية والاجتماعية فإن الخلل ليس شيئا مجردا او في المسافة بين المثقف والمجتمع. انه من صميم العلاقة الاشكالية والجدلية بين الطرفين، وما كتبه نوتوهارا عن أعمال أدبية ترجم بعضها وقرأ البعض الآخر يبقى في العمق تنويعا على ملاحظاته السوسيولوجية التي قدّمها في النصف الأول من الكتاب. فهو مثلا يقرأ البداوة على مستويين، أحدهما تجريدي يتأسس على أفكار ورؤى سابقة والاخر نقدي تطبيقي، والمسافة التي فصلت الكاتب تربويا وسياسيا وثقافيا عن الواقع الذي يرصده اتاحت له ان يرى ما هو أشمل وأدق مما يراه المستغرقون في تفاصيل حياتهم اليومية، فهو ليس سائحا يلتقط المشاهد الطريفة، وبقدر ما هو باحث يستقرىء الظواهر، لكنه غالبا ما يعمّم خصوصا وهو يقارن بين نمطين من الثقافة والحياة ونظام الحكم، فالوقائع المنتقاة او حتى تلك التي تقع بالصدفة وليس بالتواتر الكافي لتنميطها لا تكفي لاختزال شعب او مجتمع في منظومة من الصفات المزمنة. لكن هذه المرة ايضا يتاح لنا ان نرى ما لا نراه تحت سحب الغبار والعمى السياسي من أدق تفاصيل حياتنا كعرب!
القدس العربي