جماليات الخفة والاعتداء على ثبات الإشارة في “حدائق هاملت” للشاعر السوري نوري الجراح
نصر جميل شعث
بادئ ذي بدء، نُسلّمُ مع الدرسِ السيميولوجي بأن البنيات التركيبية في النصّ، إنما، تكون في خدمة، وفي مَصلحةِ التعريف بالبنية الدلالية للنصّ.
“حدائق هاملت” للشاعر السوري نوري الجراح؛ تأخذنا على محمل المُرونة خارج أسيجة الدرس، لكن دون الانبتات منه، ذلك أنّ من جماليات الخفّة، في “حدائق هاملت”، بَثُّ الغمغمة أو النغمة الدلالية الرشيقة للعذابات والخيبات والانكسارات الخاصة، في خضمّ التجربة الشخصية، لدى الشاعر الجراح. ومن الجماليات، أيضًا، بعث الموقفِ من سرعة الوقت، وانخطاف الشاعر فيه.
نيّةُ القول، بشاكلة نقدية أخرى أن الغنائية الدلالية، لدى نوري الجراح، لابس قناع “هاملت” حافلةٌ باقتصاصات السرعة، وبِخِفّة اللغةِ المنظورة في القِصَرِ، والبتر، والتعشّق بأسلوب الهذيان. وكذلك، حافلةٌ بِخِفّة الأداة، منظورةً في مَسعيي حركة وضوء الأنواع: النصْل، السهم، الفأسِ…! فالخِفّةُ بما هي سرعة، والأداة بما هي مَمْدوحةٌ أو مدانةٌ بالسرعة؛ كلتاهما تتوجّهان، على نحوٍ جمالي فعّال، في الجسد – الفيزياء- المعتم الثقيل؛ الذي تتخفّف منهُ الذاتُ الشاعرة، وتعذّبه وتكسّره وتقتصّ منه، بطريق تضامن العقل مع الهذيان:
خيالي يزحزح الأكمةَ
وعقلي يُشقّقها
والآن، لا وقت أطول ولا أشق من دم يخدرّه سرٌّ
ويملأُه تلفّت الخائفِ
تلك سقطةُ مرح أسودَ
ستظلّ منظورةً في التفاتة من رأى.
ولا وقت أشقّ من وجه يتكسّر في قناعٍ
ولا
مما يبدّله العقل في الملامح
ما يتقطّرُ
في أذنِ النائم
وحديقته. (في الحديقة وراء الشجرة)
نهاري، أيضاً، حصّة خاطفة. (أقنعة هاملت)
إنّ من مَلَكات الذات الشاعرة في نصوص الشاعر، أنها تُنضجُ شأنها المعنوي، بممارساتها الدلالية، من خلال تبنيها خِفّة الأداة؛ لتوجيه مَهماتها – بوصف الأداة خارجًا بمثابة (آخر) – نحو الداخل بوصف الجسد، بتعبيراته وشاكلاته وتصريحاته وتنويعات حضوره الحسي والغنائي، داخلاً بمثابة (أنا). لذلك فهي تتقوى بـ”خِفّة محترقة” و مشتعلة ومُبْرقة، أكان مَبعثُ الضوء من قمّة الأداة (الشعلة) أم من صفات جسد الأداة. الأهمّ، في ضوء ذلك، هو أنّ الذات الشاعرة تقف في ِمواجهةِ الجسد المُعتم الثقيل، مُتقنّعة بالخِفّة؛ تلك الكينونة التي من متن وفضاء يتسمان بحَمْلِ الأشياء، وبإسباغ الشعرية على صفات الحركة والضوء؛ بما هي الأدوات خارجٌ (آخرُ) أرادتْهُ (الأنا) أن يُؤثّر في الجسدِ بفيزيائيته وغنائيته:
في الشعلة القارسة ضحكت يدي.
لم يرني أحدٌ، لم أر في أحدٍ.
السَّهْمُ غيّبَ صَوتي والسّرعةُ والخطرُ. (خطى فارغة)
إلي بالشعلة
السهاد يملأ عينيّ
لكأنني فتات شخص في تراب،
اليرقة قصّاصةٌ تهبُّ
لكن جسدي معتم وثقيل
لست هنا، ولست هناكَ
لست في أرض لأتحرك
الحافة ترسل الإشارة، والصمت يَستطلعُ..
رئتي، أيضاً، مكسورة
وما أحس.
الهواء همس أوراق تتكسّرُ،
حفيف يموت.
لكأنني نفحة،
شخص يلهو في هاوية ملونة. (حفيف يموت)
وهنا ينعقد السؤالُ البنيوي الذي لن نصرّح به، وإنما، ضِمنًا، نعتبره حاملَ الاقتراح والمصادقة على جماليات الأداة أولاً، وعلى شرّية الخير في تلافيف الجمال، بما هي الذات الشاعرة تجيبُ من خلال البنى التركيبة في النصوص: [ رخام أسود، مرح أسود، الخيوط السوداء، ماؤه الأسود، الوردة الحمراء التي كانت / سودا ء في الكوب، النور يطفح ويقطر أسودَ… ] مُظهرةً النزعة التشاؤمية، لدى الشاعر:
النور الخريف القوي، فأسه متروكة على رخام مسرع؛
السطح الصامت، المعدن، صلابة البرق. (مقتلة الرسول)
لقد رأينا، قبل قليل، أن الذات الشاعرة تُوظّفُ الأداة للاقتصاص من الجسد بتنوّعات ظهوره، في طريق تخصيب مدلولات العذابات والخيبات والانكسارات الخاصة، لدى الشاعر، في خضم التجربة والسرعة. الآن نجدُ الشاعرَ يُؤسّسُ ويُعمّق فكرةَ شرّيّة الخير، إذ بُمعدن النور، بوصفه قوّة أداتية – الآن- متروكة مُوظّفة على “رخامٍ مسرع”، على جسد مُسرعٍ لمآله. كذلك، فمن هذيانات الشاعر، المُزحزحِة، أنه في السرعة الخاطفة كان لادراكاته المنزاحة عن منطق الحواس والعقل، والغارقة في الاختلال والتشاؤم، أن تخلّ بتقاليد النور الخيّر الحسّي والمعنوي البشير، وأن تُصلّبَ البرق، أيضًا. البرق الذي نَعرف أنه يُسرّحُ إشارة التفاؤل، ويبشّر بالخير؛ البرقُ الذي من وَحْيِهِ “سُورةُ الربيع”. هذا البرقُ الدال، يَعتدي عليه الشاعرُ، حيث -الآن- صورةُ: “صلابة البرق” هي علامةُ التشاؤم، والمُنذرة بالشرّ والمُصرّحة بظهوره، – “النور الخريف القوي”- ، والمُهينة للأمل.
وإنّه لمن واجبنا إزاء عملية إفراغ البرق وملئه بعلامةٍ صلبة ومُعادية كما رأينا، أن نسدّد العرفان إلى رولان بارت السيميولوجي والتفكيكي معًا؛ الذي كان عبّر أنّ : “الدال فارغ، أما العلامة فممتلئة، ولها معنى”.
البرقُ يفتّتُ اللوحَ. (أقنعة هاملت)
ولعلّ هذا كله لا يعدو خارج هذيان هاملت نوري الجراح، الذي يعود لينفي عنه اعتماد الشرّ مِهنة ونية للانتقام من الجسد، ينفي عنه، إذًا، المازوكية والسادية، والتدميرية، وببريء النفس من اعتزامات الشرّ. ينفي التمثّل بشبحية الأداة. وينفي كينونة الحاضر – الكائن – في الأمس؛ ذلك التاريخ الجمعي والشخصي الشرّير التشاؤمي. فأنْ ينفي الشاعر – الآن- أن يكون “أحدًا في الأمس”؛ فذلك من قبيل إنزال الماضي للسفليّ، وإعلاء غناء الأنا، والكلمات التي تَضطلع بكشف أزمةِ الغربة والاغتراب الوجودي، في خضمّ، وفي سياق مدينة لندن، والتخفّف من هذا الجوّ الجهم بالذهاب لملء مَوقف أو مرحلة الأنا بجماليات الإعلاء والمَرَح والخير الخاصّ:
لست يقظة شرير، ولا نور ظالم
لست سهمًا في خفاء، لست أحدًا في الأمس
أنا برهة البلور، أنا هاملت، والحب لأن الفأس تستعدّ
لست سهمًا في خلاء، لست ألعوبة حالم
أترك لك التاريخَ، وأتنزّل كالسورة في الربيع. (هواء)
فإلى جانب غنائية “لستُ” الطاردة لقوى الشرّ، ثمة غنائيةُ “أنا” تتقدّم بوصفها برهة البلور. وهنا، فإن من محمولات الصورة الغنائية: النزعة النرجسية، التي تخبو في سرعة مآل البلور، ذلك الجسد السليم الممتلئ بنفسه، والمُسْتَفْرَغ بتحرّكه للانكسار والتشظي. إنه فيما هو كذلك، في برهة مآله، يشرق أو يبرق. وهذه، إنما، هي الغنائية التي تعوّض، ربما، وتسلّي الشاعر، في خضم فاعلية السهم (الأداة) والسرعة والخطر. وهذا، إنما، أيضًا، يكشف عن توطّن أنا الشاعر، الذي يتنصل من هاملت، ويكتفي بأقنعته، متخفّفًا ومتقنّعًا لاهيًا بالِخفّة في “برهة الظل”؛ لاتقاء العلوق في القلق والمأزق والسؤال الوجودي:
لست هو، ولن أكون،
لكني أتوارى،
لأستطلع..
لا وقت يشبه وقت الزهرة في يد الراكض
ولا برهة النصل ترسل نورَها في خفاء الحجر.
السمُّ في الساعةِ وفي أصابع من قَطَفَ،
من تخفّف في برهة الظلّ
على درجات
وراء الليل
حيث ارتج دمٌ، وطوى الواصلُ مظلّته. (في الحديقة وراء شجرة)
إن هذه الخفة واللهو، إنما تعبر عن صميم الموقف أو المرحلة الجمالية التي حدّدها كيركيغارد، الذي اعتبر أن هناك ثلاثة مواقف ممكنة إزاء الوجود، أطلق عليها مصطلح “مراحل”، وهي: “المرحلة الجمالية” ، “المرحلة الأخلاقية” ، و” المرحلة الدينية”. فالذي يعيش في المرحلة الجمالية، يعيش اللحظة، ويبحث في كل دقيقة، عن متعته، ويرى الخير فيما هو جميل وممتع. ومن هذه الزاوية، يعيش دائمًا في عالم الحواس. وأيضًا فما تحدد المرحلة الجمالية، ليس فقط متعة الحواس، وإنما، أيضًا، الموقف اللعبي من حقيقة الفن والفلسفة. حتى أنه يمكن النظر إلى الهموم والعذابات، وعيشها، من وجه نظر جمالية. والذي يعيش المرحلة الجمالية فقط، يداهمه بسرعة، شعور بالقلق والفراغ.. لكن ذلك يمثل شيئًا إيجابيًا، فالقلق، برأي كيركيغارد، شيء إيجابي، قليلاً، لأنه تعبير عن كوننا في “مرحلة وجودية”:
صباحك شيّق، أهوي به، وأهوي بِصُوري
وراء الضوء، غيابك يجعلني أُبْرِقُ
ولأنني كنت أمشي في فراغ، ونهاري في فراغ
يدى غائمة
والمطرُ يلهو . (خطى فارغة)
صدرت مجموعة “حدائق هاملت”، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- 2002 .
القدس العربي و
http://www.alhayat-j.com/details.php?opt=9&id=12226&cid=235