فصل جديد من محاكمة “ألف ليلة وليلة”
حسن داوود
لطالما تساجلنا حول من منّا يمتلك النسخة الكاملة من “ألف ليلة وليلة”. أن أقول إنّ التي في مكتبتي هي طبعة بولاق لم يعد كافياً ولا مفحماً. ذاك لأّنّ هناك أحدا ما من بين الجالسين سيقول لي، بعد أن أصف مجلّديها الأخضرين الفائضي الطول والعرض، إنّها ليست هي الأصلّية. ” إنّها أفضل من غيرها” يقول لي المشكّك الذي لن يظلّ هو نفسه في الجلسة الأخرى. وإذ لا يسلّم المشكّك، أو المشكّكون على التوالي، لا بنسختي ولا بنسخة سواي، تبدو ألف ليلة وليلة الكاملة كما لو أنّها في مدى لا يُبلغ. أقصد المدى الزمني الذي ينبغي أن نذهب فيه رجوعاً إلى أيّام مخطوطاتها الأولى. أو إلى أيّام ما كنّا في الضيعة ننتظر البائع الجوّال يأتي حاملاً أجزاءها بين أغراضه التي من بينها أقمشة لتخيطها النساء وشباشب ليرتدينها وأسياخ مسنونة وعقاقير لأوجاع البطن، وأشياء أخرى يصعب تخيّلها مجتمعة مع بائع واحد.
كان ذلك البائع يفرش أمامه كتبه التي كانت تبدو لي، أنا تلميذ المدرسة آنذاك، كأنّها ترجع إلى عهد طباعي منقرض. أذكر مثلا كتابا عن طرائف أبي نواس وآخر عن جواري هارون الرشيد وثالثا عن كيفية التداوي بالأعشاب، ثم هناك كتب الأدعية ومجزوءات الأحاديث وتغريبة بني هلال والأميرة ذات الهمّة. أمّا ألف ليلة وليلة فكانت مقسّمة أجزاء يحمل كلّ منها عنوانا مثل “قصة الحسن البصري” أو “قصّة السندباد البحري” أو حكاية النساء الثلاث مع الحمال… إلخ.
للأجيال التي سبقت، ومن بينها تلك التي كانت تنتظر البائع الجوّال حتى يأتيها بما تقرأه، كان ذلك التجاور بين الكتب ممكنا. وفي الأوساط الأكثر مدينيّة، كان يردف هذا التثقّف علم بالموسيقى وأصولها يلمّ به “المثقّف” العادي، على نحو ما كان يلمّ بأصول النحو والفقه. وكان كلّ ما تأتي به الكتب مقبولا من غير تحفّظ ولا منع. بعض من منعت كتبهم في سنواتنا الأخيرة هذه، بسبب إباحيتها، كانوا من الأعلام ، وبعضهم كانوا فقهاء ورجال دين. وهذا ما ميّز ثقافتنا في عهود ازدهارها حيث لم يترك الجنس حبيس المخيّلات والتهويمات وحدها، بل سعت إليه الكتابة سعيها إلى موضوعاتها الأخرى. كانت ثقافة متسّعة ومتنوّعة أدركت مبكرة ما اهتدت إليه الثقافات الأخرى بعد قرون كثيرة. وبين ما أدركته ثقافتنا، في ذلك الزمن المبكّر، أنّ ما يكتب هو ما يُشغِل.
وبلا مساءلة، ارتضت ثقافتنا تلك أن تضمّ كلّ ما كتب فيها إلى تراثها. فقط في السنوات الأخيرة بدأ ذلك المسار نحو “تهذيب” كتبنا وتخليصها مما يعيبها. ديوان أبي نواس، الذي جرى الحفاظ عليه كاملا طيلة قرون عديدة، انتبهنا الآن إلى أنّنا ضُلّلنا به وأُفسدنا جيلا بعد جيل. “النسخة التي عندك من ديوان أبي نواس ليست النسخة الكاملة”، يقول المشكّك بادئا ذلك السجال إيّاه حول ديوان أبي نواس. فلنحتفظ إذن، وعلى كلّ حال، بهذه النسخ التي في حوزتنا، مهما كانت، لأن الطبعات المقبلة ستزيد الكتب حذفاً ونقصاناً.
ربّما لو بقيت ألف ليلة وليلة بين أيدينا وحدها لانتهى بها الأمر إلى أن تتلاشى وتزول على نحو ما جرى لجولات ذلك البائع في القرى. ما سُمّي في ما بعد بالثقافة الرسميّة نحّاها جانبا وجعلها كتابا لقرّاء تراجعوا وانقضى زمانهم. كان يمكن لمن يمرّ من أمام ذلك المقهى القديم أن يرى بأمّ العين كيف يعيش راويةُ حكاية الملك الظاهر الفصلَ الأخير من انتهاء مهنته وحكايته. قال لي آنذاك، في 1980 على الأرجح، أنّ مجلّدات سيرة الملك الظاهر تتهرّأ في بيته وأنّه لا يعرف لمن يعطيها من بعده. ذلك النوع من التناسل بلغ الحدّ الذي كان عليه أن ينتهي فيه، لولا مبادرة المركز الثقافي الفرنسي بدمشق لطبع الكتاب بعد تحقيقه.
كتاب ألف ليلة وليلة كان سيقع في فترة الحرج ذاتها التي عرفتها حكاية الملك الظاهر لو لم يجرِ “اكتشافه” هناك، في بلدان الغرب. نحن، من كنّا طلّاب جامعات في سنوات السبعين، نعمنا بوصول الإكتشاف ذاك إلينا. علمنا مثلا كيف أنّ كتّاب العالم قد ذهلوا بعد قراءتهم ألف ليلة وليلة، وأن بينهم من قال إنه أعاد قراءتها عشرين مرّة ، ومنهم أيضا من قال أنّها ظلّت ملازمته قرب سريره.
إنتقل إلينا ذلك الإكتشاف إذن. أي أنّ ألف ليلة وليلة أتتنا من هناك بعد أن كدنا ننساها هنا. كثيرون من روائيّي العالم ذكروا كيف أنّها ألهمتهم في سعيهم لتجاوز البنى الراسخة للرواية التي كان لا بد من إخراجها من تقليديّتها، وكيف أنّها فتحت لهم أبوابا للتخيّل الذي، في حكايات الكتاب وقصصه، تخطّت كلّ حدّ فرحنا نقرأ عن أمكنة خرافية ومسافات لا قِبَل للخيال بإحاطتها وجزر هي، لغرابتها وأبعادها الأسطورية، أوسعت مساحة الأرض وأخرجت كائناتها من جاذبيّتها. وهذا، كلّه، من دون أن يخسر بشر القصص شيئا من منازعهم الأرضيّة التي نعرفها ونحسّها.
لقد عادت إلينا ألف ليلة وليلة مقروءة بعقولهم. ونحن، إذ نعود إليها، نكون نفعل ذلك متّبعين ما رأوه هم فيها. في أحيان نكاد لا نصدّق أنّ الكتاب يحتوي حقيقة على ما ألهم به. نقول مثلا إنّ ذلك عائد إلى ميلهم للإحتفال بما هو غريب، كأن التقاءهم به معجزة وصدفة مستمرّة الوقع. والكتاب، منذ أن اهتدوا إليه، لم يتوقّفوا أبدا عن إعادة اختراعه، في الرواية والموسيقى والمسرح والسينما والرسم التخيّلي والحكايا التي تكتب لتروى للأطفال. لا حصر للأعمال الفنّية التي ألهمها كتاب ألف ليلة وليلة. حكاية البجعات السبع التي في قصّة حسن البصري حظيت وحدها باقتباسات تفوق ما تسنّى لأيّ مصدر من المصادر الملهمة للفنون، وهي تدرّجت من كونها واحدة من الحكايات التي تروى للأطفال قبل النوم إلى تحف تشكيليّة وموسيقيّة. أما لجهة الخرافة وأمكنتها ومخلوقاتها فلا نغالي ربّما إذ نظنّ أن أفلام الخيال، حتى الآن، لم تبتعد كثيرا عمّا سبق لقارئي ألف ليلة أن عرفوه (وهذا ينطبق على فيلم أفاتار، آخر أفلام الخرافة، حيث ذلك الطائر الأسطوري المذكّر بطائر الرخّ، وحيث أرض أولئك البشر، البعيدة القريبة كأنّها في كوكب آخر غريب وهي، في الوقت نفسه، قريبة كأنّها تقع في الجوار).
أما حصّتنا منها فإعادة النظر المتكرّرة في صفحاتها. في سنة يصار إلى سحبها من التداول، وفي سنة أخرى يجري تهذيبها بداعي الإحتشام والحرص على عقول الناشئة، ثم، في سنة ثالثة، يدعى إلى إحراقها مع كتب أخرى. الآن، هناك محامون(!) في القاهرة، يعودون إلى النظر في أمرها، للمرّة الأخيرة كما يفكّرون، “من أجل أن ننتهي تماماً من هذه القضيّة” بحسبهم.
المستقبل