الحسكة وموسم جفاف جديد
كمال شيخو
تواجهه المحافظات الشرقية الشمالية, من بينها الحسكة, موسم جفاف آخر, فمنذ العام 2005, تواجه هذه المحافظة الجفاف لشح الإمطار الموسمية, فبعد الإمطار التي هطلت هذا العام, استبشر الأهالي خيرا, ولكن هذه الآمال لم تدم طويلا, وكانت الصدمة مع منتصف شهر آذار وكامل شهر نيسان, حيث لم تهطل الأمطار الا ندرة ومتفرقة هنا وهناك, فولمشكلة تتفاقم سوءا عام بعد أخر. والوضع أصعب في المناطق الجنوبية من هذه المحافظة, الشدادي و47 وجبل عبد العزيز. هذه المناطق تعتمد على مواسم الزراعة البعلية, واغلب أراضي تلك المناطق تعتمد بشكل رئيسي على هطول الأمطار, وكون الثروة الحيوانية – المصدر الثاني للعيش لسكان المنطقة- تحتاج الى هذه الأمطار لاغناء مراعيها, ولكن يبدوا ان هذا العام كالأعوام السابقة.
عام جفاف جديد:
للعام الخامس على التوالي, وهذه المحافظة تواجه الجفاف والقحط, ففي هذا الموسم تعرضت لعواصف غبار, كما شهدت في منتصف شهر نيسان موجة حر شديدة, أحرقت اغلب مواسم البعل, وأثرت على الأراضي المروية أيضا. كما أدت الى جفاف بعض القنوات المائية المشتقة من نهر الخابور، مثل فرع نهرا عبيان، ونهر تل الرمان، وقناة سويريط، وقناة شميساني، وقناة مرقدة. حيث اغلب هذه القنوات المائية جفت نهائيا, اما نهر الخابور النهر الرئيسي, يتناقص منسوب الماء فيه ليجف نهائيا في الصيف. هذا النهر الذي يتواجد على ضفاف حوضه قرابة 4000 قرية تستفيد من مياهه, ولكن بعد جفافه اندثرت العديد من قراه, بين مهاجرة الى المدينة, او الى محافظات أخرى.
ابو حسين شيخ طاعن في السن, من سكان قرية وادي الحمر, وهي إحدى القرى التابعة لحوض نهر الخابور يقول: أتذكر انه في عام الوحدة بين سورية ومصر, واجهتنا موجة جفاف دامت ثلاثة أعوام متتالية, ولكن لا أتذكر أننا واجهنا الجفاف كما هو حاصل الآن, فهذا هو الموسم الخامس ونحن لا نحصد شيئا من أراضينا. اما نهر الخابور الذي كان يسقي لنا نصف أراضي قريتنا, ولكن بعد جفافه أصبحت أراضينا بور. وكان يبلغ تعداد سكان القرية قرابة 300 نسمة, وعام بعد عام والجفاف والفقر يجتاح منطقتنا, ويتناقص عدد سكان قريتنا الجميلة ليصل الآن الى ربع ما كانت عليه, منه من هاجر الى المدينة ومنه من هاجر خارج المحافظة طلبا للعيش, لان هذه القرية التي كانت تحمي أبنائها, هي الآن اعجز من تامين لقمة العيش, اما نهر الخابور يبدوا هو أيضا شاب كما هو حالي الآن.
تراجع نسبة الأراضي الزراعية:
تراجعت نسبة الأرضي المخصصة للزراعة لمواسم القمح والقطن, وقد بلغت المساحات المزروعة بالقطن هذا العام 38 ألف هكتار, من أصل المساحة المرخصة والبالغة 45843 هكتاراً. اما القمح الذي يشكل النسبة الأكبر من زراعة الأرض في المحافظة, بلغت مساحته حوالي 435 ألف بعل, و253 ألف هكتار مروي. وهناك تناقص ملحوظ في نسبة الأراضي المزروعة مقارنة مع مثيلاتها في الأعوام السابقة, ويعود هذا التراجع الى أسباب عديدة أهمها: ارتفاع سعر المازوت, مما ادى الى ارتفاع باقي الخدمات المتعلقة بهذه المادة, النقل وخدمات الفلاحة والعديد من النشاطات المرتبطة بالمازوت, كما ارتفعت أسعار الأسمدة لتصل الى ضعف ما كانت تباع عليه سابقا, حيث وصل سعر الطن الواحد في هذا العام من السماد الى 15000 ليرة سوري, وكان يباع في أفضل أحواله بسعر 7000 ليرة.
انعكس هذا سلبا على مزارعي الأراضي, مما استغنى العديد منهم عن الجزء الأكبر من أراضيهم وتركها بور- أي لا يزرعون فيها أي شيء- لان زراعتها تكلف عليهم مبالغ كبيرة هم اعجز على تأمينها, ولم تكن الإسعافات الأولية التي قدمتها الحكومة مؤخرا لمساعدة هؤلاء المزارعين, بسبب تتالي أعوام الجفاف, مما يرهق المزارعين على تأمين المصاريف العالية لسقي هذه الأرض.
تناقص نسبة الأراضي المزروعة تؤدي الى كوارث سلبية عديدة أهمها: تضائل الطلب على الأيدي العاملة في الزراعة والتي يشكلون 60% من نسبة أجمالي القوى العاملة في الحسكة, مما يؤدي الى خلل بين أوساط تلك القوى العاملة التي تعتمد بشكل رئيسي على هذه الأراضي, مما يجبرهم عل الهجرة وترك العمل في الزراعة. وبسبب هجرة اليد العاملة, ارتفعت بشكل نسبي أسعار العاملين في مواسم قطاف القطن لندرتها, لان اغلبهم شد الرحال وترك موطنه ليقصد مكانا يؤمن فيه لقمة العيش….
احمد مزارع من قرية الخشمة, وهي إحدى القرى التابعة لناحية الدرباسية, تبعد عن محافظة الحسكة باتجاه الشمال, خمسة وثلاثون كيلو متر, يزرع سنويا ما يقارب 30 هكتارا, أي ما يعادل 300 دونم, يخصص منها 80 دونم لزراعة القطن, والأرض الباقية يزرع اغلبها قمح, وبعض البقوليات. في هذا العام, انقص من مساحة الأرض المروية, لعدد من الأسباب, تبدأ بتناقص منسوب المياه, وتنتهي بارتفاع المازوت, وكافة المستلزمات المتعلقة بالزراعة.
يقول احمد: ارتفعت كل الأسعار التي نحن نحتاج اليها للزراعة, بدئا من المازوت الذي يتطلب تشغيل المحرك لاستحرار الماء برميل وربع, أي يكلف علينا تشغيل المحرك يوميا 7000 ليرة سورية, هذا ما عدا الزيت والأعطال, ونحن بحاجة الى هذا المبلغ يوميا لأجل أكمال موسم القطن الذي يستنزف كل ما خصصناه للموسم, والحكومة لم تقم بمساعدتنا بصرف مبالغ صغيرة الحجم مقارنة مع الخسارة التي نتكبدها سنويا. والمعونات المخصصة لنا هي تأجيل الديون المترتبة علينا نتيجة ضرر المواسم في الأعوام الماضية, ولكننا سندفعها اما في هذا العام او القادم. أي سندفع ما بذمتنا ولم يصدر أي قرار بإعفاء هذه الديون.
زيادة أعداد المهاجرين:
مصطفى شاب يبلغ من العمر 33 عاما, متزوج ولديه ولدان وبنت, من قرية الكفرة تبعد عن ناحية تل تمر 15 كلم. يعمل في الزراعة منذ نعومة أضافره, حاول العمل في مجال ثاني, ولكنه فشل في ذلك, لأنه لا يمتلك الخبرة سوى الفلاحة في الأرض. قصد دمشق طلبا ليجد عملا ليصون كرامته, ولكن دون جدوى, فعمره لا يسمح له ان يعمل في القطاع الخدمي في فندق او مقهى, بحث طويلا ومارس اعمل مثل العتالة والفعال وفي قطف الثمار وفي الخضار. ولكنه عاش في كل هذه الأعمال حالة من غربة شديدة كونه لم يمارسها في حياته. قرر أخيرا السفر الى لبنان, ليقصد فيها البقاع لأنه سيذهب ليعمل في الأرض مرة أخرى.
تزداد أعداد المهاجرين في كل عام من هذه المحافظة التي كانت تستقطب أيدي عاملة من محافظات أخرى, وانقسمت الهجرة الى قسمين رئيسين, هجرة داخل المحافظة من الريف الى المدينة, وثانية من المحافظة الى أخرى اكبر وأغنى, يقصدون فيها العمل لسد حاجاتهم الأولية, فهم لا يلهثون الى جمع المال, انما ليصونوا كرامتهم, ولا يوجد عدد دقيق لإعداد المهاجرين من هذه المحافظة, لأنه لا توجد إحصائيات متوفرة لدى المكتب المركزي للإحصاء, كا ان اغلب التقارير الحكومية, لم تستطع حصر هذه الأعداد لأنها في تزايد مستمر, وبشكل غير منتظم. ولكن ما هو مؤكد ان هؤلاء المهاجرين قطنوا الإمكان التي قصدوها حديثا, ولا يوجد لديهم نية العودة الى وطنهم الأصلي.
يقول شيخموس وهو اب لعائلة يتألف عدد أفرادها من 5 بنات و3 شباب: لا يوجد لدي النية العودة الى الحسكة كونها فقدت بريقها, لان هذه المحافظة أصبح العمل يهين صاحبه, ولم تتبقى هناك فرص ممكنة للعيش فيها, فنحن أسرة مؤلفة من 11 فردا, نحتاج الى دخل شهري ما يقارب 10000 ليرة, كنا في الحسكة نعتمد على الزراعة ونعمل جميعا في الحقل, ولم ندخر اي ليرة سورية من عملنا في الزراعة, لأنه كنا ننفق ما نحصل عليه في نهاية العام. الآن بعد مجيئنا الى دمشق, تحسنت حالتنا بعض الشيء, فالجميع هنا يعمل, البنات يذهبون الى ورش للخياطة, والشباب يعملون في مطعم ويتابعون دراستهم أيضا. حتى انا وام الأولاد نعمل أيضا في المنزل لان ورشة الخياطة ترسل لنا أعمال تطريزية نقوم بها ونحن في البيت.
بنية تحتية فقيرة:
البنية التحتية هي التركيبة التحتية والأساسية لمنطقة ما. وهو مصطلح يطلق على المنشآت والخدمات والتجهيزات الأساسية التي يحتاجها المجتمع مثل: توفر وسائل المواصلات كالطرق والمطارات وسكك الحديد, ووسائل الاتصالات كشبكة الهاتف، والجوال والإنترنت, بالإضافة لنظام الصرف الصحي وتمديدات المياه. فالمدن الصناعية والمعامل والمصانع تعد جميعها كاملة البنية التحتية.
وبلغت اعتمادات محافظة الحسكة من الخطة الخمسية العاشرة (9 مليارات و565 مليون ليرة ) وأشار محافظ الحسكة معذى نجيب سلوم في تصريح لوكالة سانا: ” ان حجم الإنفاق بلغ 7 مليارات و93 مليون ليرة بنسبة إنجاز 74 % من الخطط المقررة لنهاية العام الماضي والتي شملت قطاعات التربية والخدمات الفنية والثقافة والصحة والشؤون الاجتماعية والعمل والبيئة والمنشآت الرياضية إضافة إلى مشروعات وأعمال أمانة سر المحافظة”
فالحسكة هي سلة غذاء سوريا, اذ تنتج ما يقارب 40% من القمح, وتنتج سنويا ما يعادل نصف القطن السوري, لخصوبة أراضي هذه المحافظة. فهي الأولى في أنتاج القمح والقطن, وما يزيد اهمية هذه المحافظة الاقتصادية وجود الثروات النفطية، المتواجدة في حقول السويدية ورميلان والجبسة، ويقدر إنتاج هذه الحقول من 8-9 مليون طن سنوياً. ولكنها من بين أفقر المحافظات في انتشار المنشات الحكومية, ويقل فيها المعامل والمصانع, وحتى القطاع الخاص لم يحاول الى الآن الاستثمار في هذه المحافظة الغنية, لفقر البينة التحتية لهذه المحافظة. يوجد فيها معمل واحد للكونسروة, وافتتح مؤخرا معمل للاسمنت. كما يوجد فيها عدد من مصانع الحبوب ومحالج القطن, وهذه المنشآت لا تحتاج الى اليد العالمة الا في أوقات الموسم, الذي لا يدوم سوى قرابة شهر ونصف, اما باقي الأشهر فهي لا تحتاج الا للحرس وبعض الموظفين الإداريين.
فهذه المحافظة يندر فيها وجود معامل ومصانع وورشات عمل, لاحتواء الأيدي العاملة التي هي في تزايد مستمر, وتشكل نسبتها حوالي 35% من أجمالي السكان. وهي من المحافظات الفتية ويتواجد فيها كثافة سكانية لان نسبة الخصوبة الطبيعية فيها مرتفع, حيث يبلغ متوسط عدد أفراد الأسرة 6 أشخاص, ويبلغ في بعض القرى 10 أفراد لكل أسرة. تمتد المحافظة على مساحة 23000 كم2 وهي ثالث اكبر محافظة من حيث المساحة, ويبلغ عدد سكانها 1.377 مليون نسمة، وهي السادسة سكانيا على مستوى سوريا, بكثافة سكانية تبلغ حوالي 60 نسمة في الكيلو متر مربع.
الحسكة ستواجه عاما جديدا من الجفاف, وستزداد نسبة البطالة وسينتشر فيها الفقر والجوع المتقع, والتحرك الحكومي لم يكن مسعفا, فتأجيل الديون المترتبة على المزارعين, وتوزيع سلة غذائية كل شهرين على بعض العوائل الفقيرة, لا يسعف من تراكم سنوات الجفاف شيء. فكم هناك اسر هي بأمس الحاجة الى رغيف الخبز ولم يسمع بهم احد, فهل من تحرك حكومي جذري لحل واقع هذه المحافظة التي هي سلة سوريا الغذائية؟!!
كمال شيخو – كلنا شركاء