انقذوا الفرات من التلوث!
بشير عاني
قد لا يصدق أحد أن قضية مياه الشرب في محافظة دير الزور كانت ومازالت من المواضيع المسكوت عنها رسمياً، خاضعة لحسابات هنا وهناك، رغم استياء المواطنين الواضح وتنامي شكوكهم حول مدى صلاحية هذه المياه للاستعمال الآدمي.
ما هو أكثر مأسوية، أن هذه المحافظة رغم وقوعها على واحد من أكثر الأنهار عذوبة وقدسية “ماء فراتاً” مازال الكثير من أريافها يشرب من الغدران والسواقي، وربما من مياه الأمطار. فهي بالضبط:
كالعيس في الظلماء يقتُلها الظما
والماءُ فوقَ ظهورِها محمولُ
وفي زحمة البحث عن حلول لمشلكة مياه الشرب، تتعقد القضية اليوم، بسبب تداخل مشكلة أخرى معها، مسكوت عنها أيضاً، وهي تلوث نهر الفرات الذي هو المصدر الأساسي لمياه الشرب لعديد من المحافظات السورية.
وأثناء بحثنا في قضية مياه الشرب، وقعت بين أيدينا مصادفة دراسة كيميائية عنوانها “تلوث نهر الفرات وأثره على مياه الشرب والصحة العامة”. في هذه الدراسة التي امتازت بوثوقيتها وعلميتها يفضح المهندس حسان العثمان الانتهاكات الخطيرة التي يتعرض لها الفرات يومياً تحت سمع الجميع وبصرهم، ولا يحتاج قارئ هذه الدراسة كثيراً ليفهم أن مياه شربه ملوثة، وأن مصادر هذا التلوث واقع عياني يومي يتعرض له الفرات منذ سنين طويلة، لا تبدأ بالصرف الصحي الذي يصب فيه ولا تنتهي باحتمالات التلوث النفطي.
الصرف الصحي.. كارثة خفية
مباشرة وبلا أي عوائق، يتبختر الصرف الصحي في سيره الواثق ليصب في الفرات حاملاً معه أشكالاً وألواناً من الأوبئة ومسببات العدوى والمعادن الثقيلة والمواد الكيماوية الضارة والمخلفات البشرية وغيرها.
يحدث هذا في غياب تام لمحطات معالجة هذا الصرف قبل صبيبه في النهر. فالمشافي العامة وكذلك الخاصة، والمستوصفات ومخابر التحليل والأشعة، جميع هذه تفتقر إلى وجود محطات معالجة لصرفها قبل إرساله إلى النهر بما يحمله من مخلفات أمراض ومواد سامة ومسرطنة وغيرها.
وإذا ما كانت المخابر والمشافي الخاصة تتهرب من تنفيذ محطات المعالجة هذه لأسباب منها ارتفاع كلفتها أو غياب الرقابة عليها أو ضعف الإحساس بالمسؤولية، فهل هناك ما يبرر للمشافي العامة، كالأسد والوطني والفرات، غياب مثل هذه المحطات؟! ويبدو أنه “ما في حدا أحسن من حدا”، فمعامل دير الزور الكبيرة كالورق والسكر والغزل والكونسروة وغيرها، إضافة إلى معاملها الصغيرة كالألبان والأجبان وغيرها، جميع هذه المعامل ترسل صرفها الصحي أيضاً إلى النهر دون أي معالجة له، محملاً بمواد كيماوية وهيدروكربونية ضارة.
وقد يقول قائل إن الصرف الصحي لمعمل السكر لا يذهب إلى النهر مباشرة، بل يُجمّع في حوض ترابي على بُعد كيلومترين من الفرات، إلا أن هذا في الحقيقة غير كاف، فمخلفات هذا الصرف تتسرب إلى المياه الجوفية التي هي إحدى روافد الفرات، حاملة معها ملوثات السيانيد والمواد العضوية المتخمرة، ناهيك بالرائحة الكريهة التي تنشرها على مسافات واسعة من المنطقة.
أما المصدر “الخفي” لتلوث الفرات فهو المنظفات الصناعية المنزلية، لما تحتويه من نسب عالية من مادة التريولي فوسفات تقارب الـ40%. هذه المادة، بانتقالها إلى الفرات عبر الصرف الصحي، تساعد على نمو الطحالب التي هي غذاء مثالي للبكتريا والجراثيم، وبالتالي التلوث البيولوجي للفرات.
أصلحوا الأرض وأفسدوا المياه
بسبب وجود أراض مالحة “سبخ” تقوم مؤسسة استصلاح الأراضي منذ عقود من الزمن باستصلاح هذه الأراضي لإعادة تأهيلها زراعياً.
فكرة الاستصلاح تقوم على آلية سحب الأملاح من الأراضي، وذلك عبر حفر أقنية خاصة في الأراضي المراد استصلاحها فتتجمع المياه المالحة في هذه الأقنية لترحل إلى الفرات.
ما حصل في الواقع أن الأرض استصلحت ولكن النهر تلوث. ففي عام ،1979 كما تشير الدراسة، كانت كمية الأملاح المنحلة في الفرات لا تتجاوز الـ100 ملغ/ل، وهو أقل ما هو عليه في مياه بقين “140 ملغ/ل”.
لكن كميات الأملاح المنحلة في مياه الفرات اليوم تقارب 500ملغ/ل، وهذا يمثل الحد الأعظمي في المواصفات العالمية.
من جهة أخرى فإن تخفيض الملوحة في المياه يعدّ من أصعب الأمور، إذ يتطلب أغشية خاصة وضغوطاً عالية ومحطات مكلفة جداً.
النفط: احتمال مخيف للتلوث
رغم أهمية النفط والغاز، المادتين الاستراتيجيتين الداعمتين للاقتصاد الوطني، إلا أن طرق استخراجهما يجب أن تكون مقيدة بشروط بيئية صارمة لمنع تلوث الماء والهواء والتراب.
تشير الدراسة إلى أن أنابيب النفط والغاز تمر عبر الفرات في عديد من المناطق، ورغم أن صاحب الدراسة يقرّ بعدم وجود معلومات لديه عما إذا حدث تسرب نفطي أو غازي في النهر، إلا أنه ينبه إلى خطورة مثل هذا الأمر إذا ما حصل في يوم من الأيام، فالحياة ستنعدم في النهر بعد أسبوعين تقريباً، كما أن آثار التلوث ستستمر فترات طويلة. وهو بهذا الخصوص يطرح أسئلة مشروعة منها:
إذا حصل هذا الأمر، لا قدّر الله، فهل لدينا القدرة على كشف التسرب فور وقوعه وقبل أن يتحول إلى كارثة بيئية؟ وهل لدينا إمكانية السيطرة على هذا التسرب قبل استفحاله ومعالجته دون إضرار بالصحة العامة؟
هل مياهنا صالحة للشرب؟
مع الفرات، ومن منطقة إلى أخرى، ينتقل الصرف الصحي والمخلفات البشرية والمواد الكيماوية والمعاون الثقيلة والمواد المسرطنة ومسببات الأمراض والعدوى.
إن مسيرة الفرات تمثل متوالية جغرافية، فكل مدينة وقرية مشاطئة له تتلقى الملوثات من التي قبلها لتلقي في النهر ملوثات للمدن والقرى التي بعدها.. وهكذا. ولأن الجميع يشتركون في الشرب من المياه الملوثة نفسها، فإن الأمراض نفسها تنتشر بينهم: كالتهاب الكبد الوبائي “أ” و”هـ” والدوسنتاريا الباسيلية والأميبيا والإسهال والنزلات المعوية وغيرها، مضافاً إليها في العقدين الأخيرين، ومع ظهور النفط، انتشار الإصابات المسرطنة.
وربّ سائل: أين دور المحطات الخاصة بمعالجة مياه الشرب؟
الإجابة ستأتي “صادمة”، إذ تؤكد الدراسة أنه بفرض وجود محطات معالجة مثالية الأداء والتقنية، فإن الصحة العامة لسكان المنطقة ستظل مهددة بالملوثات، إذ ستنتقل إليهم عبر الحيوان والنبات التي تسقى من مياه الفرات الملوثة.
إذاً فالعدوى والملوثات بالمرصاد للــ”فراتيين” حتى لو لجؤوا إلى مياه بقين!
في واقع الأمر إن السكان يشربون مياهاً مأخوذة من محطات معالجة ناقصة الفعالية، قوامها مضخة لسحب المياه الخامية من النهر إلى حوض ترسيب أولي، ومنه إلى حوض ترسيب كيميائي، ثم إلى فلترة رملية وكلورة نهائية، ثم إلى المستهلكين.
إن تصميم هذه المحطات مُعدّ لترسيب العوالق والشوائب بدقة 10-15 ميكرون في أحسن الأحوال، ثم التعقيم بغاز الكلور المنحل. وهذه المحطات غير قادرة على تخفيض الملوحة، أو ترسيب شوارد الفوسفات، أو إزالة المواد الكيميائية المنحلة في المياه الخامية عدا أن نواتج قتل البكتريا والطفيليات بغاز الكلور ستبقى مواد عضوية مكلورة، وهي من المواد الضارة.
برسم الجميع
بعد أن ناقشت الدراسة مشكلة التلوث، لم تحاول التهرب من إيجاد الحلول التي جاءت محيطة بالمشكلة، محمّلة الجميع المسؤولية، وذلك من خلال الإجراءات التالية:
أولاً: على مؤسسة مياه الشرب أن تفكر ببدائل لمحطات المعالجة تعتمد على التعقيم بالأوزون بدلاً من الكلور، وتستبدل بالشب ثلاثي كلور الحديد لترسيب الفوسفات والمعلقات الأخرى، إضافة إلى ضرورة أخذ المياه من آبار تحفر بجانب النهر أعمق من سريره، إذ يحقق لنا ذلك الحصول على مياه مفلترة بشكل طبيعي، بدلاً من المياه الخامية المسحوبة مباشرة من النهر.
ثانياً: على رئيس الوزراء تخصيص ميزانية خاصة لإنشاء محطات معالجة للصرف الصحي.
ثالثاً: على وزارة الإسكان إيقاف مشاريع الصرف الصحي إلا بعد إنشاء محطات معالجة للصرف.
رابعاً: على وزارة الصحة متابعة تنفيذ محطات معالجة للصرف الصحي في المشافي العامة والخاصة والمخابر والمستوصفات.
خامساً: على وزارة الصناعة متابعة تنفيذ محطات معالجة خاصة بالصرف الصحي في المعامل والمشاريع الصناعية.
سادساً: على وزارة الري متابعة تنفيذ محطات معالجة للمياه المالحة الناتجة عن استصلاح الأراضي قبل رميها بالنهر.
سابعاً: على جميع المنظمات والجمعيات والاتحادات الرسمية والمؤسسات التربوية والإعلامية والتجمعات المدنية توعية المواطنين بضرورة الحد من تلوث الفرات، ومخاطر ذلك على الصحة العامة.
ثامناً: تحصيناً لكل هذه الإجراءات، ولوضعها موضع الجدية، نتمنى من السيد رئيس الجمهورية إصدار قانون خاص بمنع تلوث نهر الفرات.
نقمة السماء
نعمة السماء تنقلب نقمة على الديريين، ما إن تهطل الأمطار حتى تبدأ الحنفيات بضخّ الوحل أو ما شابه مع مياه الشرب، وذلك لأن محطات المياه التي تأخذ المياه الخامية من الفرات عاجزة عن تخليص هذه المياه من العكر.
هنيالهم
جميع الأجانب والأشقاء العرب الذي يعملون في حقول النفط والغاز في المحافظة، لا يحتاجون إلى وقت طويل لاكتشاف رداءة مياه الشرب، فيلجؤون إلى عبوات بقين وما شابه.
سؤال بريء
هل يشرب مسؤولو المحافظة وعوائلهم من المياه نفسها التي يشرب منها المواطنون؟
هذه ليست حال الفرات وحده، بل هي حال جميع الأنهار السورية. وما يؤسف له أن المعنيين بالأمر لم يستطيعوا معالجة هذه المشكلة البيئية الخطيرة، على الرغم من قبول الكثير من القروض والهبات إلى صناديق الدولة بهذا الخصوص.
وسوف تلقي “النور” مزيداً من الأضواء على هذه القضية الملحة.
بشير عاني
النور- 292 (9/5/2007)