عطيني إكراميتي
Syria_today-776440سمة التفاخر والإعتداد بالنفس سمة عربية أصيلة في تكويننا النفسي عموما، تتدرج صعودا في حدة الظهور ابتداء من المستوى الفردي وانتهاء بمستوى الشعب، وكلما صعدنا درجة في السلم السابق تزداد حدة هذه السمة اتجاه الآخرين الذين نتفاخر عليهم وبنفس الوقت تخفت بين أفراد المجموعة الواحدة ، ويصبح من اليسير على كل مجموعة الإعتراف بعيوبها وواقع الحال من باب الحارة الضيقة.
بالطبع لا شيء محرج ومحبط أكثر من اكتشاف الآخرين أمورا لا يمكن نكرانها، من شأنها تحطيم تلك الهالة التي نجاهد دوما على إبقائها متقدة، وحتى لو اعتبرت أن هذه السمة غير موجودة –وهي كذلك عند كثيرين- إلا أنه من المحزن ألا يرانا الآخرون كما نتمنى، ومن المحرج أن يبدأوا بالحديث عن صدمتهم فينا وبواقع حالنا المزري.
منذ فترة قريبة التقيت بسيدة تونسية وزوجها السوري وكانوا ينوون الذهاب إلى سورية، وهي الزيارة الأولى لها إلى هناك، انتهت زيارتهم ورأيتهم مرة أخرى، سألت كيف كانت الزيارة؟
وبدأت السيدة بالحديث:
بلد بتجنن، طبيعة غير وخضار وهواء عليل، لكن أرجو ألا تغضب مني فقد فاجئني الشعب السوري، منذ لحظة دخولي المطار تلقفني الجميع من موظفين وعمال، وبدأوا يرددون على مسامعي عبارة غريبة لم أفهمها في البداية لولا مساعدة زوجي وهي “ عطيني إكراميتي”، ذهلت من طريقة التعامل هناك وذهلت أكثر من المطار فهو يكاد يكون كراج سرافيس ومكاري وليس مطارا دوليا لمدينة تحمل عراقة دمشق وتاريخها الطويل الذي طالما أبهرنا عن بعد.
خرجنا من المطار ووصلنا إلى دمشق، الشوارع سيئة للغاية وازدحام خانق وأصوات الزمامير كجرس إنذار متواصل. نركب التكسي وما أن يسمع السائق لهجتي حتى يطفئ العداد والمشوار الصغير يكلفني ضعف ما تكلفني التكسي في الكويت، بدأت أصر على السائقين أنني سأدفع لهم بناء على العداد، وبعد أن أدفع يقتطع نقودا إضافية ويقول “ إنها إكراميتي” فاضطررنا أن نستأجر سيارة لأنها أوفر.
نذهب إلى المطعم يظل يلف ويدور الغرسون وهو يردد عبارات الترحيب ومعها “ عطيني إكراميتي”، نخرج من المطعم لنتفاجئ بشخص يركض نحونا والسرور بادٍ على محياه، لقد غسلت سيارتكم، فأكرموني بما تجودون به ولو مئتي ليرة، لم نطلب منك أن تغسلها ! يُلح بنبرة ممزوجة بالتذلل وطلب الحق “ أعطوني إكراميتي”. شرطي المرور لا يتوانى عن بيع بلده من أجل مئة ليرة، فسواء لديه إن خالفت أو لم تكن، المهم أن تعطيه إكراميته. . أصحاب المحلات لديهم حساسية غريبة اتجاه اللهجة الغربية، فيبدأون بأساليب سلسة للغاية في إغراءك بالشراء والدفع ضعف القيمة، على أمل أنك غريب عن البلد ولن تعرف فروقات الأسعار . . هم أيضا يريدون إكراميتهم.
رغم جمال الطبيعة هناك لكن وجوه الناس معفرة بالبؤس والشقاء، تشعر أنهم يحملون شيئا فوق رؤوسهم، شيئا ثقيلا، لا تستطيع ضحكاتهم وابتساماتهم إخفاءه أبدا، إنهم يعملون بكدح العبيد، عملين وثلاثة ليهربوا من نطع الغلاء . . الغلاء ! لم أتصور أن سورية بهذا الغلاء أبدا، الكويت ليست أغلى من دمشق وما أنفقناه فيها كنا ننفق نصفه في فرنسة، يا ليتني ذهبت إلى فرنسة!! أتدري لم أعد ألُم من كانوا يطلبون إكراميتهم، فهم يجاهدون الواقع والغلاء ويتشاطرون ويتحذلقون في أساليب كسب العيش ليكملوا الشهر وفي بيتهم طعام.
لقد أصبحت أرى في كل منهم سيزيف الذي يحاول القاء الصخرة عن ظهره، إكرامية من هنا وإكرامية من هناك يخف معها الحمل حتى ولو لم يتخلص منه. اللوم لا يقع عليهم ولكن يقع على الحكومة، رواتب ومداخيل ضعيفة في مهب الغلاء والأسعار الجنونية . . لا حيلة لديهم سوى أن يتشاطروا على بعضهم البعض وعلى الغريب . . حتى ولو كان الأمر على حساب كرامتهم وصورتهم في أعين الناس. نعم قد يكون البعض كسب إكراميته لكنه خسر في ذات الوقت نفسه . . إن هذا لحرام! تقولها بأسى.
دمشق مليئة بالبيوت الجميلة والقصور الفاخرة، مليئة بالسيارة الحديثة، لا تختلف كثيرا عن الكويت في هذا، تصادف أناس كثر ومظاهر النعمة بادية عليهم، تشعر أنهم أغنياء جدا، نعم البلد فيها نقود، فيها خيرات لكن العدالة الإجتماعية ذهبت على ما يبدو كإكرامية لبضع عائلات مهما كثرت فلن تقدر أن تلون اللون الرمادي الموحل أبدا!
ما أروع ليل دمشق وما أجمل دمشق من قاسيون . . مدينة سكنها السحر، تتلالأ أضواءها كسبائك الذهب، البحر جميل، وسهل الغاب قطعة من الجنة، كل هذا بهرني، كل هذا جميل، لكن الشعب، تسكت وتهز رأسها بإنكار ذوبني خجلا!
الصورة التي كونتها كانت أكثر سطوعا من دفاعاتي وتبريراتي، فالتجربة أمضى أثرا من كل الخطب الرنانة . . ترد علي باقتضاب، ألم أقل لك أنهم مضطرون لفعل ذلك، إنهم يحاولون العيش ليس إلا . . لن أعود إلى سورية أبدا . . أسأل زوجها هل هذا صحيح؟ يرد “البلد متغيرة كتير، الله لا يعطيهم العافية خجلونا”.
http://www.3bdulsalam.com/