ماذا يجري في تركيا ؟
جنيد أولسيفر
(1)
نحن منشغلون بالنقاشات البرلمانية حول رزمة التعديلات الدستورية. لكن الجميع تقريباً تبنّى موقفاً معيّناً بطريقة أو بأخرى. أكثر من ذلك، لقد انضمّ الجميع في البرلمان أو في الإعلام أو في أوساط الأعمال، إلى المحاججة.
نحن منخرطون بقوّة في النقاشات لأننا نعرف أن الجدل يتجاوز التغييرات الدستورية.
تصف صحيفة “وول ستريت جورنال” ما يجري في تركيا بأنه “حرب أهلية غير دموية”. أردّد منذ بعض الوقت أن “الصراع على السلطة” الذي لا يمكن وضع حدّ له بلغ ذروته نوعاً ما.
ليست النقاشات حول التعديلات الدستورية مجرّد نقاشات حول الدستور!
لقد بلغت الجمهورية التركية مفترقاً حسّاساً جداً.
أظنّ أن حقبة تنطوي في تاريخ الجمهورية. يمكن تسميتها مرحلة “الوصاية العسكرية-البيروقراطية”. أتّفق في الرأي في هذه المرحلة مع بعض كتّاب الأعمدة الموالين للحكومة. لكنني أعتقد أن تركيا لا تتّجه نحو الديموقراطية، كما يزعمون، بل نحو “وصاية مدنية”.
كما ذكرت آنفاً، يستمرّ الصراع على السلطة في تركيا. وأكثر من ذلك، لقد سلكنا المنعطف الأكثر حدّة. يدور الصراع بين مجموعتَين. تعتبر إحداهما أنها لا تملك حصّة كافية في حين تخشى المجموعة الثانية خسارة ما تملكه منذ بداية الجمهورية.
عندما تنتهي هذه المعركة ويقبل كل طرف بما يملكه، يمكننا السعي إلى تحقيق الديموقراطية من أجل التوصّل إلى أقصى قدر من التعايش.
الديموقراطية هي نظام توافقي. لا يستطيع الطرفان تحقيق التوافق إلا بعد حصولهما على حصّة مرضية. لكن لا يزال من المبكر جداً التوصّل إلى مثل هذا التوافق في تركيا!
لا يمكنني وصفها بـ”معركة الطبقات”. من وجهة النظر الماركسية، ليست معركة طبقات. في كلا الطرفَين، هناك أشخاص مختلفون من أوساط اقتصادية مختلفة. فضلاً عن ذلك، يمكن أن يتبنّى الناس آراء مختلفة في الطبقة نفسها.
ليس هذا مجرّد صراع اقتصادي على السلطة. لا شك في أن صراعاً يحدث لكنه أيضاً سياسي واجتماعي. منذ إنشاء الجمهورية، تخوض تركيا صراعاً على الحصص في البرامج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بينما نتّجه نحو المعركة النهائية في ظل “حزب العدالة والتنمية” الحاكم.
أُنشِئت الجمهورية التركية نتيجة نضال خاضته حفنة من أبناء النخبة وقادها إلى الاستحواذ على أداة الدولة من طريق البيروقراطية العسكرية والمدنية، من أجل تجسيد ما يجول في بالها على أرض الواقع. والآن، لو عاش من يعترضون بغضب على أساليب الإستابلشمنت في تلك الحقبة، لتصرّفوا ربما بالطريقة نفسها. لم تكن هناك طريقة أخرى. ومن الجيد أن المؤسّسين تصرّفوا على هذا النحو في تلك المرحلة. لكن رؤيتهم ليست متطابقة مع رؤية الجماهير. لقد فرضت النخبة رؤيتها عن تركيا ظناً منها أنها الأفضل للبلاد. تصرّفوا وكأنهم أهل عائلة لا يتردّدون أبداً في التحرّك لمصلحة العائلة.
على غرار كل الحروب الأخرى، اندلعت حرب الاستقلال بسبب فرائض ظهرت من العدم! كانت الفرائض ضرورات ملحّة، ولم يكن هناك وقت لترسيخها في العقول.
سأقولها بصورة معاكسة، لم تكن هناك بنى تحتية للتعامل مع التغيير في أذهان الجماهير.
في تلك الحقبة، كان على “الثورة” أن تستهدف “المظهر”، وقد تحقّق ذلك.
استهدفت الرؤية نمط حياة عمره 600 عام إذ تجرّأت النخبة على تغيير نمط الحياة هذا بين ليلة وضحاها في “عربة نوم في قطار بين اسطنبول وأنقرة”.
(2)
نشهد صراعاً على السلطة يتعمّق وصولاً إلى الحياة الخاصة لقادة الأحزاب السياسية.
الصراع ليس فقط على رزمة التعديلات الدستورية إنما أيضاً على تغيير النظام العام الذي استطاع الصمود منذ إنشاء الجمهورية.
وضع مؤسّسو الجمهورية، بيروقراطيو النخبة العسكرية والمدنية، فرائض في البداية، معتبرين أنها كلها ملحّة وضرورية.
لم يكن هناك وقت كي تترسّخ رؤيتهم. ولذلك استهدفت النخبة التأسيسية “نمط الحياة” وقرّرت تغيير العادات بين ليلة وضحاها. طلبوا من الجماهير تبنّي “نمط حياة عصري” والتخلّي عن “نمط الحياة المحافظ”.
لكن لم يدرك أحد أن نمط الحياة المستهدَف يقتضي التخلّي عن قيم الإنسان الخاصة بما في ذلك عادات اللباس والمأكل، وميزات الذهن والجسم والروح، والفلسفة والجَمالية.
من جهتها اعتبرت الجماهير أن رؤى النخبة الجمهورية هي إنكار للوجود بينما كانت البلاد تواجه انقساماً بين نمط الحياة العصري ونمط الحياة المحافظ.
بقيت أداة الدولة في أيدي النخبة لفترة طويلة. كان على المحافظين أن ينصاعوا لإقصائهم من الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلا إذا أبدوا استعداداً لقبول الحداثة.
ابتعد المحافظون عن المهن التي تتمتّع بخصائص تمثيلية قوية. وفي السياسة، قبلوا مهمات مرتبطة بالجماهير وفشلوا في الدمج الاجتماعي.
لا شك في أنهم علقوا في غيتوات وأُرغِموا على العيش في أوساط مغلقة. أما المحافظون الذين تبنّوا نمط الحياة العصري فقد أفادوا من ميزات وجودهم في موقع النخبة في كل منطقة. أنشئ نظام عام جديد كجزء من هيكلية اقتصادية مغلقة. دعمت أنقرة اسطنبول بواسطة مشتريات عامة واعتمادات بينما كانت اسطنبول تموِّل السياسة في أنقرة من طريق سلطة اقتصادية تنمو باستمرار؛ وأكثر من ذلك، رسمت اسطنبول معالم السياسة في العاصمة.
وفقاً للتحديثيين، لا يحقّ للمحافظين الاعتراض على مثل هذا النظام لأنهم كانوا يمثّلون ما هو قديم وميت. فضلاً عن ذلك، ما إن استسلموا حتى فُتِحت كل الأبواب أمامهم.
فشل الناس في التمييز بين الصواب والخطأ. وهكذا اعتبرت النخبة أنه من الضروري ترويض الجماهير. لهذا كانت هناك حاجة إلى أداة الدولة.
لقد آمن التحديثيون حقاً أن ما يفعلونه صحيح حكماً وأنه ليس مفروضاً.
لقد انبثق التقسيم الاجتماعي من امتلاك أنماط حياة مختلفة، وتمحور نمط الحياة المحافظ حول المؤسسة الدينية، غير أن التمايز السياسي حصل بين أشخاص ذوي حساسيات دينية عالية وعلمانيين.
لكن خلال عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال، بدأ مالكو الرساميل المحافظون في الأناضول يغيّرون اتّجاه ميزان القوى إذ كان المحافظون يملكون كميات كافية من المال لتمويل السياسة.
(3)
كانت “الحياة العصرية” طاغية حتى الآونة الأخيرة، وكانت تفرض قواعدها بحكم “الوصاية العسكرية-البيروقراطية”.
لكن الرئيس الراحل تورغوت أوزال تحدّى الموازين. ازداد المحافظون قوة وأصبحوا أكثر قدرة على تمويل السياسة، فتحدّوا النخبة علناً. حاول أوزال إرساء توازن بين الفريقَين، لكن قيادة المحافظين الحالية تقول “لقد حان دورنا الآن”.
يبذل “حزب العدالة والتنمية” الحاكم بقيادة رجب طيب أردوغان جهوداً لإنهاء “الوصاية العسكرية – البيروقراطية” وإرساء “الوصاية المدنية” بدلاً منها.
يدرك “حزب العدالة والتنمية” أن الصراع على السلطة مستمر في تركيا، ويمارس السياسة على هذا الأساس. لكن المعركة الحقيقية هي ترك الأطراف لـ”الحياة العصرية” ونقل “نمط الحياة المحافظ” إلى المركز! من الضروري إبعاد التحديثيين من المركز.
ولتحقيق ذلك، لا يكفي التواجد في الحكومة بل يجب أيضاً السيطرة على الدولة.
تلقّى الجيش ضربة من خلال قضية عصابة “إرغينيكون”، وسوف تتلقّى البيروقراطية ضربة من خلال رزمة التعديلات الدستورية.
لقد فشلت المبادرة الكردية، ولم ينجحوا في “جعل إغلاق الأحزاب السياسية أكثر صعوبة”، لكن الحكومة لا تزال تعمل بعد إجراء تغييرات هيكلية في المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاة والمدّعين العامين. يرفضون دستور 1982، لكنهم يُبقون على مجلس التعليم الأعلى وعلى رئاسة وزير العدل للمجلس الأعلى للقضاة والمدّعين العامين، وكلا الأمرَين هما من نتائج دستور 1982. يحمي “حزب العدالة والتنمية” والقوى السياسية الأخرى الجوانب التي تناسبهم في القانون ويحاولون تعديل تلك التي لا تناسبهم.
“معايير البندقية” التي تجعل من الصعب إغلاق الأحزاب هي الورقة الرابحة الأولى في يد “حزب العدالة والتنمية”، لكن الحزب يتجاهل المعيار الذي ينتقد عتبة العشرة في المئة في الانتخابات الوطنية!
اعتراضي هو أن “حزب العدالة والتنمية” بعيد عن الديموقراطية تماماً مثل النخبة العسكرية-البيروقراطية التي يحاول هزمها. لكنّني أحاول أن أفهم “حزب العدالة والتنمية”.
هكذا يدور الصراع على السلطة! لا توافق في الحرب. ليس التوافق مطروحاً إلا إذا سُوِّيت التوازنات بعد الحرب. لن يكون هناك توافق في تركيا قبل وقت طويل، لأن الطرفَين ليسا جاهزَين لقبول حصصهما الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
يحاول طرف حماية ما يملكه بينما يحاول الطرف الآخر الحصول على كل ما حُرِم منه.
بالتأكيد لا أعتقد أن التصويت الشعبي سيكون ضد رزمة التعديلات الدستورية. لن يكون التصويت على “البنود” بل على مَن يصطفّ إلى جانب من في هذا الصراع على السلطة!
أظن أن نسبة التصويت بـ”نعم” ستكون أعلى من نسب التأييد الحالية لـ”حزب العدالة والتنمية”.
(كاتب عمود خاص في صحيفة “حرييت” التركية – الترجمة لنسرين ناضر)
النهار