اليوم أزمة المثقف السوري
حسين عيسو
يقول هنري مورغنتاو * في كتابه (قتل أمة): “….لقد بقي التركي نفس الإنسان الذي خرج من سهوب آسيا في القرون الوسطى وبعد خمسمائة عام من احتكاكه بالحضارة الأوروبية لم يتغير”!!!!!.
لم يجانب السيد مورغنتاو الحقيقة في تلك المرحلة التي كانت علاقة الانسان التركي بالآخر علاقة وجود أو نفي , فاحتكاكه ليس مع الأوربيين فحسب بل مع كل الآخرين كانت حروبا وكان وجود أحدهما يعني نفي الآخر , وكل ما كان يفعله ليس فهم الآخر , والتعامل معه حضاريا , بل كان فرض ما يريده عليه أو إنهاءه من الوجود , لكن حين تواصل الانسان التركي مع العالم الخارجي والأوربي حضاريا , خاصة بعد الحرب العالمية الثانية واستفاد مما وصل اليه العقل الغربي الخلاق من تطور وحضارة , وتوصل الى نتيجة مفادها أن العلاقة بين الأنا والآخر ليست بالتأكيد علاقة وجود أو نفي بل هي علاقة تفاهم وتكامل حضاري وثقافي , لذا لم تعد مقولة مورغنتاو معقولة اليوم .
فذلك الانسان الذي يقول عنه مورغنتاو في مكان آخر :”يجب علينا أن نفهم أولا أن الحقيقة الأساسية في العقلية التركية هي الاحتقار المطلق لجميع الأعراق البشرية الأخرى….. إن الغرور المشوب بالخبل هو العنصر الذي يبين بشكل شبه كامل نفسية هذا الجنس البشري الغريب …..”
نجد أن تلك النظرة للآخر قد اختلفت , فهو يخجل بل يدين المقولة العنصرية التي راجت لفترة في تركيا , وهي مقولة أتاتورك ” ما أسعد أن يكون الانسان تركياً” لما فيها من شوفينية وتعال على الآخر , وهو يطالب اليوم بالاعتراف بالمذابح ضد الأرمن , والمساواة مع الكرد , وحتى البرلمان التركي عقد أول جلسة له بتاريخ 10 نوفمبر 2009 لمناقشة مشروع الانفتاح على القضية الكردية , بعد أكثر من ثمانين عاما على محاولة إنكار وجود هكذا قضية !.
يقول الكاتب التركي أحمد آلتان :
“ان سبب خروج القضية الكردية الى الوجود هو إنكار الاتراك وجود الكرد كشعب.
ولأن الكرد لم يقتنعوا”بعدم وجودهم” وإصرارهم على التمسك بهويتهم , جوبهوا بالظلم والقهر والتعذيب.
جزء لا يستهان به من المتنفذين في الدولة باتوا يدركون عدم جدوى تلك الأساليب في حل القضية الكردية.
مع ذلك لا ينجحون في إيجاد حل ما.
الحل ببساطة يكمن في معرفة”الخطأ” الذي أدى الى ظهور هذه القضية وبالتالي تصحيح ذلك الخطأ أو إزالته تماماً…..إذا لم تحصل المساواة بين الترك والكرد , لا يمكن لتركيا أن تحصل على”المساواة” بينها وبين العالم المتحضر , وستبقى دولة فقيرة وعاجزة وهامشية.
لو أخذ البعض على عاتقه مهمة شرح القضية بنزاهة ووضع الحقائق أمام الشعب التركي , سوف يبدي الأتراك تفهماً وقبولاً لحل”المساواة”.
علينا الكف عن ترديد مقولة “الكرد أخوة لنا” بل التأقلم مع تعبير”الكرد متساوون معنا”.
الكرد لا يريدون”الأخوة” بل يريدون” المساواة”.
الأخوة لا تأتي بالمساواة,بينما المساواة تؤدي الى الأخوة” .
ردا على سؤال للصحفي جنكيز جاندار حول المسألة الكردية، يقول الرئيس التركي غول “لا شك توجد للدولة أخطاء حول تعاطيها مع المسألة الكردية، ولا يوجد مبرر للتغطية على هذه الأخطاء … الجميع عناصر أساسيين في هذه الدولة وشاركوا في تأسيسها ….وأقصد , يجب ألا يشعر أي مواطن بأنه غريب في موطنه الأصلي، ومن الضروري أن نقوم بدراسة كل هذه الحقائق بجرأة وشجاعة لإيجاد الحلول الواقعية لهم .
ويقول اردوغان: “هناك عملية تزاوج وتقارب بين الكورد والترك والبوشناق وهكذا فإن تركيا متكونة من هذه العوائل وهل توجد أية مشكلة في ذلك، والكل يتعايشون في جو من الراحة والامان، إذاً فإن التنوع الاثني لايشكل عبئاً بل على العكس يعتبر ثروة ……والكثيرون يتحدثون عن الهوية الاثنية، إن هذه الهوية يكتسبها الفرد أثناء الولادة ومن المستحيل ان تفرض عليه هوية اخرى فيما بعد، لذا على الجميع أن يحترموا هذه الهوية الاثنية (القومية)” .
فالمثقف التركي كان أوعى من أن يربطه الموروث عند نقطة محددة وذكاؤه الفطري جعله يتحول الى الإسلام مصلحيا , حين وصل الى هذه المنطقة منذ حوالي السبعة قرون , وأدرك أن هذا الدين يخدمه في سبيل فتوحاته , لكن في القرن العشرين رفض أتاتورك أن يعيش في الماضي ورد المسلمين من الهند ومصر حين طالبوه أن يكون خليفة المسلمين رفض ذلك لأنه رأى أن الاسلام أصبح جزأ من التاريخ , حسب رأيه , وبعد أن استفاد منه فيما مضى , تركه ليتجه الى حيث العلم والمعارف , الى أوربا , لذلك ورغم أنه كان من أِلد أعداء القوميات التي تعيش تحت النير التركي وخاصة الكرد , أقول أنه استحق فعلا لقب أبي الأتراك “أتاتورك” فهو الذي أسس للدولة التركية التي يعتبر حزب العدالة والتنمية احدى نتائج تلك المرحلة , وتغيير عقلية الانسان التركي من مجرد محارب شرس همه القضاء على الآخر وإذلاله , الى انسان يتعامل مع الآخر بعقل منفتح .
يتحدث جواهرلال نهرو ** عن سوريا وشعبها في رسائل الى ابنته أنديرا فيقول : في عام 1928 اضطرت الحكومة الفرنسية استجابة لمطالب الوطنيين السوريين الى اجراء انتخابات تشريعية لوضع دستور للبلاد , ولكنها حاولت في نفس الوقت بذر الشقاق بينهم , فأنشأت دوائر خاصة بكل فئة دينية أو مذهبية , وحدثت مشكلة طريفة فزعيم الوطنيين مسيحي بروتستانتي , لايحق له الترشح في أي من تلك الدوائر , حسب , فرز سلطة الاحتلال , مع أنه من أكثر الوطنيين شعبية , لذا عرض المسلمون أن يتنازلوا عن أحد مقاعدهم له …..وبرغم تدخلات سلطة الاحتلال , فاز الوطنيون بأغلبية مقاعد الجمعية التشريعية , ووضعوا دستورا ينص على أن سوريا جمهورية تستمد سلطاتها من الشعب !,
اما اليوم فنجد المثقف السوري “العربي” قد عاد الى الوراء ليعلق بشبكة المورث الذي لم يستطع الفكاك منه بعد , فالفكر القومي – الديني لديه أصبح الطاغي على كل تصرفاته الا نادرا , وما زال التعالي يحكم أغلب تصرفاته , وينظر للآخر كعدو لأناه , ولا يمكن لهما الحياة معا , فوجود أحدهما ينفي الآخر , واذا تنازل قليلا وقبل به , فعلى أساس أنه أقلية وعليه قبول ما يقدم له كمنَّة , عدا عن كونه متهما حتى تثبت براءته .
منذا أيام قرأت مقالة لكاتب سوري “عربي” , بعنوان علاقة البارزاني مع اسرائيل , كعنوان لكنه حين دخل في الموضوع تكلم عن علاقة الكرد جميعا باسرائيل منذ ما قبل تأسيس الدولة العبرية أي أنه مادام هناك زعيم كردي أسس علاقات مع الدولة العبرية فالأكراد كلهم مشمولون بتلك العلاقة , مع أن الكاتب الكريم لم يتطرق الى علاقات اليهود مع الشريف فيصل بن الحسين قائد الثورة العربية الكبرى وهي تعود الى فترة وعد بلفور أو قبلها واذا كان التعميم واجبا فكان عليه تعميمها بالنسبة للعرب أيضا .
فالإنسان السوري الذي كان في المقدمة حضاريا , مقارنة بالانسان التركي حتى حين كانت سوريا محتلة من قبل تركيا , نراه اليوم وبعد القطيعة الحضارية مع الغرب منذ أكثر من نصف قرن , بسبب تحكم العسكر وسلطات الاستبداد التي قامت بنشر ثقافة الاستنفار والارتياب حيال الآخر وعدم الثقة بالمختلف , والتوجس الدائم من المؤامرات الداخلية والخارجية , ما دفع بالإنسان السوري الى أن يصبح مشلول الإرادة , ويتحول الى مجرد انسان لا مبال , همه تأمين رزقه اليومي ومن بعده الطوفان , لذا نراه وقد أصبح اليوم في المؤخرة وما زالت معاناته مع الموروث مكانها , لابل كثيرا ما يستذكرها بحنين , ويعود الى تاريخ , كتبه شعراء السلطان بشوق متمنيا عودته , لا إصلاحه مما لحقه من الشوائب المضافة , لقراءته بموضوعية كي تستفيد منه الأجيال القادمة , كما فعل العديد من المثقفين في مصر والعديد من بلدان المنطقة .
أما بالنسبة الى المثقف السوري (الكردي) فأرى أن معاناته مزدوجة فهو إضافة الى معاناته من اضطهاد سلطة الاستبداد كما باقي السوريين فهو يعاني من اضطهاد اضافي هي سلطة بعض الأحزاب الكردية وأزلامها , اذا كتب الحقائق مرة , لوحق بعشرات الأقلام المأجورة تحاربه وبدلا من أن يستمر في كتابة رأيه نراه منشغلا بالرد على تلك الأقلام , فهو يعاني من اضطهاد مزدوج والمشكلة الأكبر هو أن هذه الأحزاب نفسها ما زالت لم تحدد أو تعرف ماذا تريد , وهنا المصيبة الكبرى , “بانتظار نجاح مسيرة المجلس السياسي” , لذا نرى الانسان الكردي اليوم مهمته انتظار تلقي الضربة ثم الرد , فحين يضع المثقف العربي “سورياً” خارطة الوطن العربي من المحيط الى الخليج وبعضهم مازال يتحسر على الفردوس المفقود “اسبانيا” وشمالا تتجه الى ما وراء جبال طوروس وجنوبا الى الصومال , في المقابل نجد الكردي “سوريا” أيضا يضع خارطته التي تصل بين البحر المتوسط والخليج العربي وهكذا هنالك فعل وردة فعل لا أحد يدري الى أين توصلنا جميعا .
في محاضرة في المركز الثقافي بالحسكة منذ فترة , تحدث المحاضر عن التطبيع بين البلدان العربية , فرد عليه أحد الأخوة العرب , يا دكتور نحن بحاجة أولا الى التطبيع داخل كل محافظة سورية وبعدها نحتاج الى التطبيع سورياً .
*هنري مورغنتاو سفير أميريكا في تركيا بين عامي 1913-1916 من كتابه “قتل أمة” كتبها بعد أن أحيل للتقاعد كما هي عادة المسئولين في الغرب .
** كتاب “لمحات من تاريخ العالم” ل جواهر لال نهرو
14/05/2010
خاص – صفحات سورية